يبدو أن دول العالم قد حسمت أمرها وقررت رفع القيود المفروضة على المواطنين، وإلغاء الإغلاق الاقتصادي رغم عدم السيطرة على خطر فيروس كورونا، وهو ما يطرح تساؤلات حول نِسب النجاح المتوقعة لقرار كهذا في ظل استمرار الوباء في الانتشار وحصد الأرواح؟
ارتفاع الإصابات في ألمانيا
نبدأ من ألمانيا، فقد حققت الحكومة بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل قصة نجاح يشيد بها العالم في احتواء تفشي فيروس كورونا وتقليل نسبة الوفاة ربما للحد الأدنى، من خلال إجراءات الإغلاق التام وتنفيذ سياسة البقاء في المنازل والتباعد الاجتماعي، إضافة إلى إجراءات الكشف المبكر والتتبع والعزل وتوفير أجهزة التنفس الصناعي مبكراً.
أمس الثلاثاء 28 أبريل/نيسان، أظهرت بيانات من معهد روبرت كوخ للأمراض المعدية وغير المعدية أن عدد حالات الإصابة المؤكدة بفيروس كورونا في ألمانيا زاد بواقع 1144 حالة إلى 156337، فيما زاد عدد الوفيات بواقع 163 إلى 5913.
الإحصائية التي نشرها المعهد أشارت إلى أن كل مصاب بالفيروس ينقل العدوى في المتوسط إلى شخص واحد آخر، ما يعني أن معدل الاستنساخ ارتفع إلى 1، وهو ما يدلل على أن عدد الإصابات الجديدة لم يعد يتراجع مثلما كان عليه الحال خلال الأيام الماضية.
لذلك ناشد رئيس معهد روبرت كوخ لوتار فيلر المواطنين في ألمانيا الاستمرار في الالتزام بقواعد مكافحة فيروس كورونا المستجد، قائلاً: "لا نريد أن تزداد أعداد الإصابات مجدداً"، مؤكداً ضرورة الاستمرار في البقاء في المنزل قدر الإمكان، والالتزام بقيود الاختلاط الاجتماعي، والحفاظ على مسافة متر ونصف المتر على الأقل بين الأفراد، وارتداء حماية للأنف والفم حيثما يكون الحفاظ على هذه المسافة غير ممكن.
المعادلة إذن واضحة ولا تحتاج لتفسير؛ ألمانيا نجحت للغاية في تحجيم انتشار الفيروس على عكس دول أخرى كثيرة، والسبيل الوحيد لاستمرار هذا النجاح والحفاظ على الأرواح هو مواصلة الإجراءات التي أدت إليه، وهي باختصار الإغلاق والتباعد الاجتماعي، وهذا ما عبّر عنه فيلر بقوله: "نريد الدفاع عن هذا النجاح".
ماذا عن بريطانيا؟
الدعوات لرفع القيود وعودة الحياة لطبيعتها -مع اتخاذ الاحتياطات قدر المستطاع- تتصاعد بشكل كبير، وهناك مظاهرات في الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل وأماكن أخرى، إضافة إلى حملات عبر منصات التواصل الاجتماعي، في ظل معاناة الملايين حول العالم من وطأة الظروف الاقتصادية بسبب تداعيات إجراءات مكافحة الوباء الذي أصاب أكثر من ثلاثة ملايين شخص وقتل أكثر من 218 ألفاً حول العالم حتى صباح اليوم الأربعاء 29 أبريل/نيسان.
وقرار عودة الحياة والنشاط الاقتصادي يتبناه الآن غالبية قادة وزعماء العالم، باستثناء رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، الذي يقف صامداً في وجه ضغوط رجال الأعمال الداعمين لحزب المحافظين، وهو وضع غريب وموقف لم يكن أحداً يتصور أن جونسون بالتحديد يمكن أن يتخذه.
عندما ظهر جونسون أمام مقر الحكومة البريطانية 10 داونينج ستريت، الأسبوع الماضي، للمرة الأولى بعد تعافيه من الإصابة بالفيروس، كان كلامه واضحاً ومباشراً: "كلا لن يتم رفع قيود الإغلاق في أي وقت قريب"، مطالباً الجميع بالتوقف عن التفكير في أن المشكلة قد تم حلها لمجرد أنهم لم يعانوا بعد بشكل شخصي من العدوى، مضيفاً: "أعرف أن الأمر صعب، وأريد أن أعيد الاقتصاد للتحرك بأسرع ما يمكن، لكنني أرفض إهدار كل الجهود والتضحيات التي قدمها الشعب البريطاني والمخاطرة بموجة تفشٍّ ثانية أكثر عنفاً، وخسارة أرواح وإنهاك النظام الصحي في البلاد".
تصريحات جونسون جاءت رداً على حملة من الضغوط يقودها أصحاب الأعمال في بريطانيا، وبصفة خاصة من يمولون حملات حزب المحافظين الحاكم، وقبل يوم واحد من ظهور جونسون تصدر غلاف صحيفة صنداي تايمز البريطانية عنوان ضخم: "ممولو حزب المحافظين يقولون لرئيس الوزراء: حان وقت تخفيف الإغلاق"، بحسب مقال لصحيفة الغارديان البريطانية اليوم الأربعاء.
الزعماء والقادة وجال الأعمال
القصة أصبحت واضحة تماماً الآن؛ يواجه الزعماء وقادة الدول معادلة تبدو مستحيلة، طرفاها ببساطة هما الاقتصاد المتوقف وتداعياته المباشرة على المواطنين من جهة، وفيروس قاتل يهدد حياة نفس المواطنين، والحل الوحيد الناجع في مواجهته حتى اللحظة هو الإغلاق والتباعد الاجتماعي، والواضح أن القرار قد تم اتخاذه بالفعل على مستوى العالم، وهو عودة الاقتصاد مع اتخاذ الإجراءات والتدابير للوقاية من الوباء، والاعتراف بأن الخطر لا يزال قائماً ولا أحد يعرف مداه.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقود هذا الاتجاه منذ اللحظة الأولى، وكان يعارض من الأساس فكرة الإغلاق، ورغم التفشي الكارثي للفيروس الذي قتل أكثر من 58 ألف أمريكي وأصاب أكثر من مليون، لا يزال ترامب مؤيداً لرفع القيود، ويساند المتظاهرين الذين يضغطون في ذلك الاتجاه.
وأمس الثلاثاء 28 أبريل/نيسان، قام نائب ترامب مايك بنس -الذي يقود خلية إدارة أزمة الوباء- بزيارة لمستشفى ميو في مينيسوتا دون أن يرتدي كمامة، في تحدٍّ صارخ لقواعد المستشفى المطبقة بصرامة منذ 13 أبريل/نيسان على جميع من يدخل المستشفى، وظهر بنس في غرفة مكتظة، وهو الوحيد الذي لا يرتدي الكمامة.
القصة بالطبع أثارت موجة من الانتقادات، بحسب تقرير لشبكة CNN، واللافت هو تبرير بينس، حيث قال: "أنا لست مصاباً بعدوى كورونا، ويتم إجراء فحوصات الكشف عن الفيروس لي بشكل دوري، وأردت أن آتي إلى هنا وأشكر الطاقم الطبي على جهودهم الجبارة، وأن أنظر في عيونهم مباشرة". الكمامة أو قناع الوجه بالطبع لا يخفي العيون، وكان بإمكان بنس أن يشكر الطاقم الطبي وهو يرتديها وينظر في عيونهم مباشرة أيضاً.
لكن الموقف هنا أثار تساؤلات حول الإمكانات المتاحة لوقاية المسؤولين والزعماء من العدوى، بعد أن كان معروفاً عن الفيروس أنه لا يفرق بين مسؤول ومواطن أو غني وفقير، لكن الآن وقد أصبحت خطورة وشراسة الفيروس معلومة للجميع وكيفية الوقاية من العدوى أيضاً معلومة، أصبح البعض يمكنه اتخاذ تلك الإجراءات وحماية نفسه من العدوى بينما الأمر نفسه غير متوفر لغالبية البشر.
ماذا عن موقف خبراء الصحة؟
هناك إجماع بين خبراء الصحة على مستوى العالم تقريباً بشأن مدى شراسة فيروس كورونا وتحوره وعدواه الشديدة، وتكررت التحذيرات من أنه سيظل يمثل خطراً قاتلاً على البشر حتى يتم التوصل للقاح يقي من العدوى به.
أنتوني فوتشي مدير المعهد الأمريكي للحساسية والأمراض المعدية كرر أمس الأول تحذيراته بشأن "التسرع بتخفيف قيود الإغلاق" قبل رفع عدد الاختبارات إلى 5 ملايين فحص على الأقل أسبوعياً، مشيراً إلى أن رفع إجراءات الإغلاق ولو جزئياً على الأرجح سيؤدي إلى موجة ثانية من تفشي الوباء تجعل إعادة الإغلاق أمراً حتمياً، ولكن بعد أن تكون آلاف الأرواح قد أزهقت.
مسألة الفحوصات تعتبر من الأمور الحاسمة بالنسبة لكل دولة، والولايات المتحدة أكثر دول العالم إجراء لتلك الفحوصات، حيث تجري نحو 200 ألف فحص يومياً، ورغم ذلك يرى خبراء الفيروسات هناك أن العدد ضئيل ولا يسمح بالتفكير في تخفيف القيود حالياً، وإلا حدثت موجة تفشٍّ ثانية أكثر قسوة، والسؤال هنا: ماذا عن الدول التي لا تمتلك إمكانات تكفي لإجراء فحوصات لأكثر من 1% مثلاً من سكانها؟
الرسالة نفسها بشأن التحذير من تخفيف القيود تتكرر على لسان مسؤولي منظمة الصحة العالمية بشكل دوري، وتأتي تحذيرات رئيس معهد روبرت كوخ الألماني لوتار فيلر أمس الثلاثاء لتدق ناقوس الخطر من جديد.
المعضلة إذن لا تزال قائمة، ولا توجد وسيلة للهروب من الفيروس القاتل سوى الإغلاق والتباعد الاجتماعي، لكن توقف النشاط الاقتصادي يهدد غالبية البشر بفقدان مصادر رزقهم، وأصحاب الأعمال يضغطون لعودة النشاط الاقتصادي رغم الخطر، فهل تدفع البشرية ثمناً باهظاً نتيجة لاتخاذ قرار التعايش مع فيروس قاتل لا أحد يعرف متى يتم التوصل للقاح مضاد له، وتعود الأمور لنقطة الصفر مرة أخرى، ويتوقف النشاط الاقتصادي بصورة أكثر صرامة.