شجعت الهزائم التي لحقت بميليشيات حفتر مؤخراً أعيان وثوار مدينة سبها (750 كلم جنوب طرابلس) على المجاهرة برفض تفويض حفتر بحكم ليبيا، فاتحة المجال لإمكانية تحرير حكومة الوفاق للجنوب الليبي من يد حفتر.
فلأول مرة يكسر أعيان وسكان مدينة سبها، جنوب غرب ليبيا، حاجز الخوف، منذ سيطرة ميليشيات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر على مدينتهم (عاصمة إقليم فزان ) في يناير/كانون الثاني 2019، مما يعكس تراخي القبضة الحديدية على المدينة، واحتمال انهيار الميليشيات بالإقليم في أي لحظة.
فالهزائم التي لحقت بميليشيات حفتر في مدن الشريط الساحلي، وبجبهة أبوقرين جنوب شرق مدينة مصراتة (200 كلم شرق طرابلس)، ومؤخراً بمحور مشروع الهضبة جنوبي طرابلس، شجعت أعيان وثوار سبها (750 كلم جنوب طرابلس) على المجاهرة برفض تفويض حفتر بحكم ليبيا.
ورغم أن عميد المجلس البلدي لسبها ظهر مع عدد من أعضاء المجلس في بيان متلفز لتفويض حفتر بحكم البلاد، فإن بيان أعيان وثوار المدينة الرافض لمشروعه العسكري، وإعلانهم تأييد حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، يؤكد أن الوضع مرشح لتغييرات جذرية ليس في سبها وحدها، بل في كامل إقليم فزان.
السراج يشيد بأهل الجنوب
أشاد رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج بمواقف سكان الجنوب الليبي الرافضة للحكم العسكري والعدوان على طرابلس، كما بحث مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مستجدات الوضع بليبيا.
وقال السراج، في كلمة مكتوبة إلى أهالي جنوبي ليبيا، إن عدوان حفتر الغاشم عطّل مشاريع اقتصادية وترتيبات مالية استثنائية لتنمية مناطق الجنوب، مشيداً بمواقفهم الرافضة للحكم العسكري والمتمسكة بالشرعية والدولة المدنية الديمقراطية.
وأعرب السراج عن تفاؤله بقرب هزيمة المشروع الانقلابي والعودة القريبة لمسار التنمية والبناء وترسيخ السلم الاجتماعي بين المكونات الاجتماعية والثقافية والمدن المختلفة.
من جهته، طالب المجلس العسكري في مدينة مُرزُق جنوب غرب ليبيا الدول الداعمة للواء المتقاعد خليفة حفتر بتصحيح أخطائها وعدم الاعتماد على الأشخاص.
وأعلن المجلس، في بيان مصور، رفضه لأي انقلاب عسكري على السلطة الشرعية المتمثلة في حكومة الوفاق الوطني، المنبثقة عن اتفاق الصخيرات السياسي.
سيطرة حفتر على المدن الرئيسية فقط، ومازال هناك وجود لقوات الوفاق
تكاد ميليشيات حفتر لا تسيطر في إقليم فزان سوى على المدن الرئيسية والمطارات والقواعد العسكرية وحقول النفط، إذ أنها لا تنتشر في كامل بلدات الإقليم ومساحاته الصحراوية الشاسعة.
فنقطة الارتكاز الرئيسية لحفتر في فزان، هي قاعدة براك الشاطئ (50 كلم شمال سبها) التي يسيطر عليها مسلحون موالون لنظام معمر القذافي السابق من قبيلة المقارحة منذ 2016، بالإضافة إلى قاعدتي الجفرة (شمال شرق سبها) وتمنهنت (تابعة لسبها) الجويتين، بعد انسحاب القوة الثالثة التابعة لمصراتة منهما في 2017.
وعقب سيطرة حفتر على ثلاث قواعد جوية رئيسية في فزان، أصبح كامل الإقليم ساقطاً عسكرياً في يد ميليشياته رغم وجود قوات محلية تابعة لحكومة الوفاق، وأخرى قبلية، لها أجندتها الخاصة في الإقليم.
وانتظر حفتر عامين كاملين قبل دخول مدن وبلدات فزان، مستغلاً مواجهات بين قبائل عربية وقبائل التبو المدعومة بمسلحين من المعارضة التشادية، مما سهل له السيطرة على معظم الإقليم وعلى حقلي الشرارة والفيل النفطيين في أقل من ثلاثة أشهر، بعد مقاومة من اللواء السادس في سبها ومن قبائل الطوارق والتبو.
وهدف حفتر الأساسي من السيطرة على الإقليم تمثل في تأمين خطوط إمداده من أي هجوم على قواعده الخلفية عند الزحف على طرابلس، وإظهار لداعميه الدوليين أنه يسيطر على أغلب مساحة البلاد.
والوفاق وحلفاؤها ينتزعون منطقتين مؤخراً، وحفتر يعتمد على الطيران
لكن إرسال حفتر معظم ميليشياته إلى جنوب طرابلس بما فيها عناصر جندها من فزان، جعل الإقليم هشاً من الناحية الأمنية، بدليل تمكن التبو من السيطرة على مدينة مرزق (جنوب سبها)، وتحرير "قوة حماية الجنوب"، التابعة لقوات الوفاق، لبلدة غدوة (بالقرب من سبها).
ولولا طيران حفتر لتمكنت "قوة حماية الجنوب"، بقيادة علي كنه، من تثبيت سيطرتها على حقل الفيل النفطي بالقرب من مدينة أوباري (جنوب غرب)، رغم أنهم تمكنوا في 18 أبريل/نيسان 2019، من السيطرة لساعات فقط على قاعدة تمنهت الجوية بسبها.
ورغم سحب ميليشيات حفتر لكتيبة خالد بن الوليد، التي يقودها المدخلي يوسف التيباوي (من قبائل التبو بالجنوب)، من جبهات القتال في طرابلس للدفاع عن قواتها بالجنوب، فإن ذلك لم يمنع من سقوط مرزق في يد مسلحي التبو الموالين لحكومة الوفاق، رغم استعمال الطيران وارتكاب مجزرة في حق المدنيين.
واقع مأساوي في الجنوب يعزز النقمة على الجنرال المتقاعد
يمثل إقليم فزان نحو ثلث مساحة ليبيا، وبه أكبر حقل نفطي في البلاد (حقل الشرارة بالإضافة إلى حقل الفيل) فضلاً عن احتياطي مائي ضخم يروي عطش سكان الشمال عبر النهر الصناعي.
ولكن مع كل هذه الإمكانيات الهامة، إلا أن سكانه الذين يبلغ عددهم نحو 700 ألف نسمة (أقل من 11٪ من السكان)، يعانون من أزمة وقود مأساوية.
فحسب تقرير للمؤسسة الوطنية للنفط، نشرته في 29 أبريل/نيسان المنصرم، فإن مخزونات سبها من غاز الطهي صفر، ومن البنزين صفر، ومن الديزل صفر.
وشكاوى سكان فزان تحولت إلى استغاثات، وحفتر وحكومة عبدالثني غير المعترف بها دولياً في الشرق عاجزان عن تأمين الوقود لسكان المنطقة، ناهيك عن بقية الإمدادات الغذائية، خاصة في ظل عودة نشاط التهريب بكثافة، مما ولد نقمة على حفتر وأتباعه.
أما حكومة الوفاق، فأمر عضو المجلس الرئاسي عبدالسلام كاجمان، الأربعاء، وزير الحكم المحلي بحكومة الوفاق ميلاد الطاهر، بوقف التعامل مع المجلس البلدي لسبها بعد دعمه لحفتر، مما سيزيد من عزلة المدينة، مادامت خاضعة للأخير.
تحرير فزان مرتبط بتحييد سلاح الجو الخاص بحفتر
أصبح انهيار ميليشيات حفتر في كامل المنطقة الغربية مسألة وقت، وهو ما اعترف به عقيلة صالح، رئيس مجلس نواب طبرق، عندما عقب على مراسلة روسية تصف الوضع في المنطقة بأنه "على شفير الهاوية".
ومن دلالات ذلك أن فصيلاً من كتائب الزنتان الموالي لحفتر (كتيبة الفاروق) انسحب من قاعدة الوطية الجوية (140 كلم جنوب غرب طرابلس) مع عشرات السيارات المسلحة وعلى متنها رجال من مدينتي الزنتان والرجبان (170 كلم جنوب غرب طرابلس).
كما أن نائبين وعضواً في المجلس الأعلى للدولة ظهروا في بيان مصور لأعيان الزنتان يعلن تبرؤهم من حفتر، مما يعني خسارة الأخير لأكبر قوة موالية له غرب طرابلس، وهو مؤشر على قرب سقوط قاعدة الوطية الجوية.
ولن يتبق حينها سوى مدينة ترهونة المحاصرة (90 كلم جنوب شرق طرابلس)، التي تكاد تكون معزولة في إقليم طرابلس.
ويعني سقوط ترهونة، بالضرورة، انهيار ميليشيات حفتر جنوبي طرابلس، ولو بعد حين.
ولأن فزان مرتبط تاريخياَ وجغرافياً ولوجيستياً بإقليم طرابلس، أكثر منه بإقليم برقة في الشرق، فإن سقوط المنطقة الغربية بأكملها يعني أن القواعد الجوية وحقول النفط والمدن الرئيسية في فزان ستكون الهدف القادم لقوات الوفاق.
وعلى عكس معارك المنطقة الغربية التي تميزت بشراستها وطول أمدها، فإن قدرة قوات الوفاق على حسم معركة الجنوب مرتبط بالأساس بإمكانية فرض السيطرة الجوية على سماء فزان وتحييد طيران حفتر، وذلك من شأنه حسم المعركة في الجنوب خلال أسابيع وليس أشهراً.
بالنظر إلى طبيعة تضاريس الإقليم المفتوحة وبلداته المتباعدة مع قلة السكان، مما يجعل سلاح الجو العنصر الحاسم في المعركة.
ولكن قوات الوفاق في فزان لا تمتلك قواعد جوية قريبة من مدنه البعيدة.
إذ إن عاصمة الجنوب سبها تقع على بعد 750 كلم جنوب طرابلس، لذلك ليس من المستبعد أن تبدأ بتحرير قاعدة الجفرة الجوية (حوالي 600 كلم من طرابلس) أولاً، قبل التوجه إلى سبها وبراك الشاطئ أوباري.
فقوات الوفاق لها أنصار وحلفاء كثر في الجنوب على غرار "ثوار 17 فبراير"، ومسلحون من قبائل الطوارق والتبو، يكفي فقط دعمهم بطائرات مسيرة وكتائب من مصراتة والزنتان والزاوية.
وتململ معسكر حفتر في المنطقة الغربية بعد تخلي أغلب قيادات الزنتان السياسية والعسكرية عنه، وبداية انقسام تكتله في المنطقة الشرقية بعد رفض رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح تفويض حفتر لحكم البلاد، وانحياز قبيلة العبيدات وكتيبة التوحيد المدخلية، سيفتح المجال لسكان الجنوب بأخذ زمام المبادرة للتخلص من سيطرة ميليشيات الشرق بدعم من حكومة الوفاق.