ما هو سعر النفط المناسب لدول الخليج، ومن ينتصر في حرب أسعار النفط الدائرة حالياً بين السعودية وروسيا وشركات النفط الصخري الأمريكية؟ وهل تخرج دول الخليج منتصرة من هذه الحرب أم ينتهي الصراع بتبديد ثرواتها؟
كان قرار السعودية التحول من محاولة الاتفاق مع روسيا على أسعار النفط إلى شن حرب نفطية عليها، نقطة فارقة في تاريخ النفط، انتهت بتسجيل الخام الأمريكي سعراً بالسالب يوم الإثنين 20 أبريل/نيسان 2020، لأول مرة في تاريخ النفط.
وجاء ذلك -على ما يبدو- نتيجة محاولة المملكة العربية السعودية تكرار ما فعلته خلال الثمانينيات، عندما خفضت أسعار النفط لطرد الإنتاج النفطي السوفييتي المتزايد من السوق، وهو القرار الذي يُعتقد أن له دوراً في انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه وليس مجرد هزيمته في حرب النفط.
ولكن روسيا البوتينية يبدو أنها تعلمت من الاتحاد السوفييتي، وقد تحاول الانتقام له.
السعودية تكرر الخطة القديمة
كانت السعودية في السابق تأمل الحفاظ على موقعها وعائداتها في سوق النفط بواسطة تشجيع التعاون بين اللاعبين الرئيسيين، وعلى رأسهم روسيا.
وبعد أن تمنَّع بوتين في المكالمة الشهيرة التي أغضبت ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فإن المملكة باتت تراهن بقرارها إشعال حرب أسعار النفط، على أن أفضل احتمال لها هو الدفع بعكس تحركاتها الأولى: أي الانخراط في لعبة من يتراجع أولاً مع موسكو وشركات النفط الأمريكية المستقلة، والتعويل على أنها ستكون الأشد صموداً والطرف الذي يستطيع التحمل إلى النهاية.
ورغم الاتفاق مع روسيا على تخفيض الإنتاج، فإن السعودية واصلت إغراق الأسواق قبل سريان الاتفاق في الأول من مايو/أيار 2020.
وإذا سارت الأمور كما هو مخطط لها، فإن هذا النهج قد يأتي بنتائج مدمرة، حسب تقرير لوكالة وكالة Bloomberg الأمريكية.
فالأزمة الحالية لا تشبه غيرها على أي نحو، اللهم إلا أن تقارَن بقرار السعودية إغراق سوق النفط عام 1985 بعد سنوات من ضبط النفس، وهو الحدث الذي أفضى في النهاية إلى التعجيل بانهيار الاتحاد السوفييتي، حسب التقرير.
فأي اللاعبين سيصرخ أولاً: روسيا أم شركات النفط الصخري الأمريكية أم السعودية ومن ورائها دول الخليج؟
إليك سعر التكلفة لكل من اللاعبين الأساسيين
الموضوع معقد، فهناك فرق بين سعر النفط اللازم لتعادل ميزانية الدول المنتجة وسعر تكلفة استخراج برميل النفط.
فلكل لاعب من اللاعبين الرئيسيين مزايا ونواقص الآن. إذ لا يمكن أن ينتج أي طرفٍ النفط بثمن بخس كالذي تنتج به السعودية: يتطلب الأمر 2.80 دولار للحصول على البرميل الواحد من حقول شركة النفط السعودية حالياً، مقارنة بتكلفة تبلغ نحو 16 دولاراً للبرميل الواحد من شركة "إكسون موبيل" Exxon Mobil Corp الأمريكية، وأكثر من 20 دولاراً للبرميل الواحد من شركة "روسنفت" Rosneft PJSC الروسية.
فبالنسبة لسعر تكلفة استخراج برميل النفط فإن دول الخليج -خاصةً السعودية- تحظى بأفضلية على منافسيها.
ولكن فيما يتعلق بسعر النفط اللازم لتعادل ميزانية الدول المنتجة، فإن السعودية ودول الشرق الأوسط في وضع أضعف من روسيا ولكن بدرجات متفاوتة.
وتقول وكالة Bloomberg الأمريكية في تقريرها، إن السعر الذي تستوفي عنده السعودية برمتها النفقات أو نقطة التعادل بين النفقات والعائدات في ميزانيتها، هو نحو 83.60 دولار للبرميل (صندوق النقد يضع تقديراً أقل قليلاً من ذلك لعام 2020)، وهو سعر لم تشهده أسواق النفط منذ أكثر من خمس سنوات.
على الجانب الآخر، تأتي نقطة التعادل المالي لروسيا بين النفقات والعائدات عند نصف ذلك تقريباً بنحو 42 دولاراً للبرميل، وبعد التحسينات الحادة في السنوات الأخيرة، أصبح المنتجون التجاريون في حوض بيرميان الأمريكي بالقرب من المستوى ذاته تقريباً.
يخلط تقدير بلومبيرغ هنا بين نقطة التعادل في ميزانية الحكومة لدى روسيا والسعودية، ونقطة التعادل في النفقات بالنسبة لميزانيات الشركات الأمريكية، لأنه يعتبر أن الحرب تدور بين السعودية وروسيا والشركات الأمريكية.
من يصرخ أولاً؟ البعض يواجه وضعاً كارثياً
ومع وصول سعر النفط لأدنى مستوى في تاريخه هذا الأسبوع، فإن السؤال هو: ما مدى قدرة اللاعبين الثلاثة على تحمُّل ألم ذلك الانخفاض؟ وأيضاً مدى قدرة الدول النفطية الشرق الأوسطية الأخرى إلى جانب السعودية على تحمُّل هذا الوضع.
وفقاً لتقرير أخير لصندوق النقد الدولي حول منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ركز على تداعيات فيروس كورونا الاقتصادية، فإنَّ تراجع أسعار النفط سيكون تأثيره أكبر على بعض الدول مثل العراق والجزائر والبحرين وسلطنة عمان، وهي دول لا تستطيع الوصول إلى نقطة تعادل في ميزانيتها إلا إذا ارتفع سعر النفط إلى أعلى من حاجز 80 دولاراً.
بينما الوضع لدى إيران كارثي، إذ تحتاج إلى وصول النفط إلى 140 دولاراً لكي تحقق تعادلاً في الميزانية.
بينما الكويت وقطر والإمارات في وضعٍ أفضل نسبياً، والسعودية أيضاً ولكن بصورة أقل من الدول السابقة.
وفقاً للتقرير، تحتاج قطر سعراً يدور حول 40 دولاراً، لكي تحقق تعادلاً بالميزانية، في حين تحتاج الكويت وصول النفط لمستوى أقل قليلاً من 60 دولاراً، والإمارات إلى سعرٍ أقل قليلاً من 70 دولاراً، في حين تحتاج السعودية نحو 78 دولاراً للوصول لتعادل الميزانية.
اللجوء إلى الاقتراض يبدو حلاً سهلاً
ومع كل ذلك، فإن عجزاً في الميزانية ليس نهاية العالم، بل إنه الوضع الطبيعي لمعظم الدول. فأسواق الائتمان المصرفي يمكن أن تشهد نشاطاً تجارياً قوياً ومستقراً، حتى لو كانت أسعار النفط منخفضة، ما دام المقرضون يتوقعون تعافي الأمور، كما أن هيمنة حالةٍ عامة من تجنب المخاطر الاستثمارية قد تعني أن الحكومات على وجه الخصوص يمكنها الاقتراض بأثمان بخسة، لأن الاسثمارات الخاصة المنافسة تتراجع في ظل هذه الأوضاع.
يبلغ العائد على سندات الحكومة السعودية المستحقة في أبريل/نيسان 2030، حالياً 2.38 %، وعلى الرغم من العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا، فإن سندات أجل عشر سنوات الروسية وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 2.56% في الأسبوع الأول من شهر مارس/آذار. وفي ظل الانخفاض الكبير في متوسط أسعار الفائدة (ليبور) [Libor: هو مقياس عالمي يمثل متوسط سعر الفائدة على القروض المتبادلة في أسواق لندن المالية]، فإن ديون الدرجة الاستثمارية الصادرة عن شركات الطاقة في الولايات المتحدة هي أيضاً رخيصة جداً، مع فروق أسعار معدلة حسب الخيار (option-adjusted spreads) تنطوي على معدل يبلغ نحو 2.95% في الوقت الحالي، لكن الفوارق بين التكلفة والعائد لسندات العائد المرتفع عالية المخاطر (junk debt) التي موّلت جزءاً كبيراً من طفرة النفط الصخري الأمريكية ارتفعت، لتصل إلى نحو 10.6%، وكان ذلك قبل الانهيار التاريخي الذي شهدناه هذا الأسبوع.
ولكن هذا يجعل الشركات الأمريكية في وضع خطير
في ظل اتجاه استمرار الجميع في ضخ النفط بعائدات لا تغطي التكاليف، فالمرجح أن أسواق رأس المال، لا أسواق السلع، هي التي ستحدد الفائزين والخاسرين في تلك المعركة.
وربما يجعل ذلك الشركات الأمريكية أكثر عرضة للخطر على المدى القريب.
ففي حين أن تحوطات أسعار النفط وبيانات الميزانيات العمومية للسندات الاستثمارية في تلك الشركات يمكن أن توفر وسادة لتقبّل صدمات الأسعار المنخفضة للنفط، فإن المساهمين باتوا أقل تحمساً حيال شركات إنتاج النفط الأمريكية منذ فترة من الوقت. وفي هذه البيئة، من غير المرجح أن يُظهروا كثيراً من الصبر على شركات مثل "إكسون موبيل" و"شيفرون" الأمريكيتين في حرب أسعار طويلة مع الحكومتين الروسية والسعودية، فضلاً عن أن الأوضاع ستكون أصعب بكثير على المنتجين الصغار ذوي الميزانيات الضعيفة.
أمَّا المشكلة الأكبر للسعودية فهي أنه حتى مع تراجع حصص شركات النفط الصخري الأمريكية، فإن ذلك سيجعل الهدنة الهشة التي تتمتع بها مع روسيا معرضةً لاختبار بالغ الصعوبة، تحديداً في الوقت الذي تلوح فيه التوقعات ببلوغ الطلب على النفط ذروته ثم استقراره في المستقبل القريب.
وقد نجحت استراتيجية الرياض بالضغط حتى النهاية والسباق نحو السعر الأقل في عام 1985، فقط لأنها كانت المنتِج الأقل تكلفة.
أما الآن، فمع أنها ما زالت المنتِج الأقل تكلفة، فإن ميزانيتها المتضخمة تعني أنها أحد اللاعبين الأعلى تكلفة، كما أنها الأكثر تأثراً باضطراب الأسعار، في ظل حاجتها لسعر تعادل يقارب 80 دولاراً.
إضافة إلى أنها لا تزال متورطة في مستنقع عسكري مكلف ووحشي في اليمن، وتعتقل كبار العائلة المالكة بدعوى أنهم خططوا للانقلاب على ولي العهد، حسب وصف بلومبيرغ.
وعلى الرغم من انقضاء أكثر من أربع سنوات منذ شروع الأمير محمد بن سلمان في إصلاحاته الاقتصادية التي كانت تهدف إلى تنويع اعتماد الاقتصاد على مصادر أخرى غير النفط، فإن الأوضاع الآن تشي بأن احتمال عودة أسعار النفط إلى مستويات التعادل بين النفقات والعائدات أبعد من أي وقت مضى. وحتى أسهم أرامكو السعودية يجري تداولها الآن بسعر أقل من سعر عرضها الأوَّلي.
الاعتماد على الصناديق السيادية.. الحذر الروسي يؤتي أكله
لدى الدول النفطية الكبرى، سواء الخليجية أو غير الخليجية، صناديق سيادية تستخدمها في أيام الأزمات.
وفي هذا الإطار، فإن حجم الصندوق السيادي واحتياطات العملة الأجنبية هو إحدى النقاط التي تُظهر قدرة الدول على الصمود في حرب أسعار النفط.
تمتلك المملكة العربية السعودية 480 مليار دولار من احتياطيات العملات الأجنبية يمكن الاعتماد عليها.
وأعلنت بالفعل عن إنفاق 13 مليار دولار للتعامل مع انخفاض إيرادات الميزانية.
في المقابل، تمتلك روسيا حتى 20 مارس/آذار 551 مليار دولار من احتياطيات العملات الأجنبية تحت تصرفها، على الرغم من أن الاقتصاديين اقترحوا أن بوتين يفضل عدم الاستفادة منها. ولكن خلال أسبوع واحد فقط، انخفضت هذه الاحتياطيات بالفعل بمقدار 30 مليار دولار.
عمِل بوتين على تنفيذ سياسة مالية أكثر تحفظاً وحذراً في السنوات الماضية، أدت إلى احتفاظه بمقدار أكبر من الاحتياطات من السعودية، رغم أن روسيا أكبر من حيث السكان؛ ومن ثم من حيث النفقات المحتملة.
استمرار الاقتراض قد يؤدي إلى تبديد ثروات الخليج التريليونية
وبينما يعد اللجوء إلى الاقتراض الحل الوحيد أمام دول الخليج، لا سيما السعودية حالياً، فإن صندوق النقد الدولي سبق أن حذَّر حتى قبل ظهور تداعيات كورونا الاقتصادية من أن الممالك العربية في الخليج تخاطر بتبديد ثروتها المالية البالغة 2 تريليون دولار في غضون 15 عاماً، مع اقتراب الطلب على النفط من مستويات الذروة.
وقال صندوق النقد الدولي في تقرير سابق له، إن الطلب العالمي على النفط قد يبدأ في الانخفاض في وقت أقرب مما كان متوقعاً، مما يضع ضغوطاً على الوضع المالي لمجلس التعاون الخليجي المكون من ستة أعضاء، والذي يمثل خُمس إنتاج العالم من النفط الخام.
ومن دون إصلاحات اقتصادية حاسمة، يمكن أن تستنفد أغنى دول الشرق الأوسط ثروتها المالية الصافية بحلول عام 2034، عندما تصبح المنطقة مديناً صافياً، كما يتوقع الصندوق.
وقال صندوق النقد الدولي في التقرير الذي أعده فريق من المتخصصين في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وكذلك قسم الأبحاث، ونُشر في فبراير/شباط 2020، إنه خلال عقد سيتم استنفاد ثروة دول الخليج النقدية.
وقال جهاد أزعور ، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، إن المحاولات في المنطقة بحاجة إلى التفكير على المدى الطويل والاستراتيجية، لأن سوق النفط يتغير هيكلياً من جانب الطلب والعرض.
من المرجح أن يبلغ الطلب العالمي على النفط ذروته حول 2041 عند نحو 115 مليون برميل يومياً وينخفض تدريجياً من هناك، وفقاً للتقرير.
وفي حين أن هذه التوقعات تتماشى تماماً مع معظم تقديرات الصناعة، يرى البعض -وضمن ذلك صندوق النقد الدولي- إمكانية انخفاض استخدام النفط بشكل دائم حتى قبل ذلك التاريخ.
ويعني تقرير صندوق النقد الدولي السابق أن روسيا ودول الخليج لديهم ثغرة زمنية أقصر مما يتوقعون، للاستعداد لفترة ما بعد النفط أو فترة يصبح فيها النفط سلعة هامشية.
ولكن السعودية وروسيا تضيّعان فترة ثمينة يُفترض أن تراكما فيها المدخرات استعداداً لهذه المرحلة، وبدلاً من ذلك تخوضان حرباً خاسرة لكلتيهما، تتبدد فيها مدخراتهما الثمينة السابقة.
ولكن الأسوأ أن صناعة النفط الصخري الأمريكية صناعة انتهازية، ولا يمكن التفاوض معها ولا يوجد لها ممثل مركزي يتحكم فيها.
فإذا اتفقت السعودية وروسيا على سعر مواتٍ لهما فسرعان ما ستزيد شركات النفط الصخري الأمريكية إنتاجها، لتستولي على حصتهما من الأسواق.
ولقد رفض الأمريكيون مقترحات بأن يتم التحكم في الكميات المنتجة من النفط الصخري.
يسارع منتجو النفط الصخري الذين يُعدّون من أخلص مؤيدي ترامب للصراع وطلب النجدة منه، لإنقاذهم من طوفان النفط السعودي، ولكنهم لن يقبلوا منه أن يحدد حجم إنتاجهم كما يطالب هو موسكو والرياض.
الكل خاسر
و"على الرغم من الجرأة التي سمعناها من الجانبين الروسي والسعودي، فإن الأمر لا يتعلق بمن لديه أقل تكلفة للإنتاج وربحية أعلى. إن هذا يتعلق بتمويل الميزانيات، وبالنسبة لتوسُّع كل من روسيا والسعودية في حجم الميزانيات الحكومية فإنه كان كبيراً في السنوات الأخيرة".
ويقول كريس ويفر، المؤسس المشارك لشركة Macro الاستشارية في موسكو: "الحقيقة هي أن كلتيهما بحاجة إلى صفقة لوضع دعم أفضل للأسعار".
فغالباً ما تتوقع البلدان التي تشرع في الحروب أنها ستنتهي منها في غضون بضعة أشهر، لتكتشف بعد ذلك أن خصومها كانوا أقوى بكثير مما كانت تعتقد. وإذا تحولت حرب أسعار النفط إلى صراع طويل، فمن غير المرجح أن تكون موسكو أول لاعب يطلق صرخة الاستسلام.
كما أنه يبدو أنه في حروب النفط كما في الحروب التقليدية، فإن خسائر الجميع في الأغلب تكون أكبر من المكاسب، فحتى المنتصر يضحك كثيراً وينزف كثيراً أيضاً.