لا تزال الطرود تصل ساعةً بعد ساعة ويوماً بعد يوم، بالأطعمة والأدوية، والملابس، والألعاب، وملايين السلع الأخرى التي تُجلَب إلى عتبات أبواب وطرقات مبان حول العالم بينما يجتاح فيروس كورونا أغلب دول العالم.
وهناك عددٌ متزايد من العمال الذين يصنِّفون هذه الصناديق، ويحملونها في شاحنات، وينقلونها ويوصلونها حول الولايات المتحدة الأمريكية يمرضون.
يعانون من السعال، والتهاب الحلق، وآلام الجسد، والحمى، وأعراضٍ تنطبق على الإصابة بفيروس كورونا. لكنهم ما زالوا يبلغون عن تحركاتهم في منشآت ومستودعات الشحن المزدحمة، وشاحنات الشحن، ويملأهم الخوف إذا لم يفعلوا ذلك، بحسب تقرير لصحيفة Chicago Tribune الأمريكية.
كيف يتعامل أصحاب المهنة اليومية؟
قال أنجيل دوراتي عامل تسليم الطرود في مركز UPS في مدينة توكسون، بولاية أريزونا: "أنا أستمر في الذهاب إلى العمل، وأنا مريض خوفاً من أن أفقد وظيفتي أو أتعرض للعقاب بسبب المجاهرة بالأمر". وأضاف: "عمري 23 عاماً، وليس لدي أية مدخرات، ولديّ ابنٌ عمره 4 أشهر".
شركة UPS، وشركة FedEX، وشركة XPO هي ثلاث شركات من أكبر الشركات في مجال الشحن والتوصيل، وهي صناعة تبلغ توصيل بضائع قيمتها إجمالاً حوالي 18 تريليون دولار سنوياً. وفي ظل الانعزال المنزلي لملايين الأمريكيين الآن، ازدادت معدلات التوصيلات المنزلية، وهذه الشركات أصبحت من بين نقاط النور القليلة التي لا تزال مضيئةً وسط الاقتصاد الأمريكي المستمر في الإظلام. شركة UPS على سبيل المثال هي إحدى الشركات الرئيسية التي توصل طرود شركة أمازون.
قال خبراء الصحة العامة إن الاحتمالات قليلة نسبياً أن ينقل عمال مستودعات الشحن، أو سائقو الشاحنات الفيروس لمستلمي هذه الطرود، وهذا يرجع جزئياً لأن الفيروس لا يعيش طويلاً على أسطح الورق المقوى.
لكن في ظل تسابق حكومات الولايات لاحتواء الجائحة سريعة الانتشار بإغلاق المحلات التجارية ومنع تجمع أكثر من حفنة من البشر، هناك أكثر من 30 عاملاً في شركة UPS وشركة FedEx وشركة XPO قالوا في لقاءات وأرسلوا رسائل إلكترونية أعربوا فيها عن قلقهم من أن المستودعات والشاحنات أصبحت بيئة لتفريخ الفيروس.
قال بعض العمال في المستودعات إن المشرفين صدوهم عندما تقدموا بطلب منظفات، وكمامات، وقفازات، وإمداد مستمر من معقمات الأيدي. يقول العمال إن بعض المنشآت يندر فيها حتى الصابون والمناشف. ويستمر الموظفون في التزاحم كتفاً بكتف على طول السيور الناقلة ويُطلب منهم الالتزام بالممارسات الأمنية العادية مثل التفتيش الذاتي بالأيدي.
العمل تحت ضغط الفقر
الكثير من العاملين في مجال الشحن واللوجستيات لديهم على الأكثر أيام مرضية مدفوعة قليلة في العام. وهذا قد يدفعهم للعمل رغم السعال والحمى. الآن، في ظل اعتماد الكثير من الناس والأعمال على أنظمة التوصيل الفعالة، يقول العمال إن العمل زاد وحسب.
قالت إحدى عمال تصنيف الطرود بإحدى منشآت شركة UPS بالقرب من سان فرانسيسكو إنها تذهب إلى العمل يومياً، حتى على الرغم من أنها تشعر بأن حلقها "مثل الزجاج المكسور". وقالت العاملة التي طلبت عدم الكشف عن هويتها إنها مرعوبة من أن تفقد وظيفتها إذا أعلنت عن مرضها. وقالت: "لا يمكنني تحمل التشرد".
قال جيف دونيغيان، عامل تسليم الطرود في شركة UPS الذي يعمل في مانشستر في نيوهامبشير، إنه يذهب لعمله وهو يشعر بالمرض ويسعل. وعندما قال لأحد المشرفين، أخبره أن يذهب لعمله على أية حال.
وقالت سائقةٌ من شركة UPS تعاني من مشاكل مناعية إنها كانت تنقل طروداً في كاليفورنيا الشمالية على الرغم من أنها تشعر بالإعياء منذ أسبوع. وفي ظل انهمار الطلبات، أخبرها مشرفها أن شركة UPS لا تستطيع الاستغناء عنها، حتى ولو ليومين.
قال ستيف غوت، متحدث رسمي باسم الشركة: "على الرغم من أنك قد تجد استثناءً، وفرنا للعاملين لدينا الإمدادات والمعلومات اللازمة للتعامل مع المخاطر الصحية".
وقال إن الشركة "زادت كثيراً من تنظيف وتطهير الأسطح في كل المنشآت" وإن المركبات والمعدات تُطهَّر يومياً. وأضاف أن الشركة توفر الكمامات للسائقين الذين يوصلون الطرود لأماكن الرعاية الصحية، ودور المسنين، وأنها "توزع 250 ألف زجاجة إضافية من مطهرات الأيدي".
رفض غوت التعليق على تجارب السائقين والعمال الذين يسلمون الطرود، لكنه أكد أن شركة UPS لا تريد من العمال المرضى الذهاب إلى العمل، وأضاف أن الشركة توفر إجازةً مدفوعةً للمصابين.
في شركة XPO التي تدير شحن شركات مثل Disney، وNike، وVerizon، ولديها أسطولٌ كبير من الشاحنات التي تنقل البضائع حول الولايات المتحدة، لا يحصل العمال أو السائقون على أي أيام مرضية مدفوعة. تعرض الشركة، التي واجهت نقداً شديداً من العاملين بها بشأن ظروف العمل الخطيرة في مستودعاتها، أن تقرِض الموظفين 100 ساعة عمل إجازة، لكن على الموظفين إعادة الدفع مرة أخرى.
قال أحد موظفي وسائقي شركة XPO في اللقاءات إنه نتيجة لسياسة الشركة في الإجازات المرضية، بدأوا الذهاب للعمل ولديهم سعال أو ما هو أسوأ.
يقول مايك زانغريلو، السائق لدى شركة XPO في ميامي، والبالغ من العمر 67 عاماً إن "الشركة تضع العبء المالي على عاتق من لا يستطيعون تحمّله"، وأضاف أنه إذا ما أصيب بعدوى فيروس كورونا، فسيواصل قيادة شاحنته ذات الـ18 عجلة.
هل الإجازة مدفوعة الأجر حل؟
في المقابل، قال بوب جوزيفسون، المتحدث باسم XPO، إن الشركة بدأت في عرض إجازة مدفوعة الأجر كي يخضع الموظفون لفحص الكشف عن فيروس كورونا، وللبقاء في الحجر الصحي إذا لزم الأمر. وأضاف: "مع تصاعد الموقف، ها نحن نستمع إلى مخاوف موظفينا ونعدّل سياساتنا في الوقت المناسب".
مارس دان بيكر، وهو عامل تُوكل إليه مهام شحن وتفريغ الطرود لدى شركة FedEx في مدينة ناشفيل، بولاية تينيسي، مهامه بينما يعاني التهاباً في الحلق والمعدة خلال الشهر الجاري. وحين أصابته الحمّى، قال للمشرف على عمله إنه في حاجة إلى يوم إجازة.
ولكن الرد جاءه من المشرف في رسالة نصية، اطَّلَعت عليها صحيفة The New York Times الأمريكية، قائلاً: "أنا حقّاً أحتاج إلى تواجدك هنا اليوم"، وتغيَّب بيكر عن عمله على أية حال، واعتبرت الشركة أن تغيُّبه كان بدون عذر مقبول، مما يعني أنه تعرض لإنذار، والكثير من الإنذارات قد تؤدي إلى فصل العامل من عمله.
وقال بيكر: "ذهبت إلى قسم الموارد البشرية لأسأل عن سبب ذلك بصيغة مثل: لماذا أعتبر غيابي غير مبرر؟ ولماذا عليّ أن أصير في مشكلة بسبب غيابي في حين أن هناك جائحة نعانيها حالياً؟ وكان ردهم على غرار "لا نعرف ماذا نقول لك".
ووصف بيكر ثقافة استعراض العضلات في شركته التي لا يأخذ فيها أحدٌ الفيروس على محمل الجد، فحين ارتدى أحد زملائه هناك قناعاً واقياً تعرّض للمضايقة لدرجة أنه خلعه في النهاية. وسمع بيكر بشأن زميل آخر يقول لأحد الحرّاس إنه قد ثبتت إصابة أمه بالفيروس، ولكنّه مضطّر للمجيء للعمل على أية حال.
وقال: "لن يفيد أياً من هؤلاء الذين يطلبون تلك الطرود ويخزنونها إذا ما تعرض جميع من يجلبونها إليهم للمرض".
لا تستهينوا بالمرض
وقالت جيني روبرتسون، المتحدثة باسم FedEx، إن الشركة كانت تحث الموظفين على "أخذ أي علامات للمرض على محمل الجد وطلب العناية الطبية إذا ما كانت هناك حاجة لذلك"، وأضافت أن الشركة كانت تُطهّر بانتظام المرافق والسيارات، وقد قامت مؤخراً بزيادة الإجازات المرضية المدفوعة المتاحة لبعض الموظفين.
نظّمت جيتي موعداً لصحيفة The New York Times للتحدث مع سائق بمدينة جاردن سيتي، في نيويورك، والذي قال إن FedEx قد قدّمت إليه القفازات ومعقم اليدين ومناديل Clorox المبللة المطهّرة ليستخدمها بشاحنته. وقال السائق، ريموند وينز، إنه نال إجازة تسعة أيام تُخصم من رصيد إجازاته الشخصية والمرضية لاستخدامها إذا مرض. وقال إنه واثق من أنه، إذا لزم الأمر، يمكنه استخدام إجازته لمدة ثلاثة أسابيع، وهو أمر في الأحوال العادية يتطلّب جدولته مُسبقاً.
وأضاف وينز: "أنا متأكد من أنني إذا صرت في أزمة، سيتعاونون معي".
وقال سائقو الشاحنات التابعة لشركات UPS و FedEx و XPO إنهم ممتنون للتغيير الأخير؛ وهو أن العملاء لم يعودوا بعد في حاجة إلى التوقيع نظير ما يتسلمونه من طرود، وهو ما يعني عدم مشاركة الأقلام وعدم الحاجة للاقتراب من العملاء لمسافة تقل عن مترين.
وصف السائقون العمل في ظل ما يبدو عليه العالم وكأنه قد أتلفه المرض؛ فعلى فيسبوك، يتشاركون صورهم وهم يرتدون أقنعة واقية من الغاز، ولم يعد العملاء المنتظمون يسمحون للسائقين باستخدام الحمامات، وصار من العسير على السائقين إيجاد مكان يغسلون فيه أيديهم على طول الطرق، لا سيّما مع إغلاق المزيد والمزيد من المتاجر.
قال نيك بيري، البالغ من العمر 32 سنة والذي يعمل سائقاً لدى شركة UPS في كولومبوس بولاية أوهايو، إن مشرفيه أخبروه أنه لا يمكنه حيازة مناديل Lysol أو مطهر لليد في شاحنته دون أوراق تتضمن معلومات عن مكوناتها، حسب متطلّبات إدارة السلامة والصحة المهنية. وقال بيري إنه يخشى على ولديه التوأمين الذين لديهم تاريخ مَرضي للإصابة بمشاكل الجهاز التنفسي الخطيرة.
وقال "لم أكن أعتقد أنني سأكون في الخط الأمامي للوباء، ولكنّي هنا، وأنا خائف على صحة الجمهور وعلى والديّ وعائلتي".
إجراءات الفحص
يوم الأربعاء 18 مارس/آذار، طلب حاكم ولاية أوهايو، مايك دي واين، من الشركات قياس درجات حرارة جميع الموظفين قبل دخولهم أماكن العمل وأن تتبع الشركات "تدابير صارمة فيما يتعلق بتنظيف الأسطح وإتاحة صابون أو معقم لليدين".
ومع ذلك، قال بيري إن أحد المديرين أخبره أن توجيهات الحاكم ليست "أمراً رسمياً" وأن منشأة UPS للشحن في كولومبوس لا تمتلك الموارد اللازمة للامتثال لتلك التوجيهات.
وقد قدم بعض العاملين بشركة UPS عريضة للضغط على الشركة لتطهير المناطق المشتركة بشكل أفضل ومنح الموظفين 14 يوماً من الإجازات المدفوعة إذا احتاجوا إلى البقاء في الحجر الصحي بعد الإصابة بفيروس كورونا. وفي غضون حوالي 24 ساعة، وقع أكثر من 10000 عامل على تلك العريضة، حسبما أفاد ديفيد ليفين، المُنظّم بحركة Teamsters for a Democratic Union، والتي ساعدت في إصدار العريضة.
يوم الأربعاء، وافقت شركة UPS على منح الأشخاص 10 أيام مدفوعة الأجر للبقاء في المنزل إذا ما شُخِصّت حالاتهم، أو حالات ذويهم المباشرين بفيروس كورونا، أو إذا احتاجوا إلى عزل أنفسهم.
ومن منظور فين دافيدسون، لدى مركز UPS في توكسون بمدينة دوارتي، فإنه لا يزال هناك ضغط. وخلال الأسبوع الجاري، قال دافيدسون، المُعرِّف نفسه بأنه مناقض للثنائية الجندرية، إن المشرف قال للعاملين إن الكثير من الإجازات المرضية قد تكلّفهم خسارة وظائفهم.
قال ديفيدسون، البالغ من العمر 33 سنة: "إنهم لا يريدون أن يتظاهر الناس بالمرض، لكن ما يفعلونه هو خلق أجواء معبَّأة بالخوف".
ويشكو أحد العمال المقربين من ديفيدسون، على خط نقل الأمتعة، من آلام في الجسم، ولكن زميله يقول بشأنه: "لقد كان يسعل طوال الأسبوع، لكنه لا يستطيع فقدان هذه الوظيفة".