تمثل كل كارثة فرصة سانحة لبعض الدول لتحقيق أغراض استراتيجية على المدى البعيد، وعلى الرغم من فداحة وباء كورونا وتهديده للعالم، فإن روسيا بزعامة فلاديمير بوتين تتعامل مع الجائحة على أنها فرصة لاستعادة نفوذها الدولي كقوة عظمى، فما القصة؟
موقع صحيفة بوليتيكو الأمريكية نشر تقريراً بعنوان: "موسكو تستغل جائحة كورونا في شن حملاتها الدعائية وتعزيز قوتها الناعمة"، ألقى الضوء على التحركات الروسية وأهدافها واحتمالات نجاحها.
دبلوماسية كورونا
في وقت تنتشر فيه جائحة كورونا وتهيمن على الأجواء، يبدو أن روسيا قررت اتباع المقولة المأثورة بأنك يجب ألا تدع أزمةً جيدة تذهب سدى أبداً.
إذ عمِدَ الكرملين ضمن مساعيه للاستفادة من الفوضى الواقعة وتعزيز قوته الناعمة، إلى الاحتذاء بمثال بكين، والبدء في إمطار الدول المتعثرة بالحب بواسطة مساعداته الطبية، وتكثيف جهوده لبث الدعاية ونشر المعلومات المضللة عبر وسائل الإعلام الحكومية ومواقع التواصل الاجتماعي.
وهكذا رأينا في شهر مارس/آذار الإمدادات الطبية المنقولة جواً إلى إيطاليا يزينها شعار "من روسيا مع الحب". والأدهش من ذلك إرسال روسيا 122 خبيراً في مجال الحروب البيولوجية، برفقة طواقم طبية بالطبع، إلى إيطاليا.
ثم شكلت مشاهد القافلة الروسية المكونة من 22 شاحنة عسكرية، وهي تقطع الأراضي الروسية كما لو كانت قوة احتلال، انقلاباً دعائياً لموسكو، التي استخدمت الصور للترويج لفكرة أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي قد تخلوا عن إيطاليا في ساعة الحاجة، حتى إن قناة Rossiya 1 TV التابعة للحكومة الروسية تبجحت بنقل لقطات المساعدات تحت عنوان "قافلةٌ روسية تسافر على طرق الناتو".
كما أخذ التلفزيون الروسي يعرض مراراً وتكراراً مقطع فيديو لرجل إيطالي ينكس علم الاتحاد الأوروبي ويرفع مكانه علم روسيا بألوانه الثلاثة، مع لافتة تقول "شكراً لك بوتين"، وذلك بغض النظر عن أن وسائل الإعلام الإيطالية ذكرت لاحقاً أن أشخاصاً تلقوا مبالغ نقدية بقيمة 200 يورو مقابل تصوير رسائل الامتنان.
وعلى النحو ذاته، أرسلت روسيا مساعدات أيضاً إلى البلدان المتضررة بشدة في نطاق نفوذها، مثل صربيا وبيلاروسيا، وباعت إلى الولايات المتحدة معدات طبية كانت في أمس الحاجة إليها، مستدعيةً ترحيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
صرف النظر عن المتاعب الداخلية
التكتيك مألوف، ويتماشى مع الجهود الأوسع نطاقاً لتقويض الثقة في النظام الليبرالي الغربي، لكن تحركات العلاقات العامة تلك تخدم أيضاً هدفاً آخر، وربما أشد أهميةً: ففي الداخل الروسي، تصرف هذه التحركات الأنظار عن الارتفاع الهائل في عدد الحالات المصابة بفيروس كورونا، ويعزز التصورات المحلية عن حنكة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهيمنته على الساحة الدولية.
وعن ذلك، يقول رافاييل ماركيتي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة لويس في روما: "من جهة القوة الناعمة، فإن إرسال مساعدات إلى دولة ما يخلق ترتيباً هرمياً آخر، فالبلد الذي يقبل المساعدة يبدو أضعف وأعجز عن مواجهة الأزمة".
وتتضارب الروايات حول ما قد تؤول إليه حملة موسكو الإنسانية لتقديم المساعدات؛ فعلى سبيل المثال، تحافظ "حركة النجوم الخمسة" MoVimento 5 Stelle، وهي أحد التنظيمات المشاركة في الائتلاف الحاكم في إيطاليا، على موقف ودي إزاء روسيا، وتعتبر ذلك تماشياً مع موقفها العام المناهض للمؤسسات القائمة ورفضها لمصالح الهيمنة التي يمثلها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومن ثم حاولت الحركة إرجاع الفضل في تدفق المساعدات الروسية إليها، مستشهدةً بالصداقة الطويلة بين روسيا والتنظيم.
ويأتي ذلك على الرغم من أن الصداقة مع الكرملين تعد قضيةً حساسةً في إيطاليا، لدرجة يخضع معها رئيس حزب "رابطة الشمال" اليميني المتطرف، ماتيو سالفيني، للتحقيق حالياً بسبب قبوله تمويلاً لحزبه من روسيا، كما حذر "الحزب الراديكالي" اليساري من أن إيطاليا باتت "عرضةً لخطر الاستغلال من أنظمة سلطوية"، وأن المساعدات قد تكون "معول هدمٍ داخلياَ أكثر منها مساعدات تقربٍ حقيقية".
قلق المؤسسات الأوروبية
والدليل على ذلك ما قاله الجنرال الأمريكي تود ولترز، القائد العام لقوات الناتو في أوروبا، للصحفيين في أحد المؤتمرات الصحفية مؤخراً، حيث قال: "أنا معنيّ بشدة بنفوذ روسيا الضار والمتغلغل. إنه مصدر قلق… ونحن في حلف شمال الأطلسي متيقظون له للغاية، ومستمرون في مراقبته إلى أقصى درجة".
على الجانب الآخر، فإن القيمة الفعلية للمساعدات الروسية مشكوك فيها. إذ يتمتع الجيش الإيطالي بقدراته العالية الخاصة فيما يتعلق باحتواء الأوبئة. وقد تبرعت روسيا بـ 300 ألف قناع فقط، مقارنة بـ 2 مليون قناع تبرعت بها كل من فرنسا وألمانيا، كما أن المستشفى الميداني في بيرغامو، حيث تعمل الفرق الطبية الروسية، فارغ بنسبة تصل إلى 80 %.
فيما ذهبت تقارير إعلامية إيطالية، نقلاً عن مصادر عسكرية، إلى أن الغرض الحقيقي من الوفود الروسية هو جمع معلومات استخباراتية، لكن ماركيتي، الأستاذ بجامعة لويس، يقول :"إنها فرصة جيدة لروسيا لتدريب أطبائها على مواجهة الوباء. فاحتمال حصول الروس على أي استخبارات عسكرية احتمالٌ بعيد، إذ لديهم قنوات أخرى لذلك".
وأشار آخرون إلى أن بوتين استهدف إيطاليا، لأنه ينظر إليها على أنها الحلقة الأضعف التي قد تساعده في تخفيف وطأة العقوبات المفروضة على روسيا منذ عام 2014 بعد ضمه شبه جزيرة القرم. ومع ذلك، فإن رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي شدد على أن هذا لم يكن على أي نحو جزءاً من اتفاق المساعدات.
وقد لخص دبلوماسي أوروبي متقاعد رأيه بالقول: "من المرجح أن تكسب روسيا القليل من بادرة حسن النية تلك على المدى الطويل، وقد يكون هناك بعض الإيطاليين الذين تأثروا بالفعل، لكن لفتة صغيرة كهذه لا تزن الكثير مقابل الثابت عن طبيعة روسيا تحت حكم بوتين، ومن ثم من السابق لأوانه القلق بشأن جنوح إيطالي نحو الشرق".
حملات التضليل
وبعيداً عن القوافل العسكرية، لجأ الكرملين أيضاً إلى تكتيك لطالما أثبت فعاليته بنشر الارتباك والحملات المضللة عبر الإنترنت. إذ عمل الكرملين عبر مواقع الويب التي يمولها على نشر معلومات مغلوطة عن الفيروس وجهود مكافحته، هادفاً إلى إضعاف ثقة الجماهير الغربية بحكوماتها والانتقاص من فعالية جهودهم في مكافحة الفيروس.
وأشارت ليا غابرييل، وهي مبعوثة خاصة في "مركز الارتباط العالمي" بوزارة الخارجية الأمريكية، إلى أن كلاً من الاتحاد الأوروبي ووزارة الخارجية الأمريكية نددوا بتلك الحملات المنتشرة عبر الإنترنت، "لما تمثله من تهديد متهور للجهود الصحية العالمية"، لأنها تحفز الأفراد على تسيير أمورهم بطريقة تتعارض مع الإرشادات التي تقدمها الحكومات والوكالات الصحية.
وفي تقرير جديد أصدرته "هيئة العمل الخارجي" التابعة للاتحاد الأوروبي يوم الثلاثاء 21 أبريل/نيسان، قالت شعبة (ستراتكوم) التابعة للاتحاد إن "المصادر الرسمية الروسية ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التابعة للدولة تشنُّ حملات منسقة لنشر معلومات صحية مغلوطة يمكن أن يكون لها ضرر مباشر على الصحة العامة والأمن".
وتبث وسائل الإعلام الروسية، مثل Russia Today ووكالة Sputnik، معلومات من نوعية أن غسل اليدين ليس له أي فعالية في مواجهة فيروس كورونا، كما تنشر بعض المواقع التي تمولها الدولة علاجات وهمية مثل محلول الملح، وفيتامين ج والزنك. هذا وقد أفضت تلك المعلومات المضللة بالفعل إلى أعمال شغب في أوكرانيا، وهجمات الحرق المتعمد لأبراج شبكة "الجيل الخامس" للاتصالات في المملكة المتحدة، بدعوى أنها السبب في انتشار فيروس كورونا.
على الجانب الآخر، زعمت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن روسيا "صدمتها" تلك الاتهامات بأنها تنشر معلومات مضللة للجمهور، وقالت إنه "من المثير للسخرية أن تستخدم الدول الغربية فيروس كورونا لمهاجمة روسيا".
لكن، وعلى المدى الطويل، فإن تلك الحملات يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، لأن المعلومات المضللة ذاتها التي تستخدمها روسيا عادةً لتعزيز التصورات العامة بشأن فعالية سياساتها، يمكن أن تسبب ارتباكاً لمواطنيها في الداخل، وربما تسهم في تفاقم تفشي المرض في روسيا.
تقول ناتاليا كرافيفا، المستشارة القانونية لمنظمة Access Now، وهي منظمة معنية بمراقبة حقوق الإنسان عبر وسائل الإعلام الرقمية، إن الحكومة الروسية زعمت قبيل التصويت العام على التعديلات الروسية التي تسمح لبوتين بالبقاء في السلطة لمدتين أخريين، أن الفيروس مجرد خدعة كبيرة وليس له تأثير على روسيا.
وعلى الرغم من تأجيل التصويت بعد ذلك، نتيجة لارتفاع حالات الإصابة بالفيروس في روسيا، فقد نجم عن الحملات الإعلامية أن بات الناس في حيرة من أمرهم بشأن الأزمة الصحية، "فهم لا يثقون بالحكومة. ويعتقدون أن ثمة مؤامرة ما".
وهو ما دفع كرافيفا إلى القول إن روسيا بتضارب بياناتها حول الفيروس تخاطر بأن تصبح ضحية للمعلومات المضللة ذاتها التي سبق أن نشرتها، ومع ذلك "فإن الشعب الروسي هو الذي يعاني ويدفع الثمن الأكبر في كل ذلك".