من بين المدن الكثيرة التي رأيتها في العالم، لم أر مدينة تماثلها في قوتها ونظافتها، حتى أنها لتبدو كمدينة إمبراطورية"، بهذه الكلمات وصف الكونت "بيترو دي نافارا" أحد القادة الإسبان، طرابلس عقب احتلالها في 1510م، ويبدو أن هذه الكلمات قد تكشف بعض أسرار عجز خليفة حفتر، عن اقتحام العاصمة طرابلس منذ عام كامل.
فبرغم الدعم الذي يتلقاه من دول كبرى وأخرى إقليمية على غرار روسيا وفرنسا والإمارات ومصر والسعودية وحتى مؤخراً من النظام السوري، فضلاً عن مرتزقة من أوروبا الشرقية وإفريقيا، فإن المقاومة "الملحمية" التي تبديها قوات حكومة الوفاق، المعترف بها دولياً، أمام أجناس متعددة اللغات والألوان مختلفة المصالح والأهداف، حرمت حفتر من "نصر قريب"، كما تعهد أكثر من مرة وأخلف، بحسب ما ورد في تقرير لوكالة الأناضول.
اليأس والوباء.. مأساة نابليون عِبرة لحفتر
ولحد اليوم، لا تزال هجمات حفتر تتكسر على أسوار "السراي الحمراء" (أشهر قلاع طرابلس التاريخية)، مثلما دفن القائد الفرنسي نابليون بونابرت، أحلامه في حكم العالم تحت أسوار مدينة عكا الفلسطينية، بعد حصار دام 62 يوماً.
وتهدد جائحة "كورونا" التي بدأت بالظهور في ليبيا أيضاً بهلاك من تبقى من مسلحي حفتر، على غرار ما حدث لجيش نابليون بعدما اجتاحه الطاعون في 1899، فاندحر منسحباً غرباً نحو مصر، في حين لا يزال الأول يكابر، ولو قرأ التاريخ جيداً لأعاد ميليشياته شرقاً من حيث جاءت، قبل أن ينهشها اليأس وتعوي عليها ذئاب الهزيمة ويفتك بها الوباء، فمعركة طرابلس ليست كمثلها من المعارك في البلاد، وصمود القوات الحكومية أمام ميليشيات حفتر ومرتزقته طيلة عام كامل، يشبه الصمود الأسطوري لمدينة ستالينغراد السوفيتية أمام الحصار النازي لقرابة نصف عام (بين 21 أغسطس/آب 1942 و2 فبراير/شباط 1943). ومثلما كانت ستالينغراد منعرجاً لهزيمة أدولف هتلر، في الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، فإن اندحار حفتر بطرابلس سيكون، بدون أدنى شك، نهاية حلمه في حكم ليبيا.
طرابلس ليست بنغازي
مرت أيام وأسابيع بل أشهر طويلة دون أن تقتحم ميليشيات حفتر طرابلس، رغم أنها أعلنت مع بداية هجومها في 4 أبريل/نيسان 2019، أن الأمر لن يستغرق سوى 48 ساعة، لكن وبعد مرور عام، أصبح الحديث في شرق ليبيا عن نموذج بنغازي (مدينة تبعد ألف كلم عن طرابلس) التي تطلبت عملية السيطرة عليها أربع سنوات (2014-2017) وكلفت حياة آلاف المسلحين، ناهيك عن الخسائر المادية الكبيرة، لكن هل فعلاً معركة طرابلس تشبه بنغازي؟
الأكيد أن الأمر مختلف تماماً ومن عدة جوانب، رغم بعض أوجه التشابه، ففي بنغازي تشكل تحالف بين كتائب ثوار المدينة الذين أطاحوا بنظام معمر القذافي في 2011، وتنظيم "أنصار الشريعة" المتشدد، تحت اسم "مجلس شورى ثوار بنغازي"، بهدف صد محاولة حفتر السيطرة على المدينة في 2014. ولم يكن عدد مسلحي "شورى بنغازي" يتجاوز بضع مئات، مزودين بأسلحة خفيفة ومتوسطة وعدد من الآليات المسلحة، لكنهم لا يملكون طائرات حربية ولا منظومة دفاع جوي، بينما تسيّد طيران حفتر وحلفائه الدوليين سماء المعركة بدون منازع.
كما أن "شورى بنغازي" كان يفتقد لحاضنة شعبية كبيرة باستثناء أحياء قليلة وسط المدينة، في حين أن أغلب أحياء بنغازي والمدن المحيطة بها تقطنها قبائل داعمة لحفتر، أو سكان موالون لنظام القذافي (اللجان الثورية)، مما أدى إلى ظهور الصحوات أو الخلايا النائمة، الذين قلبوا انتصارات "شورى بنغازي" إلى هزيمة.
"ثوار بنغازي"، كانوا يفتقدون الدعم الدولي، وتطاردهم شبهة التطرف، خاصة بعد تحالفهم مع "أنصار الشريعة" في إطار مقولة "عدو عدوي صديقي"، لكن دخول تنظيم "داعش" إلى بنغازي في 2015 للقتال ضد حفتر، ألصق بثوار بنغازي شبهة أخرى هي "التنسيق مع الإرهاب".
وبعد دخول حكومة الوفاق إلى طرابلس في 2016، وتآكل سلطة حكومة الإنقاذ في العاصمة، فقدَ "ثوار بنغازي" آخر دعم سياسي وعسكري لهم من غرب البلاد، خاصة بعد أن تولى أحد خصومهم في المدينة وزارة الدفاع في حكومة الوفاق (المهدي البرغثي) وكانت نهايتهم محتومة، رغم مقاومتهم الشرسة.
وعلى العكس من ثوار بنغازي، تمتلك حكومة الوفاق، الشرعية الدولية، وتحظى بحاضنة شعبية واسعة في طرابلس وفي عدة مدن بالغرب الليبي، عَكَستها المظاهرات الحاشدة التي خرجت في الذكرى التاسعة للثورة الليبية في 17 فبراير/شباط 2020، المنددة بحفتر.
كما تملك القوات الحكومية جيشاً يضم عشرات الآلاف من المقاتلين، بالإضافة إلى آلاف الآليات المسلحة ومئات الدبابات، وطائرات نفاثة ومسيرة، ومنظومة دفاع جوي بطرابلس ومصراتة، وهو ما وازن الأمر مع طيران حفتر إلى حد ما، بل تفوق عليه مؤخراً.
وتحيط بطرابلس، مقر الحكومة الليبية، مدن قوية وداعمة لها مثل مصراتة (200 كلم شرق طرابلس) والزاوية (50 كلم غرب طرابلس) وغريان (100 كلم جنوب طرابلس) وشطر من الزنتان (170 كلم جنوب غرب طرابلس)، بالإضافة إلى زوارة (100 كلم غرب طرابلس).
وهذه المدن لا تكمن أهميتها فقط في قربها من طرابلس، بل في كتلتها البشرية التي تعادل لوحدها أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم أزيد من 6.5 مليون نسمة، وما يمثله ذلك من قوة بشرية استعانت بها الحكومة في حشد مزيد من القوات وتحقيق التفوق العددي على ميليشيات حفتر.
ولعبت قوات الوفاق، الدور الأبرز في القضاء على ما يسمى "إمارة داعش" في مدينة سرت ومحيطها (450 كلم شرق طرابلس)، وعناصره في مدينة صبراتة (70 كلم غرب طرابلس)، وفي العاصمة ذاتها التي تلقت عدة هجمات من التنظيم الإرهابي، مما يجعل الدعاية التي روجها حفتر في بنغازي حول مكافحته للإرهاب غير قابلة للإسقاط على طرابلس.
لذلك فتعويل ميليشيات حفتر على عامل الزمن لدخول طرابلس "رهان خاسر"، خاصة وأن معظم عناصرها يقاتلون بعيداً عن ديارهم وأهاليهم، ولا بد أن يتسلل اليأس والملل يوماً ما إلى نفوسهم، ويفقدهم حماسة القتال.
فضلاً على أن عودة طيران الوفاق لاستهداف خطوط الإمداد البعيدة والطويلة لميليشيات حفتر من شأنه استنزافها، وإفقادها القدرة على التقدم أكثر، لكن أخطر ما في الأمر أن يتسرب فيروس كورونا إلى ساحات القتال، فيهدد بفناء الجميع، ولن تكون هناك أرض تصلح حينها لتُزهق الأرواح من أجلها.