لا صوت يعلو على صوت بقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في منصبه مدة رئاسية أخرى، لكن توقيت تركيز ترامب على الانتخابات المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني، في خضم معركة الوباء المستعرة، أثار المزيد من الانتقادات، فماذا فعل ترامب بالتحديد؟
حل خلية الأزمة
أعلن البيت الأبيض أمس الثلاثاء 5 مايو/ أيار أنه يعتزم حل خلية الأزمة التي تتولى إدارة أزمة فيروس كورونا، وذلك في إشارة أخرى على أن ترامب لم يعد يعتبر وباء كوفيد-19 أولوية يومية قصوى، كما استغل الرئيس زيارته الأولى خارج واشنطن منذ شهرين إلى مصنع للكمامات في أريزونا، لمغازلة الناخبين بشكل مباشر.
ورغم أن ترامب أقرّ بأنّ بعض الناس "سيتأثرون بشدة" من قرار حل خلية الأزمة، فإنه قال "لا يمكننا إبقاء بلدنا مغلقاً للسنوات الخمس المقبلة"، ولاحقاً قال ترامب في مقابلة مع شبكة "إيه بي سي نيوز" رداً على سؤال عما إذا كان يعتبر أن "إعادة فتح الاقتصاد ستكلف أرواحاً": إنه "من الممكن أن يحصل هذا الأمر لأننا لن نكون معزولين في منازلنا".
وقال نائب الرئيس مايك بنس إن خلية الأزمة -التي يرأسها- لن نكون في حاجة إليها لفترة أبعد من نهاية هذا الشهر، وأضاف: "أعتقد أننا بدأنا النظر إلى موعد يوم الذكرى (25 مايو/أيار لتكريم الجنود الذين قتلوا في سبيل الولايات المتحدة)، أو بداية شهر يونيو/حزيران".
ترامب شكّل خلية الأزمة لقيادة العملية المعقدة للاستجابة للفيروس سريع الانتشار، الذي قتل أكثر من 72 ألف أمريكي وأصاب أكثر من مليون و238 ألفاً، ولا تزال حصيلة الوفيات اليومية في ارتفاع حيث تتخطى أكثر من ألفين.
الخلية التي يرأسها بنس وترفع تقاريرها إلى ترامب تقوم بالتنسيق بين المعاهد الطبية والمسؤولين السياسيين وحكام الولايات، الذين قضى بعضهم أسابيع في محاولات حثيثة لمساعدة المستشفيات المكتظة بالمصابين بالفيروس، وطلبت الخلية أيضاً من خبراء طبيين صياغة التوصيات بشأن التباعد الاجتماعي، وقال بنس إن هذه المهمات ستكون جاهزة قريباً لتسليمها إلى الوكالات الحكومية التي تعمل "بطريقة أكثر تقليدية".
التركيز على الاقتصاد
خفض حالة الطوارئ المباشرة بخصوص الوباء يتسق مع محاولات ترامب المتكررة لإعادة فتح الاقتصاد، دون الالتفات لمنتقديه الذين يرون أن الوضع الصحي لا يزال غير آمن، وأن حرص الرئيس على سرعة إنعاش الاقتصاد المنكوب غرضه تسخير ذلك في معركة إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية.
وفي هذا السياق، نجد أن الإشارات الصادرة من البيت الأبيض هي الأكثر وضوحاً حتى الآن بشأن التحول من إدارة معركة الوباء، الذي لا يبدو أن هناك طريقة لهزيمته، إلى معركة فتح الاقتصاد قبل ستة أشهر فقط من إقامة الانتخابات الرئاسية، التي يواجه فيها ترامب منافسه الديمقراطي جو بايدن، بغرض الفوز بفترة ثانية.
وكما كان متوقعاً، أثار الحديث عن حل خلية الأزمة تساؤلات بشأن إعادة إدارة ترامب ترتيب أولوياتها في هذا التوقيت، في ظل المؤشرات التي تؤكد أن معركة الوباء على الأرجح ستظل مستمرة لما بعد الانتخابات، وأوضح ترامب أنه سيقوم بإعادة تشكيل خلية أخرى، مهمتها إدارة فتح الاقتصاد على ما يبدو.
ورداً على سؤال من جيم أكوستا، مراسل CNN في البيت الأبيض، قال ترامب: "إننا ننظر الآن للأمور بشكل مختلف قليلاً، والشكل الجديد هو السلامة والفتح (فتح الاقتصاد)، وعلى الأرجح، سوف تكون لدينا مجموعة مختلفة لهذا الغرض (خلية أزمة مختلفة)".
اغسلوا أيديكم!
ولم يعارض ترامب فكرة أن التوجه لإعادة فتح الاقتصاد بصورة مبكرة على الأرجح ستؤدي لمزيد من ضحايا الوباء، بحسب رأي خبراء الأوبئة، وقال في مقابلة له مع قناة ABC News رداً على سؤال في نفس السياق: "من المحتمل أن تكون هناك وفيات، لأننا لن نكون ملتزمين بالبقاء في المنازل"، مطالباً الأمريكيين بالالتزام بالتباعد الاجتماعي وغسل اليدين، لكنه أصرَّ على رسالته بأن البقاء في المنازل أمر سيئ بالنسبة للشعب.
ترامب قام أمس الثلاثاء أيضاً بأول زيارة له خارج البيت الأبيض منذ شهرين، حيث زار مصنعاً للكمامات في أريزونا، وهي زيارة رمزية بشكل واضح، غلب عليها حديث ترامب عن عودة الاقتصاد، وكان لافتاً أنه لا يرتدي كمامة، رغم أن المصنع والأماكن التي تواجد بها الرئيس بدت مكتظة.
وجاءت تصريحات ترامب في سياق انتخابي أكثر من تركيزه على معركة الوباء، حيث قال "لابد أن نعيد فتح بلدنا، الناس يموتون بسبب الإغلاق أيضاً، فعندما تنظرون لتناول المخدرات تجدون أنه ارتفع، وعندما تنظرون إلى حالات الانتحار… أعني انظروا إلى ما يحدث، الناس تفقد وظائفها، لا بد أن نستعيدها، وهذا ما نفعله".
معركة الوباء تتحملها الصين
قرار ترامب الانسحاب من معركة الوباء الخاسرة كانت له مقدمات في الأيام القليلة الماضية، حيث صعد بشكل لافت من هجومه على الصين، متهماً إياها بالتسبب في تصنيع فيروس كورونا في المعمل، وهي الرسالة نفسها التي كررها وزير خارجيته مايك بومبيو، بالحديث عن "أدلة هائلة" على تورط الصين.
استراتيجية تحميل الصين المسؤولية عن الوباء القاتل لم تعد تكهنات أو تحليلات للخبراء، بل أصبحت سياسة معلنة، وتفيد التقارير والتصريحات سواء من البيت الأبيض أو من المشرعين الجمهوريين، حلفاء ترامب، أنه تجري حالياً دراسة خيارات معاقبة الصين، وهو ما يمكن وصفه باستراتيجية انسحاب ترامب من المعركة الخاسرة ضد الوباء، والبحث عن "كبش فداء" يتحمل اللوم.
الصين بالطبع ليست دولة صغيرة أو ضعيفة، وعلى الأرجح قد تقود تلك الاستراتيجية لمواجهة غير مقصودة بين القوتين الأبرز على الساحة الدولية، لكن هناك مؤشران حاسمان يستبعدان احتمالية الوصول لنقطة الصدام؛ أولهما حرص ترامب حتى الآن على عدم مهاجمة نظيره الصيني بشكل مباشر، والثاني إدراك بكين وغيرها من عواصم العالم أن الأشهر الستة من الآن وحتى يوم الانتخابات تشهد سجالات سياسية كثيرة بين المتنافسين، ليست بالضرورة انعكاساً لما سيفعله الطرف الفائز.
ماذا لو حدثت موجة تفشٍّ أكثر فتكاً؟
نجاح خطة ترامب القائمة على الانسحاب الآن من معركة الوباء والتركيز على الانتخابات يتوقف بالدرجة الأولى على عامل حاسم، وهو ألا تتزامن إعادة فتح الاقتصاد مع تفشي موجة أخرى من وباء كورونا، يتوقع كثير من الخبراء في مجال الفيروسات أن تكون أكثر فتكاً.
هذه الفرضية ليست بعيدة بالطبع عن ترامب وفريق حملته الانتخابية، حيث إن هناك نماذج تم عرضها عليهم تُظهر أن العدد اليومي للوفيات بسبب الوباء على الأرجح سيرتفع إلى ثلاثة آلاف، أي أن التقديرات تقترب من ارتفاع بنسبة الثلث، مع نهاية مايو/أيار الجاري ويونيو/حزيران المقبل، وترامب نفسه لم ينفِ فرضية أن المزيد من الأمريكيين سيفقدون حياتهم بالفعل.
لكن مخاطر عودة موجة تفشٍّ ثانية أكثر فتكاً من الوباء لا تهدد فقط بحصد مزيد من الأرواح، بل تمثل تهديداً أكبر على الاقتصاد الأمريكي نفسه، الذي يسعى ترامب لاستعادة عافيته، وتنخفض بالمقارنة مع سيناريو كهذا أهمية الانتخابات ذاتها والمستقبل السياسي لترامب ومنافسه بايدن.
وفي هذه الظروف يجب أن يخضع قرار إعادة فتح الاقتصاد في ظل المعركة غير المتكافئة مع الفيروس القاتل لنقاش موسع، تشارك فيه جميع الأطراف وتكون الكلمة الأخيرة فيه للعلماء والخبراء في مجالي الصحة والاقتصاد، لكن إدارة ترامب لا تزال تتخذ قراراتها بنفس الطريقة التي تتسم بالاستقطاب الحاد، وهي نفس الطريقة التي اتبعها ترامب في الأسابيع والأشهر التي سبقت انتشار الوباء على الأراضي الأمريكية، أي الإنكار وتجاهل التقارير المخابراتية والعلمية، التي تحذر من خطورة الوباء وبالتالي التأخر في الاستعداد لمواجهته.