بينما يحشد العالم موارده لمواجهة التفشي المرعب لوباء "كورونا المستجد" أو "كوفيد-19″، تحتفل الصين بما تقول إنه "انتصار تام" على الفيروس بمعقله في ووهان، وتنتشر مظاهر الاحتفاء والإشادة بالرئيس شي جينغ بينغ، لكن هل من الحكمة تصديق ما يصدر عن الصين بشأن هذا العدو الشرس؟
مظاهر احتفالية
وسط أجواء يغلب عليها الطابع الاحتفالي، أعلنت الصين، الخميس 19 مارس/آذار، أنها لم تسجل خلال الساعات الـ24 الماضية، أي إصابة جديدة محلية المصدر بفيروس كورونا المستجد، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ أن بدأت بكين إحصاء الإصابات رسمياً في يناير/كانون الثاني الماضي، كما أعلنت السلطات تسجيل ارتفاع كبير في أعداد الإصابات الوافدة من الخارج، في حين تماثل 819 شخصاً للشفاء وغادروا المستشفى، ليصل إجمالي المتعافين 70420 حالة.
الرسالة تأتي بعد أكثر من أسبوع على زيارة الرئيس شي لمدينة ووهان -منشأ الفيروس- التي أعلن خلالها نجاح بلاده في معركة فيروس كورونا، وظهر الزعيم القوي وهو يتفقد شوارع المدينة دون كمامة الوجه ويلوح للسكان في منازلهم، في مشهدٍ تصدَّر وسائل الإعلام المحلية والدولية، وقال شي وقتها إن الحياة ستعود إلى طبيعتها تدريجياً في البلاد مع بداية شهر أبريل/نيسان المقبل.
ومنذ زيارة شي لووهان الثلاثاء 10 مارس/آذار، بدأت الصين حملة إعلامية مكثفة تركز على محورين: الأول هو تجربتها الإعجازية في القضاء على الفيروس واستعدادها لتقديم المساعدة لمن يحتاجها من دول العالم التي تعاني من تفشي الفيروس وتحوُّله لعدو مخيف يحصد الأرواح بسرعة تفوق قدرات الأنظمة الحية على مواجهته. والثاني هو تغيير الرواية حول مصدر الفيروس والتركيز على أنه ليس فيروساً صينياً؛ بل هو "فيروس أمريكي".
هل الانتصار الصيني دعاية سياسية؟
الرسالة الأولى التي تتناقلها وسائل الإعلام داخل الصين، وهي تخضع لسلطة الحزب الشيوعي الحاكم بصورة مطلقة، لا يصدقها الجميع داخل الصين ويشكك فيها كثيرون خارجها، ويرى كثير من المتابعين أنها دعاية سياسية أكثر منها حقائق علمية، بحسب تقارير إعلامية متعددة.
الدعاية الصينية المكثفة تهدف بالأساس إلى التغطية على الانتقادات الحادة التي يتعرض لها النظام والرئيس شي بسبب التأخر في التصدي للفيروس وإضاعة وقت طويل قبل الكشف عن الحقيقة واتخاذ الإجراءات المطلوبة؛ وهو ما أدى بالأساس إلى تحوُّل الفيروس إلى وحش مخيف، فالصين اتخذت إجراء إغلاق ووهان يوم 23 يناير/كانون الثاني، أي بعد أكثر من شهرين على الأقل من بداية ظهور الفيروس في سوق للحيوانات البرية والبحرية بالمدينة.
النقطة الثانية هي أنه لا يوجد دليل علمي مؤكد على عدم تفشي الفيروس مرة أخرى داخل الصين بعد أن يتم تخفيف ورفع الإجراءات الاستبدادية الصارمة التي تم فرضها في مقاطعة هوبي التي يقطنها نحو 60 مليون شخص، تم حبسهم حرفياً في منازلهم أو أماكن حجر صحي منذ أواخر يناير/كانون الثاني وحتى الآن. ففرصة عودة تفشي الفيروس بعد عودة الحياة إلى طبيعتها وعودة العاملين إلى المصانع والموظفين إلى مقار عملهم والطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم تظل أمراً يستحيل التأكد منه بأي حال من الأحوال.
العلاقة مع منظمة الصحة العالمية ومديرها
تعتمد الدعاية الصينية التي تروج للانتصار الساحق على الفيروس، بشكل أساسي على شهادات المسؤولين في منظمة الصحة العالمية وبالأخص مديرها العام تيروس أدهانوم غيبريسيوس، وهذه النقطة تثير الشكوك أكثر حول الانتصار الصيني ولا تقلل منها، حيث إن المنظمة نفسها تقبع في قفص الاتهام، بسبب معالجتها لكارثة الفيروس منذ بدايتها حتى اللحظة.
فسلسلة الأخطاء التي ارتكبتها المنظمة، بداية من البيان الأول الذي تأخر لمنتصف يناير/كانون الثاني، وصولاً إلى التأخر في إعلان الفيروس وباء عالمياً (يوم 11 مارس/آذار الجاري)، وبينهما التشكيك في جدوى وقف حركة الطيران في مكافحة الفيروس- تجعل من الصعب أن نصدّق الإشادات المتكررة لمديرها بالصين وحكمتها في مكافحة الفيروس، خصوصاً أن دور الصين في وصول الرجل للمنصب ليس خافياً على أحد (تفاصيل الاتهامات الموجَّهة إلى تيدروس من هذا الرابط).
العلاقة الحالية بين الصين ومنظمة الصحة العالمية والمتسمة بالود الشديد والتناغم في المواقف عكس تلك العلاقة التي كانت بين الطرفين في أوقات مشابهة، مع الفارق لما يمر به العالم حالياً وذلك في أثناء وباء سارس عامي 2002 و2003 (فيروس قاتل نشأ في الصين أيضاً ويصيب الجهاز التنفسي، مزيد حول تلك القصة في هذا الرابط)؛ المنظمة وقتها اتهمت الصين بالتستر على الحقيقة وعدم التعاون، وكانت صورة بكين سيئة للغاية حول العالم.
ما قامت به الصين تجاه منظمة الصحة العالمية منذ أن وصل شي للسلطة هو المساهمة بصورة كبيرة في تمويلها حتى أصبحت الصين ثاني كبرى دول العالم مساهمةً بعد الولايات المتحدة، لكن الأهم هو أن الصين دفعت في اتجاه تغيير آلية اختيار المسؤولين في المنظمة ومديرها العام حتى أصبحت بالانتخاب المباشر من جميع الأعضاء، ليصبح المدير الحالي تيدروس، وهو إثيوبي كان يشغل منصب وزير الخارجية (بعد أن شغل منصب وزير الصحة سنواتٍ طويلة اتُّهم خلالها بالتستر على وباء الملاريا ببلاده؛ وهو ما تسبب في تأخر التعامل السليم ووفاة الآلاف دون داعٍ)، أول إفريقي يتولى المنصب، فهل يردُّ تيدروس الجميل للصين الآن، والنتيجة خروج الفيروس عن السيطرة وتفشيه في العالم كله؟ هذا السؤال يتردد على لسان كثيرين، خصوصاً بأوروبا والولايات المتحدة في صورة اتهام في الواقع وليس مجرد تساؤل.
التشكيك في أصل الفيروس
اللافت أن إعلان "شي" الانتصار على الفيروس تبعه إعلان تيدروس في اليوم التالي مباشرة تحوُّل فيروس كورونا إلى وباء عالمي يوم 11 مارس/آذار، وبينما تحتفل الصين بالانتصار كانت أوروبا تواجه خطراً لم تواجهه منذ الحرب العالمية الثانية (بنصّ كلام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل)، والحرب بتوصيف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وإيطاليا تصرخ مستغيثة بعد أن أصبحت أعداد الوفيات بالمئات يومياً. واليوم الخميس 19 مارس/آذار، تضاعفت أعداد حالات الإصابة في الولايات المتحدة الأمريكية لتصل إلى 10 آلاف.
وتزامناً مع الاحتفال الصيني والهلع العالمي، بدأت بكين تكثيف محاولاتها لتغيير الرواية حول منشأ الفيروس نفسه، مستعينةً بمنظمة الصحة العالمية، التي خرجت بتصريح لافت يقول إن التحقيقات لا تزال جارية بشأن تحديد منشأ الفيروس.
ونشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريراً بعنوان "الفيروس الأمريكي: الصين تروج لشكوك حول أصل فيروس كورونا"، ألقت فيه الضوء على استخدام الصين آلتها الإعلامية والدبلوماسية بصورة مكثفة؛ لتحويل الأنظار عن نشأة الفيروس، ومحاولة تأكيد أنه من أصل أمريكي.
ونشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية فيديو تفصيلياً حول الآلة الإعلامية الجبارة للصين والتي طوَّرها بعنايةٍ الرئيس "شي" لتنفيذ رؤيته في جميع المجالات، وجاء دورها الآن للتغطية على التعامل الكارثي مع الفيروس والتأخر في التعامل معه عندما ظهر؛ بل تحويل ذلك إلى انتصار وتحويل الرواية إلى العدو الخارجي المتمثل في واشنطن.
حقيقة أن الصين لم تنتظر على الأقل حتى تتراجع ذروة تفشي الوباء في أوروبا -التي أصبحت الآن البؤرة الرئيسية بالعالم- قبل أن تواصل صراعها مع واشنطن على زعامة العالم الذي يتهدده الفيروس المخيف، تثير الشكوك حول كل ما يصدر عن الصين وحقيقة إذا ما كانت قد انتصرت بالفعل على الفيروس وقضت عليه أم أنها تستخدم آلتها الإعلامية الضخمة في تحويل الأنظار إلى عدوها الأول الذي جاء دوره في مواجهة التفشي المحتوم للفيروس.
هذه المعطيات تجعل من الصعب تصديق ما يصدر عن الصين بشكل رسمي، حتى وإن أردنا جميعاً أن نصدّق أنها قضت على الفيروس فعلاً، على أمل أن يحدث ذلك في كل مكان آخر، ونستعيد الطمأنينة التي فقدناها، بعد أن تمكَّن الفزع من البشرية وأصبحت ثقافة الخوف هي السائدة.