وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مشروع تعديل دستوري يتيح له البقاء في الحكم نظرياً حتى عام 2036، ولكن مازال هناك غموض بشأن السيناريوهات التي يحضر لها بوتين للبقاء في الرئاسة.
وتتضمن التعديلات، التي وافق عليها مجلس النواب ومجلس الاتحاد الروسيان، تصفير "عداد" الولايات الرئاسية لبوتين (67 عاماً)؛ ما يتيح له الترشح لولايتين أخريين مدة كل واحدة 6 سنوات بعد انتهاء ولايته الحالية في 2024.
وحسب الدستور الحالي، لا يحق للرئيس الترشح لولاية رئاسية ثالثة على التوالي؛ ما يعني أن بوتين لا يحق له الترشح بعد انتهاء ولايته الحالية.
وأفاد نظام المعلومات القانونية الحكومي الروسي، بأن المشروع تم توقيعه من قبل الرئيس بوتين ومن ثم سيتم إرساله إلى المحكمة الدستورية، وفي حال وافقت المحكمة الدستورية على المشروع سيدعو بوتين إلى استفتاء شعبي عليه في 22 أبريل/نيسان.
وسيتم تمرير التعديل الدستوري حال صوت أكثر من 50% من الروس لصالحه ليدخل حيز التنفيذ.
ولكن التعديلات الدستورية والسيناريوهات التي يحضر لها بوتين للبقاء في الرئاسة، تبدو معقدة وتضع العديد من الاحتمالات، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
أنا مضطر للقبول
يشير التقرير إلى أن فلاديمير بوتين يحب المفاجآت.
فبعد إطلاق سلسلة من الإصلاحات الدستورية وتسليم المسألة صورياً للمجلس التشريعي ثم إجراء استفتاء لاحق، سمح بوتين لنفسه بأن يُدعى للحديث أمام مجلس الدوما، الذي يمثل الغرفة الدنيا في البرلمان الروسي، بشأن موضوع إعادة تحديد القيود المتعلقة بعدد المُدد الرئاسية، الأمر الذي من شأنه أن يسمح له بالبقاء في السلطة حتى عام 2036.
وقال بوتين، في تمثيلية ميلودرامية سيئة، إنَّه كان يرى بوجوب وجود حد صارم لتولي ولايتين رئاسيتين فقط. لكن بعد أن التقط أنفاسه، اعترف بأنَّه في حال رأى مجلس الدوما أنَّه ينبغي إعادة ضبط عقارب الساعة على الصفر ووافقت المحكمة الدستورية، فإنَّه سيقبل هذا.
وبالطبع كان هذا كله مُرتَّباً سلفاً. فالمقترح الأوليّ قُدِّم من عضوة مجلس الدوما صاحبة الـ83 عاماً فالنتينا تريشكوفا، وهي أول سيدة تصعد إلى الفضاء في العالم وتُعَد شخصية أيقونية في "النصر الروسي".
وعلى الرغم من أنَّ بوتين لا يحب على ما يبدو المجيء إلى موسكو، واستغراق التحضيرات الأمنية المحيطة بأي تحركات رئاسية عدة ساعات، وصل الرئيس خلال 90 دقيقة فقط حين وجَّه إليه رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين الدعوة ليُدلي برأيه في المسألة.
هل يبقى بوتين في الرئاسة لعام 2036؟
هل يعني هذا إذاً أنَّنا نعرف ما سيحدث عام 2024، حين تصل ولاية بوتين الحالية في المنصب إلى نهايتها، وأنَّه سيحكم حتى عام 2036، حين يكون بعمر 83 عاماً؟ لا، بالطبع لا، وعلى الأرجح أنَّ الرجل نفسه لا يعرف أيضاً.
وفي نهاية المطاف، هذا هو بوتين الكلاسيكي. فإحدى أكثر الأساطير الغربية إشكاليةً حول بوتين هو أنَّه مُخطِّط ماكر وبارع؛ فهو كبير الأساتذة الجيوسياسيين الذي يلعب شطرنجاً ثلاثي الأبعاد مع العالم. لكنَّه في الحقيقة عكس ذلك تماماً؛ فالرجل الذي يمارس لعبة الجودو يبحث عن الفرص التي تظهر ويتفاعل معها. وقوته الحقيقية تكمن في قدرته على التحرك بسرعة وحسم وبصورة غير متوقعة.
يظهر هذا جلياً بصورة خاصة في رده على ما تُسمَّى مسألة 2024.
فالعام الماضي، 2019، بدأت حالة عدم اليقين التي ظهرت داخل النخبة حيال ما سيحدث بعد أن يصل الرئيس لنهاية ولايته الدستورية، وما إن كان بإمكان "البوتينية" أن تصمد دون وجود بوتين، تصبح قوة حقيقية مُزعزِعة للاستقرار.
ظلَّ بوتين بمنأى عن هذا النقاش لبعض الوقت. ويعكس هذا من ناحيةٍ انفصالاً أوسع نطاقاً عن الكثير من العمل الحقيقي للرئاسة. فربما لا يزال بوتين نشطاً على الساحة الدولية، لكنَّه يتجاهل جزءاً كبيراً من أعمال الحكم اليومية المحلية التي تتطلَّب، في ظل نظامٍ رئاسيّ للغاية كهذا، انتباه الرئيس.
وبدا بوتين أنَّه متعب وضجر، وأكثر حرصاً على التخلص من كثيرٍ من واجباته الرئاسية بدل الاحتفاظ بها.
نريدك أن تكون قيصراً حقيقياً أو علينا غزو بيلاروسيا
لكن من ناحية أخرى، هذا هو النهج المعتاد منه: الجلوس في الخلفية والسماح للآخرين بطرح حلولهم التي يُفضِّلونها لمشكلات اليوم. وقد طرحوا حلولهم فعلاً.
إذ دعم البعض صراحةً رئاسة مدى الحياة، في حين جنح آخرون إلى تفضيل وجود رئاسة وزراء قوية. واقترح آخرون فرض اتحادٍ بالقوة على الجارة بيلاروسيا حتى يتمكَّن بوتين من الهروب إلى الأمام من خلال تولي منصب جديد كرئيسٍ لدولته المشتركة الجديدة، ولو أنَّ هذا لم يكن قط خياراً جدياً.
وفي عام 2016، أثار القوميّ المستقل فلاديمير جيرينوفسكي الاستغراب بما بدا أنَّه اقتراح بأنَّه يجب تتويج بوتين قيصراً. ويتمثل جزء من دور جيرينوفسكي كواحدٍ من قيادات المعارضة المزيفة في روسيا في إلهاء الناس وتشتيتهم، وهذه الفكرة تبدو هزلية اليوم.
ركَّز آخرون على إيجاد ضمانات للرؤساء السابقين، لجعل التقاعد من الرئاسة خياراً أكثر جاذبية. وفي ظل نظامٍ تجيء فيه سيادة القانون بالمرتبة الثانية بعد وقائع السلطة الوحشية، فإنَّ أحد التحديات الرئيسية هي كيف لأي شخص أن يتنازل عن المنصب والمكانة التي تنبع منهما ثروته وأمنه. ووضع آخرون تصورات لمكانة وسط بين الكرملين والتقاعد، تتمثل في الإبقاء على مناصب تظل توفر لبوتين بعض النفوذ والأدوار والحماية.
ماذا اختار بوتين إذاً؟ اختارهم جميعاً تقريباً.
السيناريوهات التي يحضر لها بوتين للبقاء في الرئاسة
يمكن أن يحدث الكثير خلال 4 سنوات، بدءاً من أن يجد بوتين خليفة يشعر أنَّ بمقدوره الثقة به ووصولاً إلى تدهور صحته (تكثر الشائعات حول أنَّه مريض للغاية، ولو أنَّه لا توجد أدلة تثبت أياً من تلك الشائعات). والمزاج الوطني غير متوقع أيضاً؛ ففي الوقت الراهن، يريد 45% من الناخبين بقاء بوتين، في حين يريد 44% منهم مغادرته عام 2024.
لذا، فإنَّه، وبطريقته المعتادة، يُوجِد مجموعة من الخيارات ويؤجل أي قرار حتى إشعارٍ آخر.
ستوافق المحكمة الدستورية على التصفير المقترح لعدّاد المدد الرئاسية، ما لم يكن هذا أيضاً جزءاً من المسرحية السياسية، كي تسمح لبوتين بقبول الأمر بكرامة وإظهار استعداده لاتباع القواعد. لكن هذا لا يعني بالضرورة أنَّه سيترشح مجدداً في 2024، بل يعني أنَّ بإمكانه أن يترشح.
ولديه احتمالات أخرى. إذ تجري إعادة تشكيل مجلس الدولة، الذي يمثل حالياً هيئة استشارية مبهمة التعريف، كجزء من التعديلات الدستورية الجديدة، ولو أنَّ أحداً لا يعرف تماماً إلام تهدف عملية إعادة التشكيل هذه.
فقد يتمثل التعديل في أن يُعهَد لرئيس المجلس بذلك النوع من السلطات والامتيازات والحصانات التي قد تجعل منه منصباً جديداً محتملاً لبوتين.
الأمر نفسه ينطبق على مجلس الأمن الروسي؛ فبعدما عيَّن بوتين رئيس وزرائه السابق وتابعه الأمين ديمتري ميدفيدف نائباً لرئيس المجلس، أصبح من الممكن أن يعيد تشكيله بصورة تلائم هذا الغرض.
ويوجد ضمن التعديلات الدستورية مقترحٌ بأن يكون لأي رئيسٍ سابق الحق في أن يصبح عضواً مدى الحياة في المجلس الاتحادي –الغرفة العليا في البرلمان الروسي- ويتمتع بحصانة من الملاحقة القضائية. وقد يكون هذا صورة متوفرة في المتناول للتقاعد بكرامة وأمن.
وبهذه الطريقة، يُبقي بوتين الجميع في حالة تخمين، ويبقي خياراته للمستقبل مفتوحة، إلى جانب حفاظه على مركزيته بالنظام. إنَّ الغموض الاستراتيجي مهمٌ له؛ فبمجرد أن تعرف النخب –أو تعتقد أنَّها تعرف- ما سيحدث في 2024، ستبحث عن سبل لتطويع هذا لمصلحتهم. وقد لا يصبح "بطة عرجاء" (أي يصبح رئيساً مُقيَّداً في ولايته الأخيرة) –فبوتين ومنصبه أكبر من هذا- لكنَّه قد يبدأ في العرج قريباً.
والأهم من ذلك، سيفتح هذا الباب أمام الانقسامات داخل النخبة ويُعمِّقها في مرحلةٍ يسودها التوتر وعدم اليقين، وإحدى الاستنتاجات التي خرج بها بوتين من انهيار الاتحاد السوفيتي هي أنَّ الدولة المنقسمة هي دولة ضعيفة.
إلى جانب ذلك، لابد أن نعترف بألمٍ بأنَّنا لا نعرف إلا القليل عن المداولات التي تجري في دائرة بوتين المقربة. والأشخاص المُقربون من بوتين ليسوا هم وزرائه أو حتى خبرائه السياسيين. فالكثير منهم الآن من الأوليغارشيين فاحشي الثراء، وهم الرجال الذين كان بوتين راعياً مُربِحاً و "Krysha" (أو ظَهراً) لا يتزحزح لهم. وKrysha وهو مصطلح يُستخدَم في اللغة العامية الروسية في عالم الجريمة، والآن في عالم السياسة.
حاشية بوتين تخشى تقاعده أكثر منه
وفي حين أنَّ بوتين يمكنه بلا شك أن يُرتِّب لنفسه وجوداً آمناً ومريحاً بعد الرئاسة، فإنَّ خوف هؤلاء يكمن بلا شك في أنَّ أي خليفة (وعلى الأرجح سيكون خليفة رجل وليس سيدة) لبوتين سيرغب في تصعيد حاشيته الخاصة، وربما يضحي ببعضهم ليكونوا أكباش فداء رمزيين لعقدين من الاختلاسات واسعة النطاق.
وقد يتطلَّع جيلٌ جديد من المرشحين ليكونوا رؤساء (أو قياصرة) لإيجاد سبل جديدة لتسهيل عملية خروج بوتين من سدة الرئاسة، لكنَّ مقرَّبيه على الأرجح سيحاولون إقناعه بالبقاء. وبوتين معروف بتغيير مواقفه. وقد يكون الرجل غيَّر رأيه فعلاً بشأن 2024؛ إذ أشار في البداية إلى أنَّه بالتأكيد لن يترشح مجدداً، ثُمَّ اختار على ما يبدو إبقاء ذلك الباب مفتوحاً. وبالتالي ستستمر المعركة على مستقبل بوتين طالما أرادها أن تستمر.