تتوالى الأحداث الفاصلة المروعة بسبب فيروس كورونا، فبحلول يوم الأربعاء 18 مارس/آذار 2020، سجلت أوروبا عدد حالات مصابة بفيروس كورونا ووفيات أكثر من الصين. ويوم الخميس 19 مارس/آذار 2020، تجاوزت إيطاليا، وحدها، الصين في عدد الوفيات المسجلة.
بينما تزعم الصين أنها خفّضت معدل الإصابات الجديدة في البلاد إلى مستوى الصفر، يزداد عدد حالات الإصابة في أوروبا كل يوم -نحو 100 ألف إصابة مؤكدة، و5 آلاف وفاة حتى الآن- وهو ما يرجح أن الأسوأ قادم.
إذن، كيف سدد المرض الجديد، "كوفيد-19″، لأوروبا، التي كانت لديها أسابيع من التحذيرات من أن الوباء قادم، ضربةً أشد من الصين، التي شهدت ظهور الفيروس لأول مرة والتي يبلغ تعداد سكانها ضعفي تعداد السكان في أوروبا؟
المجتمع المفتوح
تقول صحيفة The New York Times الأمريكية، إنه إلى حد ما، يرى الخبراء أن الأوروبيين يدفعون ثمن العيش في مجتمعٍ مفتوحٍ، وديمقراطيات غنيةٍ، حيث اعتاد الناس حرية الحركة، وسهولة السفر، واستقلالية اتخاذ القرار، وحيث تخشى الحكومات الرأي العام. لم تعتد الحكومات إصدار أوامر صارمة، ولم يعتد المواطنون اتباعها.
لكن الصين تصرفت بصرامةٍ وعلى نطاق واسع أذهل الغرب، متخذةً خطوات لا تحظى بتأييد شعبي، ومتقبِّلةً لخسائر اقتصادية كبيرة مقابل احتواء المرض. فقد حظرت بكين حركة عشرات الملايين من الأشخاص، ومنعتهم من مغادرة مدنهم، وحتى منازلهم إلا من أجل إحضار الطعام أو للحصول على الرعاية الطبية، وفرضت قيوداً أخف على مئات الملايين من مواطنيها، إذ أوقفت نشاط صناعات بأكملها.
وقال آرثر رينجولد، رئيس قسم علم الأوبئة في كلية الصحة العامة بجامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي: "كانت الصين مستعدة إلى الذهاب لأقصى مدى في اتخاذ الإجراءات الاستثنائية، إذ استخدمت الجيش والشرطة، وألزمت الناس بالبقاء في منازلهم، واستخدمت تكنولوجيا الطائرات من دون طيار لمراقبة تصرفاتهم، ووضعت حواجز على الطرق".
وأضاف رينجولد: "أياً كانت الإجراءات التي اتُّخذت في أوروبا، فهي لم تُطبَّق إلا مؤخراً، ولم يكن أي منها وحشياً وشاملاً مثل الإجراءات التي طُبِّقت في مدينة ووهان الصينية".
الصين عالجت أزمتها بقوة وحزم
وتتعرض مصداقية وتطابق البيانات الصادرة من الصين ودول أخرى بشأن حالات الإصابة والوفيات مع واقع الأمر لشكوكٍ، لكن الوضع العام والاتجاه الذي تسير إليه الأزمة واضحاً. فبينما تعثرت الصين في البداية -إذ حاول المسؤولون المحليون والإقليميون حظر أي حديث عن تفشي المرض، وكان هناك نقص حاد في الاستعدادات الطبية- عالجت الأزمة بجدية بعد ذلك.
كانت القوة القهرية لحكومةٍ مستبدة عاملاً واحداً فقط أسهم في احتواء الأزمة. وكانت سرعة وصرامة الإجراءات عاملاً حيوياً، واستخدمت بعض الحكومات في شرق آسيا مزيجاً حازماً من نشر اختبارات الكشف عن المرضى على نطاقٍ واسع، وسرعة تتبُّع الأشخاص المتواصلين معهم؛ لاحتواء تفشي المرض دون الحاجة إلى إغلاق الاقتصاد.
قال توماس فريدن، المدير السابق لمركز الولايات المتحدة لمكافحة الأمراض واحتوائها: "لقد شاهدوا ما فعله فيروس سارس في 2003 و2004، واستعدوا للوباء التالي".
بينما خسرت الصين أسابيع ثمينة في بداية الأزمة، تحركت بسرعة بعد ذلك وبشكلٍ حازمٍ أكثر من الدول الغربية.
فرضت الصين حظرها الكبير الأول على ووهان ومدنٍ أخرى في 23 يناير/كانون الثاني 2020، بعد أقل من شهر من إقرار المسؤولين المحليين بأنهم يواجهون مرضاً جديداً، وبعد أسبوعين تقريباً من تحديد نوع الفيروس. عندما أُغلقت ووهان، كان هناك أقل من 600 حالة عدوى مؤكدة في العالم، رغم أن اختبارات الكشف عن الفيروس لم تكن مفعَّلة بعدُ إلى حدٍ كبير.
كتب فرانسوا بالوكس، باحث في علم الأوبئة بجامعة كلية لندن، تغريدةً على موقع تويتر، الخميس 19 مارس/آذار 2020، قال فيها: "ربما تكون استجابة الصين متأخرة. ولديّ تحفظات على بعض الإجراءات التي طبقوها، لكنهم احتووا الوباء. وبما فعلوه، منحوا العالم فرصةً للاستعداد، لكنه أضاعها".
أوروبا متأخرة
بدأ أول جهود أوروبا لإغلاق منطقة واسعة -طبَّقت إيطاليا عزلاً بدرجةٍ أقل صرامةً بكثير عن الصين في المنطقة الشمالية التي تشمل مدينة ميلان- في 8 مارس/آذار 2020، عندما أعلنت البلاد عن إصابة أكثر من 7300 شخص بالفيروس. سجلت إسبانيا وفرنسا عدد حالات مشابهة في الأسبوع التالي، عندما قررتا فرض حظر على معظم التجمعات العامة في مختلف أنحاء البلاد.
قال فريدن: "يجب أن تفرض إجراءات مثل تطبيق مسافة اجتماعية صارمة (بين المواطنين) في غضون أسبوع من ظهور مؤشرات انتقال المرض بين المجتمع وإلا فسينفجر الوضع، وبمجرد أن يحدث هذا، من الصعب احتواؤه". وأضاف: "المهم ألا تصل إلى هذه المرحلة، وأوروبا متجاوزة لهذه المرحلة وكذلك مدينة نيويورك".
تصرفت بعض الدول في شرق آسيا بسرعة، لكنها استخدمت استراتيجية مختلفة عن الصين وأوروبا: اختبارات صارمة للكشف عن المرضى، وتتبُّع المتواصلين مع المرضى؛ لوقف سلسلة نقل العدوى دون الحاجة إلى إغلاق النشاط الاقتصادي.
ونتيجةً لهذا، سجلت سنغافورة، وتايوان، وهونغ كونغ عدداً قليلاً من الحالات، وتمكنت كوريا الجنوبية، التي أجرت اختبارات على أكثر من 200 ألف شخص، من السيطرة على الوباء الكبير.
كتب بالوكس: "أظهرت كوريا الجنوبية للعالم أنها قادرة على احتواء الوباء بأقل قدرٍ ممكن من انتهاك الحرية الفردية واضطراب الاقتصاد والنسيج الاجتماعي".
ولكن هذه الاستراتيجية، يقول رينجولد، "تتطلب جهوداً فائقة وتستنزف كثيراً من الموارد" وهي تجربةٌ لا تستطيع الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، تكرارها. ويتابع: "لا يزال هناك طريق طويل يجب أن تسلكه (الولايات المتحدة) قبل أن تكون الاختبارات جاهزة هنا".
يقول خبراء علم الأوبئة إن تطبيق اختبارات الكشف عن المرضى على نطاقٍ واسع، وتتبُّع المتواصلين معهم، وفرض مسافة اجتماعية بين المواطنين، تعمل جميعها بشكلٍ جيد لاحتواء الوباء إذا استُخدمت قبل خروجه عن السيطرة.
ولنعد صياغة هذا الكلام بطريقةٍ أخرى، فإن أفضل استجابة لوباء خطير هي الاستجابة التي ستتسبب في توجيه الاتهامات للحكومة في البداية، بأنها تبالغ في ردِّ فعلها. لكن الخبراء يقولون إنه من المستحيل، في أغلب الأحيان، أن نعرف في بداية تفشي المرض ما إذا كان الوضع خطيراً أم لا.
إذا كانت إجراءات الإغلاق التام التي طبقتها إيطاليا فعالة في منع حدوث إصابات جديدة، فلن يظهر تأثير هذه الإجراءات على عدد الحالات إلا بعد مرور عدة أيام على الأقل، وفقاً للخبراء. وفي دول أخرى، طبقت هذه الإجراءات في وقتٍ لاحق، فإن مدى فائدتها سيظهر لاحقاً.
في ذروة انتشار المرض في بداية فبراير/شباط 2020، أعلنت الصين عن عدد يتراوح بين 3 آلاف و4 آلاف إصابة جديدة مؤكدةٍ كل يوم. وتسجل إيطاليا حالياً إصابات بوتيرة أسرع من ذلك، ويزداد عدد الحالات المصابة في أوروبا بأكثر من 10 آلاف شخص يومياً.
في يوم الخميس 19 مارس/آذار 2020، أعلنت إيطاليا عن نحو 41 ألف إصابة، و3400 حالة وفاة. ويقول الخبراء إن عدد حالات الإصابة والوفيات في إيطاليا قد يتضاعف بنهاية مارس/آذار، ليتجاوز العدد الرسمي المسجل في الصين، وقد تلقى دول أخرى المصير نفسه.