تواجه الصين اتهامات علنية من جانب بعض المسؤولين الأوروبيين بأنها تستغل تفشي جائحة كورونا بغرض التمدد جيوسياسياً فيما يمكن وصفها بدبلوماسية الفيروس، فماذا تعني؟ وهل هذا ما تفعله بكين؟ وما غرضها من ذلك إن كان صحيحاً؟
استياء أوروبي معلن
اتهمت وزيرة الدولة الفرنسية للشؤون الأوروبية أميلي دو مونشالان الصين، وكذلك روسيا "باستغلال" مساعداتهما الدولية و "إبرازها"، وفي 24 مارس/آذار الجاري، أعرب وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن استيائه من "الصراع العالمي على كيفية رواية الأحداث"، و "الصراع على السلطة" القائم عبر "تشويه" الوقائع وسياسة السخاء".
وذكّر بأنه إذا كانت هناك اليوم "محاولات لتشويه سمعة أوروبا، ففي يناير/كانون الثاني الماضي كانت الأزمة الصينية متركّزة في هوبي، وتفاقمت بسبب إخفاء مسؤولين في الحزب (الشيوعي) الصيني معلومات أساسية". وأضاف أن "أوروبا قدّمت المساعدة للصين كما تفعل الأخيرة اليوم". ورأى أن الصين تقوم أيضاً "بتمرير رسالة بشكل هجومي، مفادها أنها على عكس الولايات المتحدة شريك مسؤول وموثوق".
سخرية صينية
الصين من جانبها سخرت من الاتهامات الأوروبية على لسان المتحدثة باسم خارجيتها أمس الإثنين 30 مارس/آذار واصفة إياها "بالمثيرة للضحك"، وأضافت هوا شونيينغ: "سمعتُ مرات عدة الغربيين يذكرون كلمة "دعاية" بالنسبة إلى الصين؛ وأرغب في أن أسألهم: عما يتحدثون تحديداً؟" وتساءلت: "ماذا يريدون؟ أن تبقى الصين مكتوفة اليدين أمام هذا الوباء الخطير!"
ما القصة إذن؟
كي تتضح الصورة الأكبر هنا، علينا العودة إلى يوم 10 مارس/آذار الجاري عندما زار الرئيس الصيني شي جينغ بينغ مدينة ووهان -حيث ظهر فيروس كورونا المستجد أو كوفيد-19- وأعلن انتصار بكين على الفيروس، وهي الصورة التي صدرتها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الصينية وانتشرت حول العالم لتظهر شي في صورة الزعيم الذي قهر الفيروس.
في ذلك الوقت، كان الفيروس قد تفشى في أوروبا وحول العالم بصورة أثارت الذعر، وأعلنت منظمة الصحة العالمية في مؤتمر صحفي لمديرها تيدروس أدهانوم غيبريسيوس يوم 11 مارس/آذار تحول الفيروس إلى وباء عالمي أو جائحة، وكانت إيطاليا تواجه كارثة بكل المعاني مع الارتفاع الرهيب في أعداد المصابين والوفيات.
ومع انتشار الرعب من الفيروس في أرجاء القارة العجوز التي تحولت لبؤرة للتفشي، بدأت الصين في إرسال أطقم طبية في طائرات محملة بأطنان من الكمامات وأجهزة الكشف عن الفيروس إلى إيطاليا وسط حملة إعلامية مكثفة، تحولت إلى حدث يومي، ليس فقط لإيطاليا ولكن إلى أي دولة تطلب أو تحتاج تلك المساعدات، وتزامن ذلك مع تكثيف الحملة الإعلامية التي تركز على استعداد بكين لقيادة جهود مكافحة الفيروس حول العالم، فيما أطلق عليها البعض "دبلوماسية القناع".
ضرب عصفورين بحجر واحد
هناك جزء من الصورة له علاقة بالاتهامات الموجهة للصين بالتستر على الحقيقة بشأن الفيروس ونشأته مما أدى لخروجه عن السيطرة وتفشيه حول العالم، وهو ما يدفع الصين لعدم الانتظار حتى يتم احتواء الجائحة، بل دفعها لتكثيف تحركاتها على المسرح العالمي لتقديم المساعدات وقيادة جهود المكافحة، جنباً إلى جنب مع محاولات تغيير الرواية بشأن منشأ الفيروس من خلال الترويج لنظريات المؤامرة واتهام الولايات المتحدة الأمريكية بأنها منشأ الفيروس.
هذه النقطة تحديداً لم تعد خافية على أحد، وقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية اليوم الثلاثاء 31 مارس/آذار تقريراً بعنوان: "لعبة تبادل الاتهامات بشأن فيروس كورونا بين الولايات المتحدة والصين تقوض الدبلوماسية"، تناول فيه اشتعال الحرب الكلامية بين واشنطن وبكين في وقت يصارع العالم الزمن للتعامل مع الدمار البشري والاقتصادي من جراء الجائحة.
"سيكون هناك متسع من الوقت عندما تنتهي هذه الحالة الطارئة العالمية كي نتوصل إلى كيفية تعريض أفعال الحزب الشيوعي الصيني العالم بأسره للخطر عندما تستروا على التفشي الأول للفيروس، ولكننا الآن في وسط الكارثة وعلى الصين والولايات المتحدة وباقي العالم أن يركز على مكافحة الجائحة"، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية.
هذه الحقيقة بالتحديد هي مربط الفرس كما يقال، فالصين سيطرت بالفعل على تفشي الفيروس على أراضيها -وليس مهماً الآن بالنسبة للمذعورين حول العالم كيف حققت ذلك- ولن تنتظر حتى تنتهي الجائحة والصورة الماثلة في الأذهان هي أن تستر الصين على الوباء تسبب في انتشاره عالمياً، بل لابد الآن من تغيير الرواية وتصدير صورة الدولة الرائدة في القضاء على الفيروس عالمياً وتقديم المساعدات للغرب وأنظمته العاجزة.
هذه الرسالة تحديداً كانت الهدف من وراء زيارة الزعيم شي إلى ووهان، لكن الرسالة كانت محلية وموجهة للداخل الغاضب لنفس السبب، أما الآن فالرسالة عالمية وهدفها تموضع بكين على رأس النظام العالمي الجديد الذي يتشكل بالفعل كنتيجة مباشرة لوباء كورونا.
هل القصة وليدة الصدفة؟
بعيداً عن نظريات المؤامرة، الإجابة عن السؤال هي كلا! فالصين دولة عملاقة من حيث المساحة وعدد السكان وترى نفسها مؤهلة لقيادة العالم، وحتى تتضح الصورة الأكبر نعود إلى يناير/كانون الثاني عام 2017، حينما قال تشانغ جون المدير العام لإدارة الاقتصاد الدولي في وزارة الخارجية الصينية إن بلاده لا ترغب في زعامة العالم لكنها قد تضطر للعب هذا الدور إذا تراجع الآخرون.
الدبلوماسي الصيني أدلى بالتصريح خلال إفادة للصحفيين الأجانب لمناقشة زيارة الرئيس شي جين بينغ لسويسرا وقتها، وكان ذلك بعد أيام فقط من قول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أول خطاب له إنه سيتبع سياسة "أمريكا أولاً".
وكانت تلك هي المرة الأولى التي يكون فيها شي الشخصية الأبرز في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس وقدم الصين في صورة زعيمة عالم تحكمه العولمة ويمكن للتعاون الدولي فقط حل المشكلات الكبرى فيه.
وكان لافتاً قول تشانغ جون للصحفيين إنه "إذا قال أحد إن الصين تلعب دوراً قيادياً في العالم فسأقول إنها ليست هي من تسعى لتكون في المقدمة لكن اللاعبين الرئيسيين تراجعوا تاركين المجال للصين، وإذا طلب من الصين هذه الزعامة فإنها ستتحمل مسؤولياتها".
وبالطبع جرت في النهر مياه كثيرة منذ ذلك التصريح، وشيئاً فشيئاً بدأت الصين في تطوير سياستها الخارجية الهادئة غير الصدامية، ونرصد هنا مذكرة للمحلل أنطوان بوندز، في تقرير لموقع الجزيرة، يتناول فيها "طرق الحرير الصحية"، ويوضح كيف أن أن بكين -التي طلبت من الاتحاد الأوروبي التكتم عندما قدّم لها المساعدة (في مواجهة فيروس كورونا)- تقوم بعكس ذلك، وتسلط الضوء على ما تقوم به في "حملة إعلامية غير مسبوقة"، ويقول إن الصين تستند في ذلك إلى سلسلة مبادرات قامت بها أخيراً، وهي: "هبة قدرها عشرون مليون دولار لمنظمة الصحة العالمية، وإرسال خبراء في الطب إلى إيران وإيطاليا، وبناء مختبر في العراق، وإرسال أجهزة فحص إلى الفلبين، ومعدات وقائية إلى باكستان وفرنسا".
وتقود سفارة الصين في فرنسا حملة دعائية للنظام السياسي الصيني، و "لنجاحه" في المعركة ضد كورونا المستجد. وكتبت على موقعها الإلكتروني "بعض الأشخاص معجبون كثيراً بالنجاحات التي حققتها الحكومة الصينية؛ يحسدون كفاءة نظامنا السياسي، ويكرهون عجز بلادهم عن القيام بالأمر نفسه!"
واليوم الثلاثاء 31 مارس/آذار كشف تقرير لرويترز أن التحول في السياسة الخارجية لبكين ليس عابراً ولا وليد الصدفة، بل هو تنفيذ لتعليمات أصدرها الرئيس شي لدبلوماسييه في مذكرة بخط يده تم توزيعها العام الماضي طلب فيها منهم "التحلي بروح قتالية".
وعلق كين شاو يونغ المدير السابق لقسم الدعاية الدولية في الحزب الشيوعي ويعمل الآن كباحث في مؤسسة الصين للدراسات الاستراتيجية والدولية في بكين، على مذكرة شي بقوله: "هذه أول مرة منذ عام 1949 يتمتع فيها صقور الخارجية بالسلطة لإعادة تشكيل الدبلوماسية الصينية وسياستها الخارجية".
ويدفع هذا التحول في السياسة الخارجية شعور كثير من الصينيين أن الولايات المتحدة تريد أن تكبح صعود الصين وتطورها، وبالتالي فإن العدوانية الدبلوماسية تجاه واشنطن في قضايا ذات بعد قومي مثل الاحتجاجات في هونغ كونغ أو وباء كورونا قد أثبتت أنها تتمتع بشعبية على المستوى المحلي، وبالتالي ضرب كل العصافير بحجر واحد.
فيروس كورونا إذن، الذي نشأ في الصين وأصاب نحو 82 ألف شخص وأودى بحياة أكثر من 330 شخص -بحسب البيانات الرسمية التي يشكك فيها الكثيرون حول العالم- وتسبب في حالة من الغليان شعبياً مثلت أكبر تحدي يواجهه الحزب الشيوعي الحاكم والرئيس شي، وضع أمام بكين فرصة ذهبية كي تثبت جدارتها كزعيم للعالم بعد أن ترجعت واشنطن عن هذا الدور تحت قيادة ترامب.
وهذا لا يعني أن الصين تسببت في الوباء عن عمد -كما يحب أصحاب نظرية المؤامرة أن يعتقدوا- فمنشأ الفيروس طبيعي بشهادة الخبراء أي أنه ليس سلاحاً بيولوجياً، ولا كانت الصين تتمنى أو تتوقع أن يظهر لا على أراضيها ولا في أي مكان آخر، لكن ظهوره وتفشيه وتحوله لوباء عالمي أطلق "دبلوماسية كورونا" الصينية اغتناماً للفرصة، هذا كل ما في الأمر.