الحرب الباردة التي تتجه للتصعيد حالياً بين بكين وواشنطن ربما تفرض على السعودية الاختيار بين تقوية علاقاتها المتنامية مع الصين أو الارتماء أكثر في أحضان حليفها التقليدي الولايات المتحدة رغم التوتر الحاصل بينهما، والسؤال الآن: هل يمكن للرياض المحافظة على علاقاتها مع العملاقين المتصارعين؟
ترامب يريد بناء تحالف ضد الصين
الواقع أن السؤال هنا ليس افتراضياً بل هو مطروح منذ فترة والآن أصبح أكثر إلحاحاً مع التصعيد المستمر بين بكين وواشنطن بسبب جائحة كورونا، وقبل أيام قليلة نشرت شبكة CNN تقريراً بعنوان "إدارة ترامب تحاول تجييش الحلفاء الأجانب للانضمام لها في الضغط على الصين بشأن الاستجابة لفيروس كورونا"، ألقى الضوء على الاتصالات المكثفة التي يجريها ترامب مع الحلفاء لاستطلاع موقفهم من القصة.
في الأسابيع الأخيرة قام ترامب وكبار المسؤولين في إدارته مثل وزير الخارجية مايك بومبيو والمستشار الاقتصادي للبيت الأبيض لاري كودلو بمحادثات مع العشرات من الحلفاء الأجانب لمناقشة التحرك بشكل جماعي لما يصفه البيت الأبيض بأنه "جهد متعمد من جانب الصين" لإخفاء تفشي الوباء، بحسب مصادر تحدثت للشبكة الأمريكية.
المصادر قالت إن ترامب نفسه كثف من اتصالاته الهاتفية مع نظرائه الأجانب خلال الأسابيع الثلاثة الماضية وفتح قضية الصين مع عدد من الزعماء الأجانب، وبحسب المصادر فإن عدداً من الحلفاء التقليديين لإدارة ترامب عبروا عن قلقهم من التصعيد ورفع مستوى التوتر مع الصين.
وعلى رأس قائمة المتحمسين لسياسة التصعيد والمواجهة مع الصين يأتي جاريد كوشنر، صهر ترامب ومستشاره الأول، وإذا أخذنا في الاعتبار العلاقة الخاصة التي تربط كوشنر بولي عهد السعودية، فعلى الأرجح تم بالفعل مناقشة موقف السعودية من التحضيرات الجارية للتصعيد في الحرب الباردة المشتعلة بالفعل بين الجانبين.
ما طبيعة العلاقات بين بكين والرياض؟
في ظل المعطيات الحالية التي تمر بها السياسة الدولية والعلاقات بفعل جائحة كورونا والكساد الاقتصادي والانتخابات الأمريكية التي يخوضها ترامب المعروف بقراراته الانفعالية والتحولات الدرامية في علاقاته بالدول الأخرى، تتسم الساحة الجيوسياسية في العالم بالسيولة الشديدة، وإذا أضفنا لذلك طبيعة شخصية ولي العهد السعودي المندفعة التي تصل لحد التهور في كثير من الأحيان، تصبح الأمور مفتوحة على جميع السيناريوهات.
وقبل الخوض فيما يمكن أن يحدث نتوقف أمام العلاقات بين الصين والسعودية، فنجد أنها شهدت قفزات هائلة مؤخراً، وخصوصاً مع وصول ولي العهد لمنصبه، وتجلت في زيارته للصين مطلع العام الماضي والظروف التي صاحبتها وما نتج عنها من اتفاقيات تجارية وعسكرية بمئات المليارات من الدولارات.
وبحلول مايو/أيار من العام الماضي، أي قبل عام بالتحديد، ارتفعت صادرات النفط السعودية للصين بنسبة 43%، وأصبحت الرياض المورد النفطي الأكبر للصين، واستمرت تلك الزيادة المطردة حتى الآن لتصبح الصين السوق الرئيسي للنفط السعودي وتحل محل الولايات المتحدة التي وصلت للاكتفاء الذاتي وأصبحت من كبار مصدري النفط عالمياً أيضاً.
والآن تعد السعودية أكبر شريك تجاري للصين في منطقة الشرق الأوسط، كما تحتل الصين المرتبة الأولى من بين أكبر 10 دول مستوردة من السعودية، وتمثل نسبة ما تستورده الصين من السعودية 12.1% من إجمالي صادرات المملكة لدول العالم، وذلك بحسب أرقام العام الماضي 2019، وأظهرت بيانات صادرة عن المصلحة العامة للجمارك الصينية في أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي أن حجم التجارة بين البلدين وصل إلى 50.7 مليار دولار خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى أغسطس/آب 2019، بزيادة 28.8% على أساس سنوي.
تعاون عسكري استراتيجي
وعلى المستوى العسكري نجد أن العلاقات تطورت بصورة كبيرة منذ 2014، لكنها شهدت نقلة نوعية كبرى أيضاً مع تولي الأمير محمد بن سلمان مقاليد الأمور في المملكة، حيث وضع التصنيع العسكري المحلي هدفاً ضمن أهداف رؤيته 2030 وكانت بكين في الانتظار واغتنمت الفرصة.
ففي سبتمبر/أيلول 2014 قامت السعودية بشراء صواريخ باليستية من الصين من طراز CSS-5s للدفاع عن مكة والمدينة، بحسب الدكتور أنور عشقي وهو لواء متقاعد كان يعمل في القوات المسلحة السعودية، ومنذ ذلك الوقت طورت السعودية برنامجها للصواريخ الباليستية بصورة ملحوظة بمساعدة الصين، بحسب تقارير مخابراتية أمريكية.
لكن العلاقات العسكرية ارتقت لمستوى آخر مع ولي العهد، حيث إن الطائرات العسكرية بدون طيار من طراز PLZ-45 وكيج وينغ لونغ صينية الصنع أصبحت أكثر ما تستخدمه الرياض في حربها في اليمن لاستهداف الحوثيين، ومنحت الصين رخصة تصنيع مسيرات كاسك-رينبو الصينية محلياً منذ عام 2017، في مقابل رفض واشنطن تزويد السعودية بأي من طائراتها المسيّرة بسبب تعقيدات السياسة الأمريكية وتدخلات الكونغرس.
وفي العام الماضي، أصبح التعاون العسكري بين الرياض وبكين في مستوى آخر تماماً بعد أن أجرى الجانبان لأول مرة في التاريخ تدريبات بحرية مشتركة. الطموحات النووية لولي العهد السعودي أيضاً تمثل فرصة للصين التي وقعت على الأقل اتفاقاً نووياً واحداً يسمح للسعودية بالبدء في إنشاء مفاعل نووي واحد على الأقل، حيث إن بكين ليست لديها الاعتبارات القانونية والسياسية التي تواجه الإدارة الأمريكية، وهذه نقطة هامة للغاية إذا ما اضطرت السعودية بالفعل للاختيار بين بكين أو واشنطن حال ساءت الأمور بينهما وعادت السياسة الدولية لأجواء القطبين أو المعسكرين كما كان الحال أيام الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
علاقات استراتيجية مع واشنطن
على الرغم من أن العلاقات الأمريكية – السعودية تمتد لأكثر من 75 عاماً منذ توقيع الاتفاقية الاستراتيجية بين الرئيس روزفلت والملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود عام 1954 لمدة 60 عاماً وتجديدها لمدة مماثلة عام 2005، إلا أن تلك العلاقات تشهد تباينات عنيفة منذ وصول ترامب للبيت الأبيض وتمر حالياً بتحديات عنيفة لعدة أسباب.
ترامب عقد صفقات أسلحة بمليارات الدولارات مع ولي العهد وكانت الرياض أول عاصمة يزورها بعد توليه منصبه، لكن جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018 داخل قنصلية بلاده في إسطنبول وتوجيه أصابع الاتهام لولي العهد نفسه رغم نفيه إعطاء الأمر لمساعديه بتصفية المعارض بتلك الطريقة البشعة، ألقت الضوء على التحديات الكبيرة التي تمثل عقبة كبيرة في تحقيق طموحات ولي العهد من وراء تحالفه مع البيت الأبيض.
وكان موقع The Diplomat الأمريكي قد نشر تحليلاً بعنوان "الصين والسعودية: الطموحات الدولية لمحمد بن سلمان"، ألقى الضوء على الصعوبات التي تواجه ولي عهد السعودية في تقوية علاقاته مع بكين والاحتفاظ بنفس العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن في ظل الصراع المكتوم بين القوتين الأبرز، وكان ذلك قبل خروج الصراع الأمريكي-الصيني للعلن كما هو حادث حالياً جراء جائحة كورونا.
واحد من الملفات الرئيسية في تحديد مسار العلاقة بين السعودية من جانب وواشنطن أو بكين من جانب آخر هو العلاقات مع طهران؛ الولايات المتحدة وإيران أعداء بينما الصين حليفة رئيسية لطهران، القرار إذن بالنسبة للرياض واضح وهو أن الأفضل استمرار التحالف الاستراتيجي مع واشنطن، لكن أحداث العامين الأخيرين أثبتت أن الأمور ليست بهذه البساطة.
ترامب حليف مفضل لولي العهد، هذه حقيقة، لكن ساكن البيت الأبيض رجل صفقات متقلب ويفضل السياسة الانعزالية والابتعاد عن تعقيدات منطقة الشرق الأوسط، بل لا يعتمد عليه فعلياً وهذا ما أثبته استهداف منشآت أرامكو النفطية منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، فعلى الرغم من توجيهه الاتهام لإيران بشكل مباشر وعلني بالوقوف وراء الهجوم، فإنه لم يقدم على ما كان يتمناه ولي العهد وهو رد الصاع صاعين لإيران.
صحيح أن ترامب استخدم الفيتو لوقف قانون منع بيع الأسلحة للسعودية بسبب حرب اليمن، إلا أن ذلك يصب في مصلحة ترامب نفسه، حيث إن مبيعات الأسلحة للرياض تمثل له ورقة انتخابية وكرر أكثر من مرة دون مواربة أنه على السعودية أن "تدفع مقابل حمايته لها"، وهذه النوعية من الرسائل تمثل "إحراجاً كبيراً" لولي العهد الذي يسعى لتسويق نفسه على أنه أحد قادة العالم.
تبعات مقتل خاشقجي
من المهم هنا التوقف عند زيارة ولي العهد للصين في فبراير /شباط العام الماضي والتي جاءت في توقيت لافت، حيث كان وقتها الحاكم الفعلي للمملكة منبوذاً إلى حد كبير من جانب قادة العالم الغربي بعد الغضب العارم الذي اجتاح غالبية دول العالم نتيجة لاغتيال خاشقجي، لذلك جاءت زيارته للهند وباكستان والصين بمثابة طوق النجاة إذ أراد تصوير نفسه على أنه ما زال يحظى بالاحترام دولياً، وهي الرسالة التي أراد التركيز عليها في الداخل.
ومنذ تلك الزيارة، احتلت الصين مكانة بارزة في السعودية، وقال محللون إن ولي العهد يأمل في أن تكون الصين جزءاً هاماً من مشروعه "رؤية السعودية 2030″، وقالت رابية ياسمين، كبيرة المحللين الدوليين في "يورومونيتور"، لشبكة CNN، إن زيارة الأمير محمد لآسيا مهمة لنجاح خطته "رؤية 2030″، متوقعة أن تحقق الزيارة نتائج مثمرة على الصعيد الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بمبادرة الحزام والطريق الصينية، وكيف يمكن للحكومة السعودية الاستفادة من المبادرة لرؤيتها 2030.
تبعات جريمة مقتل خاشقجي أبرزت العقبة الرئيسية أمام ولي العهد للاعتماد على نوعية الدعم الذي يريده من ساكن البيت الأبيض وكيف أن ذلك أمر مستحيل، فترامب لا يعبأ كثيراً بملف حقوق الإنسان، وهو لا يخفي إعجابه بالحكام الديكتاتوريين حول العالم، من أمثال الرئيسين الصيني والروسي، لكن الرئيس الأمريكي لا يمتلك سلطة مطلقة، فهناك الكونغرس وجماعات الضغط الحقوقية واعتبارات كثيرة تضع قيوداً عليه.
على الجانب الآخر، لا توجد مثل تلك التعقيدات في الصين، حيث حكم الفرد هو النظام القائم، وهو ما يفعله ولي العهد ويريده لنفسه، ولم ينتظر حتى يصبح ملكاً كي ينفذه على أرض الواقع، بل سعى للتخلص من معارضيه منذ اللحظة الأولى التي تمت فيها مبايعة والده ملكاً للبلاد.
هل توجد عقبات أمام التحالف مع الصين؟
للسعودية وضع خاص بالنسبة للمسلمين حول العالم، كونها مقر الكعبة المشرفة والمسجد الحرام ومسجد نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ظل كون الصين واحدة من الدول التي تمارس قمعاً غير مسبوق تجاه الأقلية المسلمة من سكانها وهم الإيغور، يمكن أن يتصور البعض أن ذلك يمثل عائقاً أمام تحالف استراتيجي بين بكين والرياض، لكن نظرة ولي العهد للأمور مختلفة تماماً.
فقد كانت السعودية واحدة من 36 دولة حول العالم وقّعت على خطاب موجه للأمم المتحدة، يوليو/تموز 2019، يبرئ ساحة الصين من جريمة الاعتقال الجماعي لمسلمي الإيغور في إقليم "شينغيانغ"، بل ويشيد بما وصفته "إنجازات الصين الملحوظة في مجال حقوق الإنسان". الخطاب جاء رداً على دعوة مجلس حقوق الإنسان لبكين لوقف الاحتجاز الجماعي لمسلمي الإيغور وجميع أشكال القمع والتمييز الأخرى ضدهم.
الخلاصة هنا أن ولي العهد يرى في الصين حليفاً استراتيجياً هاماً، ويسعى لتطوير تحالف حقيقي مع بكين، رغم علاقات الصين القديمة والممتدة والعميقة مع إيران، وهو ما كان يمكن أن يعتبره البعض عقبة أخرى رئيسية في وجه التحالف بين بكين والرياض.
وفي كل الأحوال، لم يكن هناك ما يمثل عقبة حقيقية تجاه تطوير علاقات قوية مع الصين وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بالعلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، لولا أن تطورات الأمور في ظل جائحة كورونا ربما تجعل من هذا التوازن أمراً بعيد المنال، خصوصاً أن الصراع الأمريكي-الصيني على زعامة العالم لم يعد أمراً افتراضياً بل هو واقع يتشكل بسرعة الصاروخ وعودة نظام عالمي ثنائي القطبية أصبح السيناريو الأقرب في المستقبل القريب، فأي المعسكرين ستختار السعودية بقيادة ولي العهد؟
صحيح أن العالم ثنائي القطبية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، والذي طفا على سطح السياسة الدولية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شهد ميلاد تكتل عدم الانحياز الذي ضم الدول والزعماء الذين أرادوا عدم الانضمام لأحد المعسكرين، وهو ما يمكن أن تفعله السعودية لتحافظ على علاقتها مع القطبين الصيني والأمريكي، لكن الحقائق القائمة حالياً لا تشير إلى أن ذلك سيكون أمراً سهلاً ولا حتى واقعياً.
يتمتع ولي العهد السعودي بطموحات يرى منتقدوه أنه لا يتمتع بمؤهلات قادرة على تحقيقها، لكن اندفاعه وتهوره يمنعانه من رؤية الأمور بطريقة منطقية، والأدلة على ذلك كثيرة من قرار الحرب في اليمن لاحتجاز رئيس وزراء لبنان السابق سعد الحريري وإجباره على إعلان استقالته من الرياض، وصولاً إلى إشعال حرب أسعار النفط التي أضرت المملكة اقتصادياً وسياسياً في توقيت قاتل، وليس من المنتظر من شخصية كهذه أن تتوخى الحذر ولا تندفع وترتمي في أحضان أحد القطبين قبل الآخرين.
هناك أيضاً حقيقة أن العدو الإقليمي للسعودية – أي إيران – موجودة بالفعل في الجانب الصيني، أو بالأحرى معادية للولايات المتحدة، وهو ما يعني أن ولي العهد سيفضل ألا يقف على الحياد، وعليه أن يختار أحد المعسكرين، لكن مواصلة الانحياز للجانب الأمريكي لن تكون قراراً سهلاً للاعتبارات السالف ذكرها، ومن ثم تظل الأمور مفتوحة على جميع السيناريوهات.