"أقسم بالله، إننا نتضور جوعاً"، هكذا صرخ محتجٌ لبناني يائسٌ ترتفع من خلفه ألسنة اللهب من إطارات سيارات مشتعلة في تشكيلة ضباط يقفون أمامه، كانوا يحاولون فتح الطريق مع وصول الأزمة الاقتصادية اللبنانية لمستوى غير مسبوق.
ردَّ عليه بيأسٍ مماثلٍ جنديٌّ يرتدي كمامة طبية وزياً عسكرياً صارخاً فيه: "أنا أكثر جوعاً منك".
يُبرز هذا المشهد الصادم الذي وقع أثناء احتجاج اندلع مؤخراً في منطقة في شمال العاصمة اللبنانية بيروت حدة الانهيار الاقتصادي الذي يعصف بالبلاد، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
الأزمة الاقتصادية اللبنانية أخرجت الناس للشوارع رغم كورونا
يعرف اللبنانيون أنهم واحد من أكثر شعوب المنطقة -إن لم يكن العالم- اهتماماً بالنظافة الشخصية والحذر من العدوى من الأمراض.
ومع تفشي فيروس كورونا تراجع المحتجون إلى منازلهم، ولكن مع استمرار الأزمة الاقتصادية اللبنانية أخرج الجوع المواطنين رغم الخوف من كورونا، حسبما قال مصدر مطلع على الأوضاع اللبنانية لـ"عربي بوست".
تحدى المتظاهرون في أنحاء البلد حظر التجوال وإجراءات التباعد الاجتماعي التي يفرضها فيروس كورونا، وخرجوا إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم من أسوأ أزمة مالية يشهدها لبنان منذ الحرب الأهلية التي استمرت من عام 1970 إلى 1990.
ومع كفاح الأسر لتوفير الغذاء أثار الانهيار الاقتصادي الذي يلوح في الأفق مخاوف من أن ينزلق البلد مرة أخرى إلى حرب أهلية.
ردّدت الحشود المحتجة أيضاً هتافات مناهضة للارتفاع الكبير للأسعار الذي سببه جزئياً انهيار العملة المحلية، فعلى مدار العام الماضي ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية مثل السكر بما يقارب 70%، بينما تضاعف سعر الفاكهة.
وخرج مزيد من اللبنانيين إلى الشوارع رغم حالة الإغلاق، وأصبحت الاشتباكات دامية مساء يوم الإثنين الماضي، 27 أبريل/نيسان، في مدينة طرابلس الشمالية، التي تسجل واحداً من أعلى معدلات البطالة والفقر في البلد.
فاقمت وفاة محتج يدعى فواز فؤاد السمان (26 عاماً) أثناء الاشتباكات حدة التوترات.
وفي العاصمة بيروت، تظاهر المئات خارج مصرف لبنان المركزي احتجاجاً على وفاة فواز وللتعبير عن غضبهم من الأزمتين السياسية والاقتصادية، وقد تفاقمت الأخيرة في الوقت الراهن جراء جائحة فيروس كورونا، والإغلاق الصارم الذي شل الحياة العامة والتجارة.
شبح الحرب الأهلية يتزايد فلم يعد أمام الناس إلا التظاهر
قال المحتجون أمام المصرف المركزي لصحيفة The Independent البريطانية إنهم يخشون من انزلاق البلد مرة أخرى إلى حرب أهلية، إذ ليس لدى الناس ما يفعلونه سوى الخروج إلى الشوارع والبقاء هناك.
وقال جاك، وهو متظاهر يبلغ من العمر 36 عاماً: "الوضع أسوأ من سيئ، ليس بمقدور الناس شراء الحليب لأطفالهم أو الخبز لأسرهم. لا شيء في متناول الجميع، لا شيء حرفياً".
وأضاف: "أحمل شهادتين -في إدارة الفنادق والعلاج الطبيعي- وليس لدي عمل. فسِّر لي كيف عساي أن أوفر الطعام؟".
بعد عقود من الفساد المتأصل وسوء الإدارة المزمن، وصلت مشكلات لبنان الاقتصادية إلى حالة مزرية الخريف الماضي، عندما توقفت الاستثمارات الأجنبية وانقطعت تحويلات اللبنانيين الأثرياء في الخارج، ما أجج انتفاضة ضد النخبة الحاكمة.
وازداد الوضع سوءاً بوصول جائحة فيروس كورونا إلى البلد، وما ترتب عليها من إغلاق صارم.
أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر
توقع البنك الدولي بالفعل أن يصبح 40% من اللبنانيين تحت خط الفقر بنهاية 2020، لكن وزير الاقتصاد اللبناني يرى أن النسبة الفعلية في الوقت الحالي تقترب من 50%.
وقال وزير الشؤون الاجتماعية في لبنان لشبكة CNN الأمريكية، يوم الأربعاء 29 أبريل/نيسان، إن ثلاثة أرباع البلد تعتمد الآن على المساعدات.
وليس لبنان في وضع يؤهله لمساعدة فقرائه. فقد فشل مرة أخرى في مارس/آذار الماضي في سداد الديون الخارجية، وأُعلن عن حزم مساعدات للمواطنين الأفقر، لكنها لم تُنفذ حتى الآن.
ومصرف لبنان يزيد الفوضى
قال اقتصاديون وخبراء لصحيفة The Independent، إن الطريقة "الغَرَضية" التي يتعامل بها المصرف المركزي مع الأزمة تُسهم في الفوضى.
في محاولة لإعادة إنعاش احتياطات العملة الأجنبية، وربما تقليل الفجوة في الميزانية العمومية للبنوك، سرعان ما فرض المصرف المركزي قيوداً صارمة على حسابات المواطنين بالعملة المحلية والأجنبية، وأصدر مجموعة من التعميمات الغامضة والمتناقضة في بعض الأحيان، ليتسبب بذلك فقط في زيادة إثارة غضب العامة وحالة الذعر.
أصبح الوصول إلى الدولارات شبه مستحيل في الوقت الحالي في لبنان، وهو أمر مدمر بالنسبة لبلد يعتمد إلى حدٍّ كبير على العملة الأمريكية في تعاملاته، إذ إن 70% من إجمالي ودائع العملاء بالبنوك بالدولارات.
وأُمرت قوات الأمن باعتقال عدد من مالكي أماكن الصرافة لانتهاك القواعد، ما دفع آخرين إلى للدخول في إضراب إلى حين الإفراج عن المعتقلين.
يقول الخبراء إن إملاءات المصرف المركزي بدلاً من أن تساعد في تحسين الوضع، قللت حجم الدولارات في السوق وأغرقته بوفرة الليرة اللبنانية، ما شجع على خلق حالة ذعر ودفع السعر بالسوق السوداء أعلى.
ودفع هذا رئيس وزراء لبنان حسان دياب إلى اتهام رياض سلامة حاكم مصرف لبنان المركزي بالتسبب في تضخم مفرط. ودافع سلامة عن نفسه ورفض تلك الاتهامات، قائلاً إنه كان هدفاً لـ"حملة ممنهجة".
لا يعرف أحد بالتحديد ما حدث أو المدى الفعلي للدمار الذي لحق بالنظام المصرفي، لأن كثيراً من المعلومات ليست متاحة للعامة.
وقالت مها يحيى، مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط: "هناك بوضوح نقص حاد للغاية في الدولارات في النظام (المصرفي)… لكننا لا نعرف ذلك لأن المصرف المركزي لا ينتهج الشفافية".
وأضافت: "لا توجد خُطة قائمة. مصدر خوفي الأكبر هو أن نشهد مزيداً من العنف والفوضى، فيما يبدأ الناس في التضور جوعاً".
فيما حذر سامي نادر، مدير مركز المشرق للشؤون الاستراتيجية، من أن الليرة قد تنخفض بنهاية الشهر لتصل قيمتها إلى 10 آلاف للدولار الواحد.
وقال: "الأمر المقلق بالنسبة لي هو أن لا شيء يلوح في الأفق، لا يتخذون أي إجراءات لإصلاح المشكلة".
وأضاف: "نحن في حالة سقوط حر دون مُنقذ. وفي هذه الأثناء يتعثر المصرف المركزي أثناء تقدمه في اتجاه معاكس لموقف الحكومة ورئيس الوزراء. الصراع عند قمة الهرم المؤسسي يزيد عدم اليقين لدى السوق".
وفي أحد أماكن استبدال العملة في بيروت تحدث موظفون عن مستقبل قاتم، قائلاً إن العملة الأجنبية اختفت كلياً تقريباً، بينما تتدنى قيمة الليرة على نحو متزايد.
قال موظف، طلب عدم الإفصاح عن اسمه خشية أن تستهدفه السلطات: "الناس لديهم أموال في حساباتهم لا يمكنهم الحصول عليها، وهم مجبرون على مشاهدة مدخراتهم تتبخر أمام أعينهم، بينما يمارس المصرف المركزي حيلاً سحرية".
وأضاف: "باختصار، هذه سرقة (لأموال) الناس".