تصعيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد الصين بسبب وباء كورونا، له أسباب انتخابية داخلية لا تخفى على أحد، لكن كيف ترى بكين نفسها على خريطة العالم؟ يعتبر سؤالاً مهماً في هذا التوقيت، والإجابة تتضح أكثر ليس فقط من خلال الأفعال ولكن أيضاً من خلال الرسائل الإعلامية التي لم تعد مستترة، فما قصة الردع النووي؟
افتتاحية صحفية كاشفة
الحزب الشيوعي الحاكم يسيطر على الإعلام في الصين بصورة صارمة، وتعتبر صحيفة "غلوبال تايمز" الناطق شبه الرسمي باسم الحزب وقيادته السياسية، ومنذ بداية التصعيد الأمريكي ضد التنين بسبب جائحة كورونا التي ضربت الولايات المتحدة في مقتل، ليس فقط من ناحية حصد الأرواح وعدد الإصابات الهائل ولكن أيضاً من الناحية الاقتصادية- اتخذت الصحيفة الصينية لغة مغايرة تماماً عما اعتادته السياسة الخارجية الصينية قبل الجائحة.
السخرية والاستهزاء بتهديدات ترامب ووزير خارجيته بمعاقبة الصين، كانت اللهجة الأبرز التي انتهجتها افتتاحيات صحيفة "غلوبال تايمز"، التي تعبِّر عن كواليس المناقشات داخل قيادة الحزب الشيوعي بزعامة الرئيس شي بينغ جينغ، لكن اللهجة تغيرت إلى لهجة تهديد لا يمكن وصفها بالمبطنة.
تحت عنوان "لحماية الأمن القومي، حان الوقت للصين أن تطور الرادع النووي"، جاءت افتتاحية الصحيفة السبت 9 مايو/أيار، كتبها رئيس تحرير الصحيفة "هو شين"، وبدأها بالقول: "لقد اقترحت في بوست على ويبو (المقابل الصيني لمنصة التواصل الاجتماعي تويتر) الجمعة 8 مايو/أيار، أنه يجب على الصين أن تزيد من رؤوسها النووية التي تبلغ الآن ألف رأس نووي، وذلك في فترة قصيرة نسبياً، وأن تنتج على الأقل 100 صاروخ نووي استراتيجي".
سبق ذلك افتتاحية أخرى يوم الجمعة 8 مايو/أيار، تحت عنوان "الصين تحتاج الاستعداد للاستفزازات الأمريكية المستمرة"، جاءت بتوقيع هيئة تحرير الصحيفة، وبدأت بالقول: "أعلن نائب الأقلية في مجلس النواب الأمريكي الخميس 7 مايو/أيار، عن تأسيس (خلية أزمة الصين)، بقيادة الجمهوريين، بهدف مواجهة التهديد الجيوسياسي المزعوم من جانب بكين. لقد أصبح العداء المتنامي للصين وإلقاء اللوم عليها بسبب الاستجابة الفاشلة لإدارة ترامب بشأن وباء كورونا، يمثلان جوهر استراتيجية الحملة الانتخابية للحزب الجمهوري، ولم يشارك أي من الديمقراطيين في خلية الأزمة".
ليست تهديدات مرسلة
الحديث عن الردع النووي ربما يكون المرة الأولى على الإطلاق من جانب الصين، التي انتهجت طوال العقود الماضية سياسة خارجية تتسم بالانعزال وعدم الدخول في سجالات مع أي من الدول الكبرى، لكن جائحة كورونا وردَّ فعل بكين على محاولات الولايات المتحدة وبعض حلفائها إلقاء اللوم على الصين، يبدو أنهما قد جعلا التنين يقرر أن الوقت قد حان لكسر الهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية، خصوصاً أن بكين لا تنقصها المقومات.
وفي هذا السياق، يمكن أيضاً قراءة التباهي النادر للصين بالمدمرة 055 والكشف عن خصائصها القتالية التي تضعها في مصاف الأكبر والأبرز من نوعها في العالم، وهو ما يعني أن التفوق العسكري الأمريكي لم يعد كاسحاً ولا مُقلقاً لبكين كما كان من قبل.
وبحسب افتتاحية "غلوبال تايمز"، "في الماضي، كنا نعتقد أن ما تخزِّنه الصين من أسلحة نووية يعتبر كافياً كرادع نووي، ولكن هذا لا يعني أن المخزون نفسه سيكون كبيراً بما يكفي في المستقبل لكبح جماح الطموحات الاستراتيجية الأمريكية و(اندفاع البلطجة) تجاه الصين، حيث إنه في الماضي لم يكن أحد يعتبر الصين منافساً استراتيجياً ذا شأن لواشنطن من وجهة النظر الأمريكية، فقد كانت الصين وقتها مجرد دولة فقيرة تنتمي إلى دول العالم الثاني".
أما اليوم فإن واشنطن قررت أن الصين أكبر منافس استراتيجي للولايات المتحدة، وعلى الأرجح ستبذل كل ما في وسعها لاحتواء الصين وردعها، وربما حتى تقْدم الإدارة الأمريكية على اتخاذ مخاطر مشابهة لتلك التي أدت إلى اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية، وهو ما يجعل الصين في حاجة لرادع نووي مختلف من حيث الحجم عما كان عليه الوضع في الماضي، بحسب رؤية القيادة الصينية الحالية.
حالياً تمتلك الولايات المتحدة وروسيا العدد الأكبر من الرؤوس النووية عالمياً بأكثر من 1600 رأس نووي لدى كل منهما، في حين تمتلك الصين نحو 290 رأساً نووياً فقط، علماً بأن العالم لم يشهد أي هجوم بالسلاح النووي منذ ضرب واشنطن ناغازاكي وهيروشيما اليابانيتين بالقنابل الذرية في أثناء الحرب العالمية الثانية.
سيناريوهات المواجهة الأقرب بين الولايات المتحدة والصين، على الأرجح ستكون في خليج تايوان أو بحر الصين الجنوبي، وبحسب افتتاحية "غلوبال تايمز"، فإنه مع إطلاق أول رصاصة ستبرز فوراً المقارنة بين القوة النووية لدى الطرفين، وفي النهاية سيكون السلاح النووي هو الحاسم في قرار الانسحاب أو التراجع لدى كل طرف.
وعلى الرغم من أن الساحتين -خليج تايوان وبحر الصين الجنوبي- لا تمثلان الأهمية الاستراتيجية نفسها للطرفين، فهما ملعب أساسي لبكين، في حين تمثلان مصالح فرعية لواشنطن- فإن تقدير القيادة الصينية هو أنه في حال قررت الولايات المتحدة تحجيم الصين وهزيمتها بغرض الحفاظ على الهيمنة الأمريكية عالمياً، لابد للصين من أن تبدأ فوراً في ردم الهوة النووية مع الولايات المتحدة: "انظروا إلى كل تلك التصريحات المجنونة التي تصدر عن كبار المسؤولين الأمريكيين في العامين الماضيين، وانظروا كيف تتحرك واشنطن بصورة عدوانية؛ بل حتى هستيرية بغرض احتواء الصين".
رسائل داخلية وخارجية
الحديث عن الردع النووي الصيني يمكن قراءته في صورة رسائل متعددة إلى أكثر من طرف: الرسالة الأبرز بالطبع موجَّهة إلى إدارة ترامب بصورة خاصة والولايات المتحدة بصورة عامة، والرسالة الأخرى موجَّهة إلى الداخل الصيني نفسه وهي تستحق التوقف، حيث إنها تكشف جانباً من كواليس النقاش.
من الواضح أن استراتيجية السياسة الخارجية الصينية والتحول الراديكالي الذي يريده الرئيس شي لا يزالان يلقيان ولو معارضة صامتة من البعض، ويتضح هذا من قول رئيس تحرير "غلوبال تايمز"، إن "الخبراء الصينيين الذين يزعمون أن الصين ليست بحاجة لمخزون أكبر من الأسلحة النووية، يجب أن يأخذوا في الاعتبار أنه منذ وصول ترامب للبيت الأبيض، كل دولة تعتبرها واشنطن هدفاً زادت من استثماراتها في المجال النووي، بل إن الولايات المتحدة نفسها تستعد بصورة متزايدة، فكيف يمكن أن تأخذ الصين مقعد المتفرج ولا تفعل شيئاً على الإطلاق؟!".
الطرف الثالث الذي يبدو أن هناك رسالة موجهة إليه هو بقية دول العالم، حيث يقول صاحب الافتتاحية: "أنا لست داعية حرب ولكنني مُحب جداً للسلام، وأعارض بشدةٍ الحربين النووية والتقليدية على السواء، ولكن السلام ليس أمراً تتسوله الدول، والجميع يعلم أنه لا يجب أبداً استخدام السلاح النووي على أرض الواقع، لكن الترسانة النووية ليست فقط سلاحاً عسكرياً؛ بل هي محور السياسة الأمريكية ومحركها النفسي"، ويضيف: "الصين ملتزمة بألا تكون أول من يطلق هجوماً نووياً، ولن تهدد أبداً باستخدام سلاحها النووي ضد دولة غير نووية، لكنَّ ضعف الرادع النووي لدى الصين إضعاف للمصالح القومية والأمن القومي للبلاد".