خرج الرجل الذي يرتدي سترةً ناسفة من السيارة وتقدّم بهدوء في اتّجاه بوابات مبنى الاستخبارات في مدينة كركوك شمالي العراق. وحين تجاهل صيحات رجال الأمن الذين طالبوه بالتوقّف؛ أطلقوا عليه النار ليُفجِّر نفسه ويجرح ثلاثة من رجال الأمن في الأسبوع الأول من شهر رمضان.
وبعد أيام، أسفر هجومٌ مُنسّق على ثلاثة محاور عن مصرع 10 من مُقاتلي الميليشيات العراقية في محافظة صلاح الدين الشمالية -في عمليةٍ هي الأكثر دموية وتعقيداً منذ عدة أشهر، حسبما ورد في تقرير لوكالة أنباء Associated Press الأمريكية.
كيف يستغل داعش فيروس كورونا للعودة من جديد؟
وتُعَدُّ هذه الهجمات هي الأحدث في انبعاثة الهجمات الجديدة من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بشمالي العراق. وكانت الهجمة الأولى عبارةً عن مهمة انتحارية وقحة لم نشهد مثلها منذ شهور. أما الثانية فكانت من بين أعقد الهجمات التي وقعت منذ هزيمة التنظيم في عام 2017.
وفي سوريا المُجاورة، اشتدّت كثافة هجمات التنظيم على القوات الأمنية وحقول النفط والمواقع المدنية.
والفوضى المُتجدّدة هي علامةٌ على أنّ التنظيم المُتشدّد يستغل انشغال الحكومات بالتصدّي لجائحة فيروس كورونا وما تلاها من فوضى اقتصادية.
ويُضاعف الفيروس المخاوف طويلة الأجل بين خبراء الأمن وخبراء الأمم المتحدة من أنّ التنظيم قد يُخطّط للعودة من جديد إثر إسقاط "خلافته" العام الماضي، بعد أن كانت تضُم ثُلث أراضي العراق وسوريا.
إنه يستفيد من الخلافات بين الأكراد وبغداد والانسحاب الأمريكي
وفي العراق، يستغل المتشدّدون أيضاً الثغرات الأمنية في وقتٍ يشهد نزاعاً إقليمياً مُستمراً وتخفيضاً لأعداد القوات الأمريكية في المنطقة.
وقال قباد طالباني، نائب رئيس حكومة إقليم كردستان شمالي العراق: "هذا يُمثّل تهديداً حقيقياً. إنّهم يحشدون رجالهم ويقتلوننا في الشمال، وسوف يشرعون في ضرب بغداد قريباً". وأردف أنّ داعش ينتفع من "الفجوة" بين القوات الكردية وبين القوات المسلحة العراقية نتيجة الاقتتال السياسي.
وأوردت التقارير الاستخباراتية أنّ عدد مُقاتلي داعش في العراق يتراوح بين 2,500 وثلاثة آلاف مُقاتل بحسب التقديرات.
في سوريا يستهدف قوات قسد
وفي شمالي سوريا، باتت قوات الشرطة التي يُسيطر عليها الأكراد هدفاً واضحاً لهجمات داعش أثناء تنفيذ الدوريات في الشوارع لفرض تدابير مكافحة الفيروس، وفقاً للمتحدّث باسم القوات الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة مرفان قامشلو.
وشنّ مُقاتلو داعش في أواخر مارس/آذار حملةً من الهجمات داخل الأجزاء التي تُسيطر عليها الحكومة في سوريا، بدءاً من محافظة حمص في وسط البلاد ووصولاً إلى دير الزور في أقصى الشرق على الحدود مع العراق.
وقال مسؤولون في الاستخبارات العراقية إنّ نحو 500 مقاتل -بينهم بعض الهاربين من السجن- قد فرّوا مؤخراً من سوريا إلى العراق، مما أسهم في تصعيد العنف هناك.
لقد غير أسلوبه إلى تكتيك أكثر تعقيداً، واستغل تراجع عدد الجيش العراقي
وأوضح ثلاثة من المسؤولين والخبراء العسكريين العراقيين أنّ داعش تحوّل من الترهيب المحلي إلى التركيز على الهجمات الأكثر تعقيداً. إذ كانت العمليات في السابق تُركّز على اغتيال المسؤولين المحليين والهجمات الأقل تعقيداً.
لكن التنظيم شرع الآن في تنفيذ هجمات العبوات الناسفة، وإطلاق النار، ونصب الأكمنة للشرطة والجيش. وتحدّث المسؤولون شريطة عدم الكشف عن هويتهم لأنّهم غير مُخوّلين بالحديث إلى وسائل الإعلام.
ويستفيد المُتشدّدون من عدة عوامل. إذ انخفض مثلاً عدد جنود الجيش العراقي في الخدمة بنسبة 50% نتيجة تدابير الوقاية من الفيروس، بحسب المسؤولين العسكريين.
فضلاً عن أنّ النزاعات على الأراضي بين بغداد وبين سلطات منطقة الحكم الذاتي الكردية الشمالية تركت أجزاءً من ثلاث محافظات بدون قوات لإنفاذ القانون. وتلك الأراضي الوعرة لا يسهل فرض النظام فيها على الإطلاق.
كما تتزامن هذه الزيادة في الهجمات مع انسحاب قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة من قواعد غرب العراق، في محافظات نينوى وكركوك، تماشياً مع الانسحاب المُتوقّع في ديسمبر/كانون الأول.
وقال مسؤولٌ استخباراتي بارز: "قبل ظهور الفيروس والانسحاب الأمريكي، كانت عمليات التنظيم تكاد لا تُذكر، ولا تتجاوز العملية الواحدة في الأسبوع". وقال إنّ القوات الأمنية تشهد الآن 20 عمليةً في المتوسط كل شهر. وتحدّث المسؤول كذلك شريطة عدم الكشف عن هويته لأنّه ليس مُخوّلاً بالحديث إلى وسائل الإعلام.
وقال المُتحدّث باسم التحالف العقيد مايلز بي كاغينز الثالث إنّ هجمات داعش كانت تتزايد رداً على العمليات ضد مخابئهم في الجبال والمناطق الريفية لشمال وسط العراق.
الزعيم الجديد يستخدم الهجمات لتعزيز نفوذه
ويعتقد المسؤولون العسكريون العراقيون أنّ الطبيعة المُحسّنة والمنظمة للهجمات تُعزّز نفوذ زعيم داعش الجديد أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، الذي نُصِّب في أعقاب مقتل سلفه أبو بكر البغدادي خلال مداهمةٍ أمريكية العام الماضي. وقال أحد المسؤولين العسكريين إنّه من المتوقّع تنفيذ المزيد من العمليات خلال شهر رمضان لإثبات قوة الزعيم الجديد.
وفي سوريا، نجد أنّ أبرز الهجمات وقعت في التاسع من أبريل/نيسان حين هجم مقاتلو داعش على المواقع الحكومية داخل وعلى مشارف بلدة السخنة. وطلبت الحكومة التعزيزات من أجل تنفيذ هجومٍ مُضاد مدعوم بالغارات الجوية الروسية.
وأسفر القتال الذي استمر لمدة يومين عن مصرع 32 جندياً و26 من مُسلّحي داعش، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يتتبّع الحرب المُستمرة في البلاد منذ تسع سنوات من مقره في بريطانيا.
وبعد أيام، قالت الحكومة إنّ الوضع الأمني في الصحراء أدّى إلى الإضرار بالعديد من آبار الغاز في حقول الشاعر وحيان، مما أسفر عن انخفاضٍ إنتاج الكهرباء بنسبة 30%.
والثغرات الأمنية توفر له ملاذاً طبيعياً
وبالعودة إلى العراق، تُخفي المراعي الخضراء لقرية كوجالو عدواً خفياً يخطف النوم من أعين نوازاد في المساء. إذ يقع مُجتمعه الزراعي فوق أرضٍ مُتنازع عليها شهدت ارتفاعاً حاداً في أعداد الهجمات، التي شملت كميناً قريباً قتل ضابطين من البيشمركة في وقتٍ مُبكّر من الشهر الجاري.
وقال إنّ بعض السكان المحليين يتعاونون مع المُتشدّدين. وأردف، طالباً عدم ذكر اسم عائلته مخافة الانتقام: "إنّهم يعرفون كل شيء عن كل مزرعة في كوجالو، ويعرفون هوية مالك كل منزل".
كما يحصل المُتشدّدون على المأوى، والإمدادات، والطعام، ووسائل التنقّل من المتعاطفين معهم وسط السكان المحليين، بحسب العقيد الكردي كمال محمود. إذ تتمركّز قواته من البيشمركة فوق جزءٍ من خطوط المواجهة هناك، ولكنّها لا تستطيع التحرّك في المناطق الأخرى التي تُديرها القوات الحكومية -وقال إنّ القوات الأمنية المُنتشرة هناك تُسيطر على الطرق الرئيسية فقط دون وجودٍ فعلي في القرى والبلدات.
وفي الأول من أبريل/نيسان، قُتِلَ شرطي اتحادي وأُصيب قائد كتيبة وعميد خلال عملية أمنية في سلسلة جبال مكحول بديالى. وبعد يومين فقط، استهدف هجومٌ بالعبوات الناسفة دورية قوات خاصة تابعة لقيادة عمليات ديالى على مشارف بلدة معدان.
في حين قال سرتيب، أحد سكان كوجالو، إنّه يخشى تحسّن قدرات المُتشدّدين: "كان تنظيم داعش يُنفّذ الهجمات في المناطق الكردية طوال الوقت، لكنّهم باتوا أكثر تنظيماً الآن ويمتلكون عدداً أكبر من الناس".