يمر تاريخ المملكة العربية السعودية بمفترق طرق لم يحسب له المؤسس حساباً، وعلى الرغم من محاولة الملك عبدالله بن عبدالعزيز تفادي ما يحدث الآن تحديداً من خلال تأسيس هيئة البيعة، فإن شخصية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وطموحاته وخوفه من معارضيه يهدد مستقبل المملكة وليس فقط حاضرها، فما قصة الصعود المزلزل للمقامر الذي يريد سلطة مطلقة تفوق ما تمتع به جده عبدالعزيز آل سعود؟
رسالة تخويف نابعة من الخوف
في تحليل لرويترز حول حملة الاعتقالات الأخيرة، كان الهدف الرئيسي لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان هو توجيه رسالة قوية لمنتقديه من داخل العائلة الحاكمة مفادها: "لا تجرؤوا على معارضة صعودي للعرش".
مصادر متعددة – سعودية وغربية – قالت إن الهدف الرئيسي من الرسالة هو الأمير أحمد بن عبدالعزيز الشقيق الأصغر للملك سلمان، وهو واحد من ثلاثة فقط من أعضاء هيئة البيعة، المسؤولة عن اختيار الملك وولي العهد، عارضوا تولِّي الأمير محمد ولاية العهد في انقلاب قصر عام 2017.
هذه الرسالة نابعة بالأساس من خوف ولي العهد من أمراء آل سعود المعترضين على الصعود غير المنطقي للشاب الذي يصفه كثير من المحللين الغربيين بالأرعن والمقامر، خصوصاً في حالة وفاة والده الملك بصورة مفاجئة، إذ ربما تشهد المملكة حدثاً آخر غير مسبوق يتمثل في غياب لمشهد البيعة المعتاد منذ وفاة جده الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود.
ما قصة هيئة البيعة؟
وحتى تتضح الصورة أكثر، نعود للخلف حتى عام 2007 وهو العام الذي شهد تأسيس هيئة البيعة أثناء وجود الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وكان الداعي لوجود هيئة البيعة هو الحاجة للتوافق على آلية جديدة لانتقال الحكم تعوض تلك التي كانت متبعة منذ وفاة الملك عبدالعزيز آل سعود عام 1953 وكانت تتلخص في تولي الحكم أكبر أبنائه سناً.
وتحت آلية أكبر أبناء عبدالعزيز سناً، توالى على الحكم الملك سعود بن عبدالعزيز حتى عزله بسبب المرض وعدم قدرته على ممارسة مهامه وكان ذلك عام 1965 (توفي بعد ذلك بأربعة أعوام في اليونان)، وتولى الملك فيصل بن عبدالعزيز حتى مقتله عام 1975 وتولى الحكم الملك خالد بن عبدالعزيز حتى وفاته عام 1982، ثم تولى الملك فهد بن عبدالعزيز الحكم واتخذ لنفسه لقب "خادم الحرمين الشريفين"، وكان ولي العهد أخوه عبدالله بن عبدالعزيز، حتى توفي فهد عام 2005 وتولى عبدالله الحكم.
في هذا الوقت بدأ الحديث عن مستقبل الحكم في المملكة، حيث كان الإخوة الباقون على قيد الحياة في مرحلة متقدمة من العمر وأصبحت آلية انتقال الحكم لأكبر أبناء عبدالعزيز سناً تحتاج للمراجعة للتوافق على آلية جديدة تضمن انتقال الحكم للجيل الثاني من الأحفاد.
من هنا برزت فكرة تأسيس هيئة البيعة لتكون مهمتها اختيار الأصلح لتولي الحكم من بين أحفاد الملك المؤسس، وتم بالفعل إعلان تأسيسها في العاشر من ديسمبر/كانون الأول عام 2007 برئاسة الأمير مشعل بن عبدالعزيز، ونص القرار الملكي بتأسيسها على أن تكون عضويتها من أبناء الملك المؤسس الباقين على قيد الحياة وأحد أبناء كل متوفَّى، أو معتذر، أو عاجز بموجب تقرير طبي، يعينه الملك على أن يكون مشهوداً له بالصلاح والكفاية، إضافة إلى اثنين يعينهما الملك، أحدهما من أبنائه، والآخر من أبناء ولي العهد.
الأمير الشاب الطموح ولياً للعهد في انقلاب
كان ولي عهد الملك عبدالله، سلطان بن عبدالعزيز وتوفي في أكتوبر/تشرين الأول 2011 فخلفه الأمير نايف بن عبدالعزيز حتى وفاته أيضاً في يونيو/حزيران 2012، وتولى سلمان بن عبدالعزيز ولاية العهد حتى وفاة الملك عبدالله في 23 يناير/كانون الثاني 2015.
وتمت مبايعة سلمان ملكاً وأخيه مقرن بن عبدالعزيز ولياً للعهد، لكن بعد فترة قصيرة تم تعيين محمد بن نايف بن عبدالعزيز ولياً لعهد الملك سلمان، بينما أصبح الأمير محمد بن سلمان ولياً لولي العهد وكان وقتها يبلغ من العمر 29 عاماً.
كان واضحاً منذ الوهلة الأولى أن الملك سلمان قد أطلق يد نجله الشاب ليصبح الحاكم الفعلي للمملكة وكان أول قراراته الكبيرة هو الدخول في حرب اليمن وكان غرضه وقتها تحقيق انتصار سريع وحاسم على الحوثيين يتمكن من خلاله تقديم نفسه للسعوديين كملك شاب حاسم وقادر على اتخاذ القرارات الصعبة دون تردد، على عكس ما اعتاده أهل المملكة في ظل حكام كبار في السن يتسمون بالهدوء وعدم التسرع.
لكن المشهد الأبرز هو إعفاء الأمير محمد بن نايف من ولاية العهد بأمر ملكي وتعيين محمد بن سلمان مكانه فيما يوصف بأنه انقلاب، وكان ذلك في 21 يونيو/حزيران 2017 (الأمير محمد كان في الواحدة والثلاثين من عمره)، ومن بعدها بدأ ولي العهد الشاب رحلة السيطرة المطلقة على مقاليد الأمور في المملكة، ومن المهم هنا أن نذكر وجود 3 أمراء اعترضوا في هيئة البيعة على توليه ولاية العهد نعرف منهم عمه الأمير أحمد بن عبدالعزيز (المعتقل مؤخراً).
رحلة إرهاب المعارضين
بدأ ولي العهد في الترويج لنفسه على أنه مؤسس السعودية الحديثة وأصبح MBS (اختصار محمد بن سلمان) يتصدر عناوين الأخبار حول العالم، وتحدث كثيراً عن رؤيته 2030 التي تهدف إلى تحويل المملكة لدولة عصرية منفتحة، واتخذ قرارات ثورية بالفعل، منها تقليص سلطات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمكين النساء من قيادة السيارات، وإلغاء ولاية الرجل على المرأة، كما بدأت المملكة تشهد عروضاً فنية يؤديها أشهر المطربين والمطربات في العالم، وسُمح للمرأة بحضور مباريات كرة القدم، وافتتحت الملاهي، وصدرت للمرة الأولى تأشيرات سياحية، واستضافت المملكة أحداثاً رياضية عالمية.. إلخ.
وفي مجال الاقتصاد اتخذ الأمير الشاب قراراً درامياً بطرح حصة من أسهم شركة أرامكو في البورصة بهدف تنويع الموارد في المملكة المعتمدة كلياً على النفط، ورغم تأخر الطرح الأولي كثيراً، نفَّذ الأمير الشاب قراره أواخر العام الماضي وأصبحت أرامكو مدرجة في البورصة السعودية بالفعل، بعد حملة ترويجية ضخمة شجعت السعوديين على شراء الأسهم، واعدة إياههم بأن من لا يفعل سوف يندم على ضياع فرصة العمر للثراء.
لكل قرار يتخذه ولي العهد يوجد معارضون بالطبع، وهذا ما لا يقبل به الأمير محمد وهذه إحدى سماته الرئيسية؛ فما حدث في اغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي يوضح هذه الصفة بالبرهان القاطع، فعلى الرغم من إنكار الأمير إعطائه الأمر بالقتل، فإنه لا أحد يصدق أن مستشاره الأقرب سعود القحطاني ونائب رئيس المخابرات وفريقين من القتلة المحترفين الذين يحملون جميعاً صفات رسمية وسافر بعضهم على متن طائرة الأمير يمكن أن ينفذوا جريمة الاغتيال بتلك البشاعة دون أوامر مباشرة منه، وإلا عرضوا أنفسهم للهلاك.
حتى الناشطات من أمثال لجين الهذلول الذين اعتقلن وتعرضن للتعذيب رغم أنهن لم يطالبن بأكثر مما قرره الأمير نفسه في مجال حقوق المرأة، لا تزال تلك النسوة قابعات في سجون الأمير الذي لا يقبل إلا الإذعان التام لسلطته المطلقة.
هل الرسالة للأمراء تمهيد للجلوس على العرش؟
قبل العودة لهذه النقطة، من المهم هنا التوقف عند نتائج ما يتخذه ولي العهد من قرارات تبدو اندفاعية ويتسم أغلبها بالمقامرات غير المحسوبة، ومنها مثلاً طرح أرامكو التي انهارت قيمتها السوقية في اليومين الماضيين بسبب مقامرته الدخول في حرب أسعار النفط مع روسيا، مما أدى لانخفاض سعر البرميل إلى حد 30 دولاراً للبرميل لتحدث أزمة اقتصادية عالمية ويزداد السخط داخلياً بعد أن فقد أكثر من 5 ملايين سعودي الكثير من مدخراتهم في أسهم أرامكو.
ولا يختلف الأمر كثيراً مع جميع قرارات الأمير الشاب، بداية من حرب اليمن التي تحولت لمستنقع حقيقي أساء لسمعة المملكة دولياً وسبب نزيفاً مستمراً في موازنة الدولة، ناهيك عن الكارثة الإنسانية في اليمن، وحالة الرعب الدائم التي يعيشها السعوديون في الأقاليم المتاخمة لحدود اليمن بسبب هجمات الصواريخ والطائرات المسيرة من الحوثيين المدعومين من إيران.
ونتوقف هنا عند حملة الاعتقالات الأخيرة التي طالت أبرز المعارضين لولي العهد، وهما عمه الأمير أحمد بن عبدالعزيز، وابن عمه الأمير محمد بن نايف، وبالتحديد توقيت الرسالة التي أراد ولي العهد المتعطش للسلطة توصيلها.
فقد قالت أربعة مصادر على صلة بالعائلة الحاكمة لرويترز إن الخطوة تهدف إلى ضمان الإذعان داخل عائلة آل سعود الحاكمة، التي شعر بعض أفرادها بالاستياء، قُبيل انتقال السلطة في حال وفاة الملك أو تخليه عن العرش، ووصف أحد المصادر الاعتقالات بأنها مساعٍ استباقية لضمان موافقة هيئة البيعة على تسليم العرش للأمير محمد عندما يحين الوقت.
وقال مصدران ودبلوماسي أجنبي بارز إن ولي العهد، الذي سعى جاهداً لإحكام قبضته على السلطة، خشي من احتمال أن يحتشد الأمراء الساخطون حول الأمير أحمد والأمير محمد بن نايف باعتبارهما بديلين محتملين لتولِّي العرش، وقال مصدر منهما: "هذا تحضير لانتقال السلطة… إنها رسالة واضحة للعائلة بأنه ليس بوسع أحد أن يعترض أو يجرؤ على تحديه".
هذه المعلومات – إن صحَّت – تشير إلى أحد أمرين؛ الأول أن تكون صحة الملك سلمان ليست على ما يرام وهو ما يسبب قلقاً لولي العهد من أن يموت والده فجأة فيحدث انقسام داخل هيئة البيعة يعرقل مبايعته، وهذا ليس أمراً مستبعداً، فقد نجح ولي العهد بامتياز في كسب عداوات غالبية أمراء الأسرة من أبناء عمومته على مدى خمس سنوات، شهدت اعتقال أغلبهم في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 في واقعة الريتز كارلتون الشهيرة، كما أن الموقف خارجياً ليس بأفضل حالاً بعد جريمة اغتيال خاشقجي وحرب اليمن، إضافة لمقامرته الأخيرة بشأن أسعار النفط والتي أزعجت حتى حليفه الأقرب دونالد ترامب.
الأمر الثاني هو أن تكون بالفعل خطوة استباقية استعداداً لتولي السلطة، الهدف منها إدخال الرعب في قلوب معارضيه داخل الأسرة المالكة، وإن كان الأمران لا يمكن أن يصدرا إلا عن شخص يعيش حالة من الخوف والقلق بشأن وضعه كوليّ للعهد أو كملك محاط بمن يتمنون التخلص منه، ولو حتى لم يفعلوا شيئاً لتنفيذ أمنياتهم.