فعلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأعلن وقف التمويل الأمريكي لمنظمة الصحة العالمية، في خضم وباء كورونا الذي يجتاح العالم، مثيراً بذلك عاصفة من الانتقادات محلياً ودولياً، فكيف يمكن أن يؤثر القرار "الترامبي" في المعركة المستعرة ضد الفيروس القاتل على أرض الواقع؟
ماذا قال ترامب لتبرير قراره؟
مساء أمس الثلاثاء 14 أبريل/نيسان، قال الرئيس الأمريكي إنه أصدر تعليمات لإدارته بوقف التمويل عن منظمة الصحة العالمية بسبب طريقة تعاملها مع وباء فيروس كورونا، وأضاف في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض أن منظمة الصحة العالمية "أخفقت في واجبها الأساسي ويجب محاسبتها".
ترامب قال إن وقف التمويل سيكون مؤقتاً لمدة شهرين إلى ثلاثة لمراجعة وتدقيق تحذيرات منظمة الصحة العالمية بشأن الفيروس "وتواطؤها الواضح مع الصين"، مضيفاً أن الولايات المتحدة قدمت 400 مليون دولار للمنظمة العام الماضي، وأن من حق دافعي الضرائب الأمريكيين أن يعرفوا كيف وظفت المنظمة تلك الأموال.
واتهم ترامب المنظمة الدولية بسوء إدارة الكارثة والتستر على حجم التهديد الذي تمثله، من خلال التأخر في إعلان الفيروس جائحة عالمية، رغم أنها أعلنته حالة صحية عالمية طارئة في 30 يناير/كانون الثاني.
هل ما قاله ترامب صحيح؟
ربما يكون أبرز ما قاله ترامب تبريراً لقراره هو أن منظمة الصحة العالمية قد فشلت في "القيام بواجبها الأساسي، ولابد من تحميلها المسؤولية"، فما هو الواجب الأساسي للمنظمة؟ وهل فشلت فيه؟
الواجب الأساسي لمنظمة الصحة العالمية – بحسب دستورها المؤسس – هو الحفاظ على سلامة العالم وتحسين مراقبة البيانات والمعلومات فيما يتعلق بالأوبئة والأمراض المعدية، ويبرز هنا دور المنظمة في الجائحة التي يواجهها العالم الآن والتي أصابت أكثر من مليوني شخص وأودت بحياة أكثر من 128 ألف شخص حول العالم، بحسب بيانات اليوم الأربعاء 15 أبريل/نيسان.
ليزلي داك، رئيس "حماية رعايتنا" الأمريكية، وهي أحد اللوبيات في مجال الصحة، قال لصحيفة الغارديان البريطانية إن وقف تمويل الصحة العالمية "ما هو إلا محاولة من جانب الرئيس ترامب لتحويل الأنظار عن تاريخه في التقليل من خطورة كارثة كورونا وفشل إدارته في إعداد الولايات المتحدة بشكل جيد".
داك، الذي شغل منصب المنسق الدولي لوباء إيبولا في وزارة الصحة الأمريكية، أضاف أن منظمة الصحة العالمية "بالتأكيد ارتكبت أخطاء (في التعامل مع وباء كورونا) لكن قرار وقف التمويل لها الآن هو قرار غير مسؤول وهي خطوة بالتأكيد ستعرض حياة مزيد من الأمريكيين للخطر".
ما دور المنظمة في معركة كورونا على أرض الواقع؟
بعيداً عن دوافع ترامب وراء قرار تعليق التمويل الأمريكي للمنظمة أو وقفه، وهي على الأرجح وبإجماع ردود الأفعال داخلياً وخارجياً دوافع سياسية وانتخابية بحتة هدفها التغطية على أخطاء ساكن البيت الأبيض الكارثية، لكن يظل السؤال الأبرز هنا مرتبطاً بدور المنظمة العالمية في المعركة المستعرة حالياً ضد الوباء القاتل.
بداية الانتقادات الموجهة لمنظمة الصحة العالمية ومديرها الإثيوبي تيدروس أدهانوم غيبرسيوس ليست "ترامبية" بشكل حصري، فالمنظمة أصبحت هدفاً لانتقادات عنيفة من جانب منظمات غير حكومية وناشطين في مجال الصحة ومسؤولين في دول أخرى بسبب سلسلة الأخطاء الكارثية التي ارتكبتها، بل إن هناك دعوات منتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وحملة جمع توقيعات لإقالة ومحاسبة غيبرسيوس نفسه.
رئيس وزراء أستراليا سكوت موريسون أحد أبرز المنتقدين للمنظمة وشن هجوماً لاذعاً عليها مؤخراً بسبب فشلها في "تقديم النصيحة للصين كي لا تعيد فتح أسواق الحيوانات – توصف بالأسواق الرطبة – ومنها السوق الشعبي في ووهان حيث ظهر فيروس كورونا"، وقال موريسون: "بشأن قضية الأسواق الرطبة، أعتقد أن الأمر مربك للغاية. أنا ببساطة لا أفهم هذا الموقف"، بحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية اليوم.
الدور الأساسي لمنظمة الصحة العالمية في المعركة الدائرة حالياً ضد فيروس كورونا لا علاقة له بالجانب التنفيذي على الأرض، سواء في اتخاذ إجراءات الوقاية ومحاصرة التفشي – فهذه قرارات سيادية تتخذها كل دولة على حدة – ويقتصر دور المنظمة على توجيه الإرشادات الصحية العامة ويمكن للدول أن تأخذ بها أو لا تأخذ.
ومن ناحية البحث عن علاج أو لقاح – وهي معركة ضد الزمن وسلاحها الأساسي التمويل الضخم والمعامل وتوفر المعلومات والبيانات الخاصة بمنشأ الفيروس والتوصل لما يعرف بالمريض صفر – نجد أنها معركة أيضاً لا يبدو لمنظمة الصحة العالمية دور واضح ولا حاسم فيها، وتقوم بها الدول والمعامل والجمعيات العلمية، وبالنسبة للمواطنين والإعلام كل يوم هناك تقارير تصدر عن تلك الجهات تحمل معلومات تبدو متضاربة في كثير من الأحيان، والمؤكد أن السباق نحو التوصل للقاح على أشده بين الدول الكبرى.
ما نشاهده يومياً من جانب منظمة الصحة العالمية – سواء من خلال مقرها الرئيسي في جنيف أو من خلال مكاتبها الإقليمية حول العالم – هو مؤتمرات صحفية نسمع فيها في أغلب الأحيان ما يردده وزراء الصحة ومسؤولوها في الدول، وإشادات متكررة بجهود الدول جميعاً تقريباً، باستثناء إيران ربما، والسؤال هو ماذا لو توقفت تلك الفعاليات؟ وكيف لها أن تؤثر على المعركة التي تخوضها الحكومات والأطقم الطبية في محاربة الفيروس؟
هل فشلت المنظمة في تأدية واجبها الأساسي؟
الواقع أن الدور الأساسي لمنظمة الصحة العالمية يكمن في التحقق وتدقيق المعلومات التي تصدرها الدول بشأن الأمور الصحية، وبالتحديد الأوبئة والأمراض المعدية، وتقييم الموقف بشكل محايد تماماً لا يتحكم فيه سوى العنصر الصحي فقط، لكن سير الأمور منذ التقارير الأولى المتعلقة بهذه المعركة ضد فيروس كورونا يشير إلى أن ذلك لم يحدث، أما أسباب عدم حدوثه فتحتاج لتحقيق مكثف ليس هذا وقته، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أكثر من مرة.
منذ منتصف ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، كانت هناك تقارير منتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي من داخل مدينة ووهان الصينية تتحدث عن فيروس معدٍ وحالات إصابة ووفيات، وقامت السلطات الصينية باعتقال وقمع من ينشر أو يتداول تلك التقارير، وهناك حالة مؤكدة لم تنكرها الصين وهي اعتقال الطبيب لي وينليانغ الذي حذر من الفيروس في إحدى غرف الدردشة أون لاين يوم 30 ديسمبر/كانون الأول، وتم اعتقاله في نفس اليوم وإجباره على توقيع اعتراف بأنه "نشر إشاعات لا أساس لها من الصحة" بهدف الإساءة لصورة البلاد.
الطبيب الشاب توفي بسبب الفيروس الذي حاول تحذير بلاده والعالم من خطورته وذلك يوم 7 فبراير/شباط، وظلت قضية اتهامه بنشر الشائعات متداولة أمام المحاكم الصينية، وصدر قرار تبرئته بعد أكثر من شهر ونصف من وفاته، وسط انتقادات بأن التحقيق توقف قبل الوصول للمتهم الحقيقي الذي أصدر قرار اعتقال الطبيب وإجباره على الاعتراف الزائف، مما تسبب في إضاعة "الوقت الذهبي" للقضاء على الفيروس في مهده وإنقاذ الملايين في الصين والعالم أجمع.
إخفاء الصين للحقيقة بشأن الفيروس والتستر كان يجب أن يكون حجر الزاوية منذ اللحظة الأولى في تقارير منظمة الصحة العالمية، فهذا هو دورها الأساسي، لكن واقع الأمر أن المنظمة ومديرها غيبرسيوس لم يكتفوا باعتماد البيانات الصينية وتبنيها كما هي دون تحقق أو تدقيق فقط، وإنما تكررت الإشادة بالصين وإجراءاتها وشفافيتها في التعامل مع الفيروس.
لكن القرار الصادر عن المنظمة باعتبار الفيروس جائحة عالمية يوم 11 مارس/آذار هو اللغز الذي يحتاج لتوضيحٍ أكثر إقناعاً من التفسير الذي قدمه مدير المنظمة والمدافعون عنها وهو أن "المنظمة تتخذ مواقفها بناء على المعلومات التي تمدها بها الدول"، فإذا كان الأمر كذلك، فما الداعي لوجود منظمة الصحة العالمية من الأساس؟ وما حجم التأثير الذي قد ينتج عن اختفاء دور المنظمة من المعركة الجارية حالياً؟ هذه بالطبع تساؤلات يطرحها المنتقدون لدور المنظمة في ضوء حقيقة أنها لا تقدم مساعدات طبية للدول – فهي لا تملك لا التمويل ولا القرار – ولا دور لها في التأكد من بيانات الدول وتصريحاتها بشأن انتشار التفشي أو ضحاياه حتى الآن، ولا دور لها في البحث عن لقاح.