في مقطع فيديو صوّره والدها، تستمع سلوى البالغة من العمر ثلاث سنوات بترقب إلى قعقعة المعدات العسكرية عن بُعد، ويسألها بينما يجلسان سوياً على الأريكة: "أهي طائرة أم قذيفة؟"، لتصرخ ضاحكةً بهستيريا بعد سماعها دوي الانفجار: "قذيقة!".
كان ابتكار لعبة من أصوات الغارات الجوية والقصف هو الوسيلة التي ساعدت عبدالله محمد، (32 عاماً)، على حماية ابنته من صدمة الحرب في سوريا. في الأسبوع الماضي، تمكنت أسرته من الدخول إلى مدينة أنطاكيا، الواقعة على الحدود التركية، بسلام. والآن ترقص سلوى حول منزلها الجديد مرتدية فستاناً وردياً، ولأول مرة في حياتها، لم تعد مضطرة لسماع أصوات النزاع من حولها.
قال عبدالله، وقد غمره الارتياح لصحيفة The Guardian البريطانية: "لا داعي للخوف بعد الآن، أصبح لسلوى مستقبل مختلف تماماً".
حظت العائلة لحسن حظها بدعوة للانتقال إلى تركيا بدلاً من الاضطرار لدفع أموال تقدر بآلاف الدولارات للمهربين، ثم محاولة تفادي رصاص حرس الحدود. لا يزال هناك 3 ملايين شخص محاصرين نتيجة للحملة التي شنها منذ 3 أشهر بشار الأسد وحلفاؤه الروس للسيطرة على محافظة إدلب الواقعة في شمال غرب سوريا، وهي آخر معقل للمعارضة في البلاد، في حين تم الاتفاق الخميس 5 مارس/آذار على وقف إطلاق نار لا يعرف مدى متانته بعد، في موسكو بين الرئيسان التركي والروسي، ما زال مصير مئات آلاف النازحين مجهولاً.
900 ألف نازح مصيرهم مجهول
أفرغ سلاح الجو الروسي البلدات والقرى من المدنيين والمقاتلين، ما سمح للجيش السوري والميليشيات المتحالفة معه المدعومة من إيران بالتقدم والاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي.
وبينما تزعم دمشق وموسكو أنَّهما تستهدفان الفصائل الجهادية غير المشمولة ضمن اتفاقية خفض التصعيد التي عقدت في عام 2018، تقول الأمم المتحدة إنَّ القصف الجوي والمدفعي أودى بحياة أكثر من 130 مدنياً في فبراير/شباط وحده، مع قصف عشرات المستشفيات والمدارس. غادر أكثر من 900 ألف شخص منازلهم، معظمهم يفرون شمالاً ليحظوا بالأمان النسبي عند الحدود التركية، في ما يُعتبر أسوأ الأزمات الإنسانية التي خلفتها الحرب السورية القائمة منذ تسع سنوات حتى الآن.
أدى التهديد بتدفق جديد محتمل لملايين اللاجئين إلى تعزيز تركيا، التي تدعم بعض قوى الثورة، وجودها في إدلب، وإرسالها آلاف القوات وقوافل المعدات في محاولة لصد تقدم النظام.
ما أدى بدوره إلى تصاعد التوتر بين أنقرة وموسكو بعد مقتل 33 جندياً تركياً على الأقل في غارة جوية يوم 27 فبراير/شباط. وبينما وجهت تركيا، عضو الناتو، أصابع الاتهام رسمياً إلى النظام السوري على الهجوم، تشير مصادر ميدانية إلى أن القوات الجوية الروسية هي التي نفذت هذا الهجوم في واقع الأمر.
بعيد ذلك، صبّ الأتراك غضبهم على قوات الأسد بتدمير عشرات الدبابات، ومدافع الهاوتزر، وأنظمة الدفاع الجوي، في ما شكل إعلان حرب على النظام. وفي يوم الثلاثاء 3 مارس/آذار 2020، حلقت طائرات تركية من طراز "إف-16" فوق معبر باب الهوى الحدودي المؤدي إلى إدلب، واسقطت هناك رابع طائرة سورية، قبل أن يتم التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار الخميس.
"سقوط الطائرات الحربية إنقاذ للمدنيين"
يقول عمر سعد، وهو مقاتل مع جماعة الجبهة الوطنية المدعومة من تركيا: "كانت الطائرات بدون طيار والمدفعية وصواريخ أرض-أرض التركية قد أرغمت النظام على التقهقر، إنها المرة الأولى التي أرى هجمات جوية تلاحق جنود الأسد بالطريقة ذاتها التي يقتلون بها المدنيين. إنه العدل، وسقوط كل طائرة حربية يعني إنقاذ مزيد من أرواح المدنيين".
خلاف ذلك، يغلب على الجانب التركي من المنطقة الحدودية الهدوء على نحوٍ حذر. تنام الكلاب الضالة تحت أشجار المشمش المزدهرة، وتجول الأغنام على جانب التل، بينما علقت المتاجر في مدينة الريحانية الحدودية الأعلام التركية تضامناً مع العملية.
وقد شهد معبر باب الهوى سيلاً متواصلاً من المركبات العسكرية وشاحنات الإغاثة، فضلاً عن إعلان جيمس جيفري الممثل الأمريكي الخاص لشؤون سوريا، وكيلي كرافت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، دعمهما الفوري خلال زيارة إلى مخيمات أطمة للنازحين يوم 3 فبراير/شباط 2020.
إلى أين المفر؟
تسير حركة التنقلات بين البلدين غالباً في اتجاهٍ واحد؛ يدخل الأتراك سوريا لكن لا يُسمح إلا لعدد قليل من السوريين بالذهاب إلى تركيا، عادةً يكونون ممن استخرجوا تصاريح سفر مسبقاً للحصول على الرعاية الطبية. كأن مخيمات أطمة وما بها من أوضاع متزايدة السوء لا تحدث على الجانب الآخر من الحدود، إنَّما على بعد آلاف الكيلومترات.
الوضع الحقيقي هو عكس المشهد الذي يتكشف على الجانب الآخر من البلاد، عند حدود تركيا مع الاتحاد الأوروبي. ففي أعقاب الهجوم على القوات التركية، أعلنت أنقرة أنها لن تمنع المهاجرين من محاولة العبور إلى أوروبا؛ وهي خطوة تهدف إلى الضغط على الحلفاء الغربيين لدعم الحملة العسكرية التركية في إدلب.
منذ ذلك الحين، تُقدر المنظمة الدولية للهجرة أن ما لا يقل عن 13 ألف شخص قد سافروا غرباً لتجربة حظهم. غرق طفل سوري بعد انقلاب قارب أثناء محاولته الوصول إلى جزيرة ليسبوس اليونانية، وتُوفي رجل حلبي بعد إصابته برصاصة مطاطية في الحلق زُعم أنَّ حرس الحدود اليونانيين هم من أطلقوها.
في حين، نشرت مقاطع فيديو وصور على مواقع التواصل الاجتماعي لعشرات اللاجئين بعضهم سوريون، يعودون شبه عراة من الجانب اليوناني، بعد أن تم ضربهم وسلب أمتعتهم وهواتفهم وأموالهم، وتعريتهم من ملابسهم في ظل درجات حرارة متدنية، في إصرار واضح من قبل أثينا على رفض حاسم لدخول أي لاجئ إلى أراضيها نحو أوروبا.
"أشعر بالذنب"
لا يملك عبدالناصر الديش، المحاصر في مخيمات أطمة، المال الذي يطلبه المهربون لنقل زوجته وأطفاله الثلاثة إلى تركيا (3 آلاف دولار للشخص الواحد).
ويقول: "سمعنا أن تركيا ستفتح الحدود مع إدلب لكنها لا تزال مغلقة، لم يفتحوا سوى الجانب المطل على أوروبا. الجميع يستخدمونا كأداةٍ للمساومة. معاملتنا مثل المرض الذي لا يريده أحد هو أمر مهين".
فيما يقول عبدالله، والد سلوى، إنَّه يشعر بالذنب لأنَّ عائلته تمكنت من الفرار بينما ما زال الكثيرون في سوريا يعانون: "أشعر بالسوء لأنَّني تركت أشقائي وأبناء عم سلوى وجدها. لكن في الوقت نفسه، أطالب بحياة أعامل فيها بصفتي إنساناً ليس بالكثير. أستطيع الآن اصطحاب سلوى إلى الحديقة كل يوم. أصبحت أسعد كثيراً مما كانت عليه".
تتسلل سلوى إلى حضنه وهو يتحدث في غرفة المعيشة بمنزل صديق تقيم فيه العائلة الآن، وتطلب أن يحملها ويدغدغها. لا يمكن لأي منهما التوقف عن الضحك.