"ديكتاتورية عسكرية تفصل شرق ليبيا عن غربها"، يبدو أن هذه هي النتيجة التي قد يؤدي إليها إعلان حفتر سقوط اتفاق الصخيرات، والعملية السياسية وقبوله لما سماه التفويض الشعبي لتحرير التراب الليبي كاملاً.
وكان الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر قد أعلن في كلمة مقتضبة، مساء الإثنين 27 أبريل/نيسان 2020 نقلتها قناة "ليبيا الآن"، أن الاتفاق السياسي دمر ليبيا وجرها لمنزلق خطير، وأن الجيش رهن إشارة الشعب، وسيعمل على رفع معاناة الشعب الليبي.
وجاء ذلك بعدما طب حفتر قبل أيام تفويضاً من الشعب الليبي لتولي السلطة، معلناً أنه سيحكم وفقاً لإعلان دستوري لبناء الدولة المدنية التي يريدها الشعب الليبي، على أن تكون القوات المسلحة هي الضامن لها، حسب تعبيره.
إعلان حفتر جاء في وقت غريب، إذ يأتي بعد تعرض قواته لهزيمة غير مسبوقة في غرب ليبيا على يد قوات حكومة الوفاق.
ويؤشر ذلك على أن ما قام به حفتر ليس الهدف منه فقط حكومة الوفاق المعادية له في طرابلس، بل الهدف الأساسي أيضاً الكيانات السياسية القائمة في الشرق مثل رئاسة البرلمان (يطلق عليه برلمان طبرق)، الذي كان حفتر يكتسب شرعيته منه.
ولكن يبدو أنه أصبح قلقاً من هذه المؤسسات، في ضوء هزائمه المدوية بالغرب، وازدياد التذمر في الشرق الليبي وقبائله من العبء الذي بات يمثله الجنرال المتقاعد، خاصة في ضوء فشل حملته على طرابلس قبل أكثر من عام.
جدير بالذكر أن اتفاق الصخيرات الذي وُقع في 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، كان هو الاتفاق الوحيد الذي طرح "خارطة طريق" واضحة للأزمة، واعتمد تشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية وهيئة تشريعية.
خلافات بين حفتر ورئيس البرلمان
وأثار طلب حفتر قبل أيام، الحصول على تفويض شعبي دهشة وأحياناً سخرية من قِبل الرأي العام الليبي، لأنه جاء في وقت يتعرض فيه الجنرال لهزيمة غير مسبوقة، بعد تحرير قوات حكومة الوفاق مدن الساحل الغربي وشنها هجوماً على قوات حفتر قرب طرابلس.
كما جاءت هذه الخطوة من قِبل حفتر وسط جهود دولية لضمان هدنة في رمضان، وقبلها دعوات له لوقف إطلاق نار؛ خوفاً من مرض كورونا، ولكن كلها لم تجد آذاناً صاغية.
ولكن اللافت أكثر في إعلان حفتر إلغاء الاتفاق السياسي، أنه جاء بعد أيام من طرح رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، مبادرة للخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد، ترتكز على الحل السياسي وتُقصي الحل العسكري، وتنتهي بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.
واقترح عقيلة صالح خارطة طريق لحل الأزمة الليبية، تتلخص في تشكيل مجلس رئاسي بالتوافق أو بالتصويت بين ممثلي أقاليم ليبيا الثلاثة، تحت إشراف الأمم المتحدة، يقوم بعد اعتماده، بتسمية رئيس للوزراء ونواب له يمثلون الأقاليم الثلاثة، لتشكيل حكومة يتم عرضها على البرلمان لنيل الثقة، ويكون رئيس الوزراء ونائباه شركاء في اعتماد قرارات مجلس الوزراء.
وأضاف صالح أن "المجلس الرئاسي يتولى بعد ذلك تشكيل لجنة من الخبراء والمثقفين لوضع وصياغة دستور للبلاد بالتوافق، يتم بعده تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية تنبثق عن الدستور المعتمد الذي سيحدد شكل الدولة ونظامها السياسي".
واقترح رئيس البرلمان ضمن مبادرته، أن "تقوم القوات المسلحة الوطنية الليبية بدورها لحماية هذا الوطن وأمنه، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال المساس بها، ويتولى المجلس الرئاسي الجديد مجتمعاً مهام القائد الأعلى للقوات المسلحة خلال هذه المرحلة، على أن يستمر مجلس النواب في ممارسة رسالته ودوره كسلطة تشريعية منتخبة إلى حين انتخاب مجلس نواب جديد".
وكشفت مصادر خاصة لـ"العربي الجديد"، أن خلافاً دبّ بين حفتر ورئيس مجلس النواب في شرق ليبيا، عقيلة صالح، الذي لطالما سعى حفتر ليستمد من خلاله شرعية دولية.
وأوضحت المصادر أن صالح أكد لمسؤولين مصريين أخيراً استحالة الحسم العسكري لمعركة طرابلس، التي بدأها حفتر في أبريل/نيسان من العام الماضي، في ظل الهزائم الأخيرة لقواته، ونجاح "الوفاق" وحلفائها في تغيير موازين المعركة.
وأضافت المصادر أن صالح طالب رؤساء لجان البرلمان بضرورة الترويج للمبادرة السياسية التي أعلن عنها في الفترة الأخيرة، لحل الصراع، مؤكداً لهم أن المبادرة تحظى بدعم دولي وغربي، وعدم الالتفات إلى تهديدات حفتر، علماً أنه دأب على مدار العام الماضي، على الترويج للحل العسكري الذي يتبناه حفتر.
كما كشفت المصادر عن رصد تحركات لسيف الإسلام القذافي نجل معمر القذافي، للعودة مجدداً لتصدُّر المشهد، في ظل دعم من قبيلة القذاذفة بمدينة سرت، وهي التحركات التي أسفرت بحسب المصادر، عن تظاهرة في المدينة مطالبة بتفويضه للتحدث باسمهم وقيادة زمام الأمور، وهي التظاهرة التي واجهتها الميليشيات التابعة لحفتر، بإطلاق النيران في الهواء، محاولة تفريقها مساء السبت.
وأكد مصدر مقرب من برلمان طبرق، أن هناك خلافاً دبَّ بين رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح وحفتر، تحديداً حول قرار الأخير تفويض الشعب له، وهو ما اعتبره "صالح" انقلاباً على البرلمان في طبرق وإنهاء لوجوده؛ ما دفع صالح إلى رفض مبادرة حفتر نهائياً.
أزمة كبيرة بسبب قاعدة الوطية في الغرب الليبي قد تكون السبب في إعلان حفتر سقوط اتفاق الصخيرات
وقبل فترة وجيزة من إعلان حفتر، قالت مصادر في حكومة الوفاق الليبية إنها رصدت انسحاباً جزئياً لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر من قاعدة الوطية الجوية غرب البلاد.
وأوضحت مصادر عسكرية في حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، أن قوات حفتر انسحبت من قاعدة الوطية الإستراتيجية الواقعة إلى مدينة الزنتان في الجبل الغربي.
وأفادت معلومات بأن حفتر طلب من أعضاء مجلس النواب في طبرق، عقب سقوط قاعدة الوطية، الخروج في بيان يفوضون فيه القيادة العامة لما يسمى الجيش الوطني الليبي بقيادته لتولي المرحلة الحالية للبلاد.
واللافت أن بيان حفتر بإعلانه سقوط الاتفاق السياسي جاء، بعد يومين من سقوط قاعدة الوطية، القاعدة الأكبر لحفتر في غرب ليبيا، بعد اتفاق تم بين حكومة الوفاق والعسكريين في القاعدة الذين ينتمي غالبيتهم إلى مدينة الزنتان، على خروجهم من القاعدة مقابل عدم دعم حفتر.
ففي أعقاب هزيمة الوطية، وبدء عملية تحرير ترهونة، آخر المعاقل الكبرى لقوات حفتر في غرب ليبيا، وإصرار حكومة الوفاق على عدم التفاوض مع حفتر، وجد الجنرال الليبي نفسه في مأزق حقيقي، وسط مخاوف من وقوع انشقاقات في صفوف مؤيديه.
كانت الغرف المشتركة لمكونات الزنتان، وعلى الرغم من انقسامها داخلياً بين مؤيد ومعارض لحفتر، أصدرت مساء السبت 25 أبريل/نيسان، بياناً رفضت فيه تفويض خليفة حفتر حاكماً عسكرياً لليبيا، ووصف البيان خليفة حفتر بالمتمرد الخارج على الشرعية، كما دعت الغرفة نواب برلمان طبرق إلى الالتحاق ببقية النواب في طرابلس وممارسة مهامهم من هناك.
وعقب انسحاب مقاتلي الزنتان والرجبان من قاعدة الوطية، فضَّل حفتر المضي نحو إلغاء الحكومة المؤقتة شرق ليبيا وبرلمان طبرق، وتشكيل حكومة تسيير أعمال تحت قيادته شخصياً، بحسب مصادر خاصة لـ"عربي بوست".
كان هذا العمل سيتم عبر خروج أعضاء برلمان طبرق وتفويضه بشكل صريح، إلا أن المخابرات المصرية منعته، وأكدت له ضرورة وجود غطاء شرعي للعمليات العسكرية، بحسب هذه المصادر.
الخوف من التمرد في الشرق
وكان تقرير سابق لـ"عربي بوست" قد ذكر أن الخسائر الكبيرة التي تكبدتها قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الأسابيع الماضية، بدأت تزيد من قلقه؛ خشية ظهور حركات تمرّد ضده من قبائل المنطقة الشرقية.
فخلال الأيام القليلة الماضية، ومع الهزائم المتلاحقة لقوات حفتر في غرب ليبيا، شهدت المنطقة الشرقية حصاراً عسكرياً مصحوباً بقبضة أمنية مشددة.
وقامت قوات الأمن التابعة لحفتر باعتقال شخصيات كانت تطالب بعدم الزج بأبناء قبائل برقة (شرق ليبيا) في الحرب على طرابلس، التي بدأها حفتر في أبريل/نيسان 2019.
وأوضح مصدر لـ"عربي بوست" أن الخلافات بين القيادات العسكرية وقيادات القوات المساندة من أبناء قبائل المنطقة الشرقية من جهة وخليفة حفتر من جهة أخرى، بدأت منذ أن أعلن الأخير حربه على طرابلس منذ عام، حيث رفضت هذه القيادات الانضمام للمشاركة في الحرب على طرابلس.
وذكر المصدر أن استياء كبيراً وحاداً بين قيادات اجتماعية وعسكرية وأمنية لقبائل العواقير (القبيلة التي تشكل حزام مدينة بنغازي) والمغاربة (القبيلة القاطنة بالهلال النفطي)؛ لازدياد عدد القتلى من أبنائها في مناطق جنوب طرابلس وقاعدتي الوطية والجفرة جنوب وجنوب غربي ليبيا.
انقلاب تدعمه الإمارات وعملياً سيفضي إلى سيطرته المباشرة على الشرق
اللافت في هذه الخطوة، التي يصفها أنصار "الوفاق" بأنها "انقلاب تدعمه الإمارات"، تزامنها مع إعلان مماثل في اليمن، عن إدارة ذاتية بالجنوب، خلافاً لاتفاقات سياسية سابقة.
وبحسب قراءات لأوساط ليبية إعلامية، فإن سقوط "الصخيرات" يعني أن الأجسام السياسية المنبثقة عنه باتت خارج حسابات حفتر؛ ويعني ذلك "المجلس الرئاسي" و"المجلس الأعلى للدولة" و"مجلس النواب".
كما قد يعني ذلك حل حكومة عبدالله الثني العاملة بشرق البلاد، خاصة في ظل وجود حديث عن خلافات سابقة بين الثني وحفتر.
وهذا قد يفضي إلى إعلان حفتر خلال الأيام المقبلة، تشكيل كيانات موازية، وفق ما تتداوله أوساط ليبية.
ومن غير المعروف حتى الآن موقف الدول الداعمة لحفتر من الانقلاب الجديد الذي قام به، (سبق أن أعلن عن الانقلاب على المؤتمر الوطني المنتخب).
وكانت تقارير قد أفادت بأن مصر قلّصت دعم حفتر.
وبحسب مصادر مصرية خاصة تحدثت إليها صحيفة "العربي الجديد"، فإن القاهرة أبلغت شركاءها في أبوظبي والرياض، عدم قدرتها على تحمّل تكلفة المعارك أو تقديم الدعم اللازم لحفتر عسكرياً، في ظل وضع اقتصادي وداخلي شديد الاضطراب بسبب أزمة كورونا، وكذلك في ظل ضعف الإمكانات المصرية، مؤكدة أن القاهرة حذَّرت شركاءها من أن تداعي الوضع الاقتصادي لديها أو انهياره سيؤثر على مساهمة مصر في عدد من الملفات الإقليمية التي تعتمد فيها الرياض وأبوظبي على القاهرة.
وأوضحت المصادر أنه في ظل ما تعانيه فرنسا من اجتياح كورونا، وانشغالها بإجراءات مكافحة العدوى وما تشهده من أعداد كبيرة من المصابين والمتوفين، لم تعد باريس قادرة على دعم حفتر بشكل واسع، كما كان يحدث في فترات مضت، وهو ما ألقى بالجانب الأكبر من الدعم على مصر التي ترتبط بحدود مباشرة مع ليبيا، في وقت تتكفل أبوظبي بالتمويل بشكل أساسي، إلى جانب الرياض التي موّلت أخيراً عمليات تسليح لميليشيات حفتر، في إطار عمليات محاصرة تركيا في الملفات التي تنشط بها.
ولكن الملاحظ أن وسائل الإعلام المصرية أبرزت تصريحات حفتر وبدت مؤيدة لها، مما قد يشير إلى قبول مصري للخطوة أو عدم معارضتها (خاصة أنها تبدو مشابهة من حيث الشكل، لخطوة عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي من السلطة، وقبول السيسي للتفويض الشعبي دون إعارة الاهتمام للمؤسسات الدستورية).
ديكتاتورية عسكرية تقسم ليبيا
وفي كل الأحوال فإن الخطوة تعد هروباً من الأزمة التي خلقتها انتصارات "الوفاق".
وهي خطوة من شأنها إضعاف شرعية المؤسسات الداعمة لحفتر، فبالإضافة إلى أنه يمزق شرعية اتفاق الصخيرات ومؤتمر برلين، اللذين عُقدا برعاية دولية، وهو الأمر الذي سيُحرج داعميه الدوليين، خاصة دولة مثل فرنسا، فإن قيامه بحل أو تجاهل البرلمان أو رئيسه عقيلة صالح، من شأنه أن يضعف شرعيته أمام حكومة الوفاق باعتبار أن البرلمان الليبي هو الجهة الوحيدة المنتخبة في البلاد، بالإضافة إلى المؤتمر الوطني الداعم لحكومة الوفاق.
ولكن يبدو أن حفتر لا يهمه تعزيز قوة المؤسسات الموالية له أمام حكومة الوفاق.
بل إنه بات يخشى من هذه المؤسسات على حكمه لشرق ليبيا بعد أن ازداد الاستياء الشعبي منه.
والأخطر أن حفتر بقضائه على مؤسسات الشرق، خاصةً البرلمان المنتخب، يهدد بتكريس تقسيم ليبيا، خاصة أن حلمه بدخول طرابلس بقوة السلاح ثبت أنه لم يتحقق.
ومن ثم لم يعد أمامه إلا أن يكرس نفسه زعيماً دكتاتورياً عسكرياً لشرق ليبيا، قبل أن تتسع نيران التذمر ضده.
فحفتر كان يغري الليبيين بتوحيد بلادهم مقابل قبول حكمه العسكري مع وجود خجول لبعض المؤسسات الدستورية، ولكنه اليوم يقدم لليبيين حكماً عسكرياً كاملاَ على شطر من الوطن فقط.