ثمة العديد من القصص المرعبة التي يمكن لأماني بلور روايتها من السنوات الست التي قضتها في إدارة مستشفى سري تحت الأرض أثناء القصف والحصار في سوريا. لكن الأطفال هم أكثر من تتذكرهم الطبيبة. تقول أماني لصحيفة The Guardian البريطانية: "أتذكر صبياً يبلغ من العمر تسع سنوات تقريباً، أحضره والداه وهو يعاني من إصابات مروعة. وكان جزء من رأسه مفقوداً وينزف من أذنيه".
وتضيف: "كان واضحاً أننا لا يمكننا مساعدته، لكن قلبه كان مستمراً في الخفقان واستمر في التنفس لساعات. وكان ذلك بمثابة تعذيب لوالديه لأننا كنا جميعاً نعرف أنه لن ينجو. وفي النهاية أرادا أن أقدم له شيئاً يساعده كي يموت. وعند هذه النقطة، انهرت تماماً. لم أستطِع مساعدته أو مساعدتهما".
شهدت أماني (33 عاماً)، التي كان عملها في المستشفى موضوع الفيلم الوثائقي الذي رُشح لجائزة الأوسكار "الكهف"، العديد من القصص المرعبة المشابهة، التي تقول إنها مستمرة في سوريا حتى ونحن نتحدث.
وقف النار في إدلب
ويُذكر أنه منذ عام 2011، مات 500 ألف سوري في الحرب الأهلية المريرة التي شهدتها البلاد وشُرد أكثر من خمسة ملايين، عديدٌ منهم في الخارج. وأماني الآن واحدة منهم، إذ إنها تعيش في تركيا، لكن عملها في الغوطة الشرقية، إحدى ضواحي دمشق التي كانت تسيطر عليها قوات المعارضة وحوصرت لمدة خمس سنوات ودُكت بالقنابل والصواريخ والأسلحة الكيميائية، ما زال يلاحقها. وقد صنفت الأمم المتحدة هذا الحصار- الذي يُعتبر أطول حصار متواصل في التاريخ الحديث- جريمة حرب.
وفي الأشهر الأخيرة، هاجمت الطائرات الحربية الروسية، التي هي جزء من تحالف عسكري مع بشار الأسد، منطقة إدلب التي تسيطر عليها قوات المعارضة، وقصفت المدنيين والمستشفيات والمدارس في انتهاك للقانون الدولي.
والأسبوع الماضي، بعد اشتباكات بين القوات التركية التي تدعم قوات المعارضة، وقوات النظام المدعومة من روسيا، أسفرت عن مقتل 200 جندي وعشرات المدنيين، من بينهم أطفال قتلوا أو أصيبوا، اتفقت أنقرة وموسكو على وقفٍ هش لإطلاق النار، يقول مراقبون إنه من المستبعد أن يستمر. لكن أماني ترى أنه لا بد أن يستمر. وقالت إن العنف لا بد أن يتوقف.
كل ما نطلبه أن نعيش
كانت أماني تجلس في أحد مقاهي باريس الأسبوع الماضي، بعد انتهائها مباشرة من اجتماع مع وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان. وكانت في بلجيكا قبل أيام وستسافر إلى جنيف نهاية هذا الأسبوع، ثم إلى الولايات المتحدة، بهدف مناشدة القادة الأوروبيين والأمريكيين الضغط على روسيا، ولطلب إرسال المزيد من المساعدات الإنسانية إلى سوريا والآلاف الفارين من الحرب. وهي لا تطلب المساعدات المادية فقط، وإنما التعاطف أيضاً.
وقالت: "أناشد الناس في أوروبا أن يتذكروا أن اللاجئين بشر. ولهم الحق في أن يكونوا آمنين، وأن يعيشوا. هؤلاء الناس لا يريدون الرحيل من سوريا. ولم أكن أرغب في الرحيل، ولا أحد يريد الرحيل. كل ما نطلبه أن نعيش. وسأعود إلى وطني عندما أتمكن من ذلك".
وما يزال والدا أماني يعيشان في سوريا، ولكنهما يشعران بالخوف من انتقام النظام بسبب تحدي ابنتهما الخطير له. لكنهما اعتادا تمردها على تقاليدهما وتوقعاتهما.
فعندما كانت طفلة، ثارت أماني، ثاني أصغر فرد في عائلة مكونة من أربع فتيات وصبيّين، على عدم السماح لها بركوب الدراجة مثل إخوانها، ورفضت أن تتزوج وهي في الثالثة عشرة من العمر مثل أختها الكبرى. وكانت تطمح إلى دراسة الهندسة، لكنَّ والديها رفضا، وأصرا على أن هذه المهنة لا تناسب المرأة. واتفقوا أخيراً على أن تدرس الطب في جامعة دمشق.
وقالت: "كانوا ينتظرون منِّي أن أتزوج وأنجب أطفالاً. كان والدي يخبرنا نحن الفتيات: "ما فائدة الشهادة في المطبخ؟"، لكنني كنت متفوقة في الدراسة وأردت أن أفعل شيئاً. كنت أحلم بالتخرج وفتح عيادة ومساعدة الأطفال".
وبحلول عام 2012- بعد عام من بدء الحرب الأهلية- أكملت أماني دراساتها العامة في الطب وتخصصت في طب الأطفال، ولكنها توقفت عن الدراسة لعلاج المرضى في مستشفى الغوطة الشرقية. وعندما ازدادت الغارات الجوية كثافة، وتحولت المباني القريبة إلى الأنقاض، اضطروا لتشغيل المستشفى من شبكة معقدة من الغرف والأنفاق تحت الأرض.
وبعد أربع سنوات، عندما كانت لا تزال في الـ29 من عمرها، صوّت الموظفون بتعيين أماني مديرة للمستشفى وقيادة المئة موظف المتبقين، الذين كان من بينهم جراح وعدد قليل من الأطباء، معظمهم من الطلاب. وأظهرت صور التقطتها طائرة مسيرة بين قصف وآخر مدى الدمار من حولهم.
فيلم وصل للأوسكار
وعام 2018، تحت القصف الذي كان يحدث كل يوم، وكل ساعة في بعض الأحيان، شعرت أماني باليأس من صعوبة موقفهم مع اقتراب قوات الأسد. وأمرت بإخلاء المستشفى ورحل أفراد الطاقم الطبي الذين أنقذوا الآلاف من الأرواح خوفاً على حياتهم.
يسجل فيلم "الكهف"، الذي صوره المخرج السوري فراس فياض على مدى عامين- الذي أخرج أيضاً الفيلم الوثائقي الذي رُشح لنيل جائزة الأوسكار "آخر الرجال في حلب"- فظائع الحرب: وصول الجرحى من البالغين والأطفال والرضع الذين سقطوا في غارات جوية وأجسادهم مغطاة بالدماء أو مختنقين من هجوم بالأسلحة الكيميائية؛ والعمليات الجراحية التي تُجرى دون تخدير وعلى صوت الموسيقى الكلاسيكية. وتضطر أماني أيضاً إلى الدخول في جدال مع الرجال المحليين الذين يزعمون، حتى في هذه الحالات الحرجة، أن المرأة لا تصلح لإدارة مستشفى.
واليوم، تأمل أماني أن تصبح قدوة للفتيات السوريات، وأنشأت صندوقاً للقضاء على التحيز ضد المرأة في مناطق النزاع.
وقالت: "لن أنسى أبداً ما رأيته. أتذكر كل طفل من هؤلاء الأطفال وبإمكاني تذكرهم جيداً. وأنا هنا لأكون صوتهم، لأتحدث عن معاناتهم وحياتهم. لأخبر قصتهم عن قتل الناس كل يوم. هذا هو سبب وجودي هنا".