في مارس/آذار عام 2009، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة التوقيف الأولى بحق الرئيس السوداني حينها عمر البشير، على خلفية المزاعم بارتكابه الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في منطقة دارفور. وحتى يومنا هذا، تُشير وثائق المحكمة إلى أن "المشتبه به لا يزال طليقاً".
جدل قانوني وسياسي
يقول موقع Middle East Eye البريطاني إنه بعد مرور عامٍ تقريباً على الإطاحة به في أعقاب احتجاجات استمرت أشهراً ضد حكمه؛ برزت مسألة تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية على الساحة السودانية لتُسبِّب جدلاً قانونياً وسياسياً. وتُشير التقارير إلى أن الحكومة الانتقالية الحالية -التي تتألّف من أعضاءٍ مدنيين وعسكريين- كانت تدرس مُختلف الخيارات في الشهر الماضي.
فعلاوةً على تسليم البشير وغيره من المطلوبين إلى المحكمة الجنائية الدولية، ألمح بعض المسؤولين إلى احتمالية محاكمتهم أمام النظام القضائي السوداني، فضلاً عن إمكانية تشكيل محكمةٍ مُختلطة تتألّف من قضاة السودان وقضاة المحكمة الجنائية الدولية بمشاركة الاتحاد الأفريقي.
ورغم أن القيادة في الخرطوم لم تتّخذ قرارها بعد، لكن المُحامين وجماعات حقوق الإنسان السودانية جادلوا بأن البشير -المسجون حالياً في العاصمة السودانية ويُواجه تهماً بحيازة واستخدام الأموال الأجنبية بطرق غير شرعية- يجب أن يُحاسب على الجرائم الأخرى المُرتكبة خلال حُكمه مثل قتل المُتظاهرين عام 2019.
وإبان النظر في الخيارات المُتاحة، سلّطت قضية البشير الضوء على تعقيدات الضغط من أجل العدالة في ظل بقاء عناصر من النظام السابق للحاكم المخلوع جزءاً من قيادة البلاد حتى يومنا هذا.
الحكومة تُوازن بين الخيارات المُتاحة
تشمل قائمة المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية عمر البشير، ووزير دفاعه السابق عبدالرحيم محمد حسين، ورئيس حزب المؤتمر الوطني السابق أحمد هارون، والقائد البارز في ميليشيا الجنجويد علي كوشيب بسبب دورهم في القمع الحكومي الوحشي بمنطقة دارفور غربي البلاد منذ عام 2003.
وأدى قمع الدولة العنيف في دارفور إلى قتل 300 ألف شخص بين عامي 2003 و2013، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة. وفي حال تسليم البشير إلى لاهاي، فسيكون ثالث زعيمٍ أفريقي يظهر أمام المحكمة بعد رئيس ساحل العاج السابق لوران غباغبو ورئيس كينيا الحالي أوهورو كينياتا. ولكن بعكس الآخرين، من المتوقع والمُرجّح أن يُدان البشير لاتّهامه بارتكاب جرائم أوسع نطاقاً بكثير.
وفي الـ11 من فبراير/شباط، أعلن عضو المجلس السيادي محمد حسن التعايشي أن السودان سيسمح للبشير وشخصيات مطلوبة أخرى بـ"الظهور" أمام المحكمة. ولكن بعد ثلاثة أيام فقط، قال رئيس السلطة السياسية الانتقالية اللواء عبدالفتاح البرهان إنّ هذا الظهور لا يعني بالضرورة تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وأوضح: "كلمة (الظهور) لا تعني أنّ الشخص المطلوب سيُرسل إلى لاهاي. ولكننا في الحكومة نُجري مشاورات مُكثّفة لتحديد كيفية المضي قدماً في هذا الشأن، ومراجعة خيارات موقع عقد المُحاكمة".
محاكمة سودانية أم دولية في لاهاي؟
صرّح المتحدّث باسم الحكومة السودانية ووزير الإعلام فيصل محمد صالح لموقع Middle East Eye البريطاني بأنّ الخرطوم مُلتزمةٌ بالعمل مع المحكمة الجنائية الدولية قائلاً: "نحن مُلتزمون تماماً بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولي، ونُؤكّد الآن هذا الالتزام بالسماح لكافة المطلوبين بالظهور في المحكمة، ولكن الموقع المُحدّد لعقد المُحاكمة لا يزال محل نقاش بيننا في الحكومة الانتقالية وبين المحكمة الجنائية الدولية".
ورغم ذلك فإن المحكمة الجنائية الدولية قالت للموقع البريطاني إنّها لم تتواصل مع السلطات السودانية بشأن مصير البشير وزملائه المُتهمين حتى الآن.
إذ أكد المتحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية فادي العبدالله: "نحن على علمٍ بالتغطية الإعلامية التي تُفيد بأنّ السلطات السودانية وافقت على تسليم الرئيس السابق عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية. لكن تلك التقارير الإعلامية غير مُؤكدة للمحكمة".
محكمةٌ مُختلطة أم إصلاحٌ كامل؟
تُمثِّل قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1593 و1970 الأساس الذي قام عليه تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم المرتكبة داخل دارفور. ويُسلّط القراران الضوء على مسؤولية الدولة السودانية، وكذلك الاتحاد الأفريقي، عن التعاون مع الإجراءات القانونية المُتّخذة ضد البشير.
ونتيجةً لذلك يعتقد الخبراء القانونيون السودانيون أنّ السودان يتحمّل مسؤولية تقديم كافة المتّهمين بانتهاك القانون الدولي إلى العدالة بأيّ وسيلة مُمكنة، علاوةً على حماية سكانه المدنيين.
وبالنسبة للباحث القانوني السوداني منعم آدم، فإنّ النظام القضائي السوداني غير مُجهّز للتعامل مع قضايا البشير بمفرده. إذ قال آدم لموقع Middle East Eye: "ينص مبدأ التكامل على أنّ النظام القانوني المحلي يجب أن يُحاكم على الجرائم المُرتكبة أولاً. وإحدى مبررات نقل الاختصاص بالقضية من السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية هي أنّ النظام المحلي لا يستطيع محاكمة هذه الجرائم الخطيرة. فليس هناك بديلٌ سوداني لنظام روما الأساسي بوصفه آليةً لمحاكمة الجرائم بموجب القانون الدولي".
ولكن آدم قال للموقع البريطاني إنه لا يرى في اختيار المحكمة الجنائية الدولية الوسيلة الأكثر فاعلية للدفع بتغييرات قانونية داخلية في أعقاب انتفاضة السودان عام 2019.
وجادل قائلاً: "لا أعتقد إطلاقاً أنّ المحكمة الجنائية الدولية تُمثِّل الآلية الأفضل للوضع في السودان، وخاصةً الآن. ويجب أن تأخذ الإجراءات في الاعتبار الوضع السياسي في السودان أيضاً. وأرى أنه من الأفضل أن تضطلع محكمةٌ مُختلطة بالحُكم في هذه القضايا، وسيكون لذلك تأثيرٌ كبير على المستوى السياسي وما يتعلّق بالعدالة الانتقالية أيضاً".
القوانين التي تحاكم على جرائم الحرب لا وجود لها حالياً في السودان
في حين أعرب الخبير القانوني السوداني علي عجب عن قناعته بأنّ البشير وغيره من المتهمين كانت تجب مُحاكمتهم داخل السودان، ولكن في أعقاب الإصلاح الجذري للنظام القانوني في البلاد.
وأردف: "المحاكمة على هذه الجرائم الخطيرة أمام المحكمة الجنائية الدولية لن يُسهم في التغييرات السياسية، ولن يُساعد في تعزيز النظام القضائي المحلي".
وجادل عجب بأنّ المُحاكمة المُنعقدة داخل السودان سيكون لها ثقلٌ مُختلف عن المُحاكمة المُنعقدة خارج البلاد، إذ ستُدشن حقبةً جديدة للبلاد.
وأردف أنّ "الضحايا سيقتنعون حين تُعقد المحاكمة أمام أعينهم، كما سيُوفّر ذلك حمايةً ومصداقيةً أكبر للشهود وشهاداتهم"، مُجادلاً بأنّ توفير الأمن وسهولة الحركة للشهود سيكون أسهل داخل حدود البلاد.
ثم أكد قائلاً: "لا نُريد أن تكون المحاكمة حدثاً فردياً. بل نُريدها أن تكون جزءاً من الإرث القضائي السوداني حتى تُساهم في وقف الجرائم، وإصلاح النظام، والحيلولة دون إفلات المُجرمين من العقاب".
ورغم ذلك، قال آدم إن القوانين التي يُمكنها المحاكمة على جرائم الحرب لا وجود لها حالياً في السودان، وشكّك في إمكانية تطبيق أيّ إصلاحات بأثرٍ رجعي.
إذ جادل قائلاً: "أي إصلاحات قانونية مُحتملة لن يكون لها أثرٌ قانوني على الموقف (أي المُحاكمة على الجرائم داخل السودان)؛ لأن انتهاكات القانون الدولي حينها لم تكُن جزءاً من القانون الجنائي السوداني".
وأردف آدم أن أي إصلاحٍ قانوني وطني مُتسرّع، يجري تنفيذه فقط من أجل تجنُّب التدخُّل الخارجي في الشؤون السودانية، لن يكون كافياً. وشدّد على أنّ "القدرة تُعرّف بحسب القانون الدولي على أنّها امتلاك نظامٍ قوي ومتين للمحاكمة على هذه الجرائم الخطيرة، ولكن ما يحدث من السلطات السودانية حالياً يدعم -بطريقةٍ ما- إفلات المجرمين من العقاب عن طريق منع الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية".
ما مصير الجنرالات القائمين على الحكم؟
أشار آدم إلى أنّ أبرز عقبة تقف في طريق المساءلة القانونية هي دور عناصر الجيش والميليشيا السودانية، التي كانت في السابق جزءاً من أجهزة دولة البشير، في القيادة الحالية للبلاد، وبعضهم لا يزال مُتّهماً بالتورّط في جرائم دارفور.
وخير مثال على هذه الشخصيات هو محمد دقلو المعروف باسم حميدتي. إذ يرأس حميدتي قوات الدعم السريع، وهي مجموعةٌ شبه عسكرية تتألّف من مختلف جماعات ميليشيا الجنجويد المُتّهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور وقمع انتفاضة عام 2019 بالقتل. ويشغل حميدتي حالياً منصب نائب رئيس المجلس السيادي.
ويعتقد آدم أنّ بعض قادة الميليشيا والجيش يخشون أن تكون لدى المحكمة الجنائية الدولية قائمة اتّهام أخرى غير مُعلنة للمشتبه في تورّطهم بارتكاب جرائم داخل السودان.
وأوضح: "جميعهم يتوقّعون إدراج أسمائهم على تلك القائمة. ويُحاولون التخلص من القضية بتسليم البشير، وحل المشكلة"، في إشارةً إلى أنّ القيادة السودانية ربما تحتاج لضمانات قبل أن تُقرّر تسليم البشير.
وأشار آدم إلى أنّ انعدام الثقة بين الأطراف المدنية، والعسكرية، وشبه العسكرية في الحكومة الانتقالية هو العامل المُؤكّد أنّه يُعرقل الإجراءات القانونية ضد البشير.
وأردف الباحث: "هناك انعدام ثقة كبير بين أعضاء المجلس السيادي الانتقالي في السودان بسبب مفاهيم العدالة والسلام، في حين يرى الباحثون أنّ الشاغل الرئيسي هو العدالة. إذ يشعر الجيش الذي يتقاسم السلطة حالياً مع المدنيين بالتهديد حين تُذكر كلمة "العدالة"، لأنّه كان جزءاً من النظام إبان ارتكاب الجرائم الخطيرة في دارفور وأجزاء أخرى من السودان".
وشكّك آدم كذلك في ما إذا كانت الأطراف الدولية ستضغط من أجل تحرُّك المحكمة الجنائية الدولية ضد البشير، في حين لا يزال السودان بلداً في حالةٍ هشة من التحوُّل السياسي.
واختتم حديثه قائلاً: "أتوقع أنّ المجتمع الدولي الذي دعم المحكمة الجنائية الدولية بقوةٍ في الماضي لن يدعمها الآن، لأنّ الاستقرار يأتي قبل العدالة في وجهة نظره".