حين بدأت الاحتجاجات العراقية المناهضة للحكومة العام الماضي، كان أنصار رجل الدين الشيعي الشهير مقتدى الصدر هم مَن أضافوا ثقلاً نوعياً إليها.
فخرجوا بالآلاف، وتصدروا الصفوف الأمامية خلال الاشتباكات مع شرطة الشغب، ووفَّروا الأمن للمتظاهرين، بعد اعتصامهم فترة طويلة. والآن، قد يكون الصدر هو مَن يخمد معركتهم، بحسب تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
إذ أدَّت موجة من البيانات الصادرة عن رجل الدين في الأشهر الأخيرة إلى شق الحراك؛ وهو ما أدَّى إلى اتهاماتٍ بالخيانة. فسحب الرجل أنصاره من مخيمات الاحتجاج، وأعادهم مجدداً لمحاربة من بقوا فيها.
ودفعت التهديدات التي أطلقها رجال ميليشياته النشطاءَ السياسيين إلى الاختباء. وهاجم أتباع الصدر منتقديه بالسكاكين.
صاح أحد أنصاره، ويُدعى سعيد علاء اليسيري، في أحد الأيام مؤخراً، بساحة التحرير في وسط بغداد، في حين كانت مجموعته تتصدى للمتظاهرين بالهراوات والسكاكين: "إنَّهم يهينون الصدر، ولا يمكننا السماح بذلك. إنَّهم يخدمون الأجندات الأمريكية الآن. يجب تطهير هذه الساحة".
من هو مقتدى الصدر؟
والصدر شخصية بارزة بالعراق، وله باع في التحريض على القوات الأمريكية، فضلاً عن أنَّه يتمتع بولاء قوي من جانب عشرات آلاف الأتباع من المتدينين وأفراد الطبقة الوسطى.
لكنَّه يُعَد أيضاً شخصية متغيرة نوعاً ما؛ ففي السنوات التالية على الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، وضع رجل الدين نفسه بصورٍ مختلفة في مواقع الزعيم الميليشياوي الطائفي، والشخصية الثورية، والقوميّ الذي يمكنه توحيد البلاد. ويبدو كذلك أنَّ اعتماده على الدعم الإيراني تعاظم وتضاءل في بعض الأحيان وفقاً لرؤى قاعدته السياسية.
لكنَّ حراك الشباب العراقي برز كتحدٍّ لصورته القديمة باعتباره رجلاً قادراً على التحكم في شوارع البلاد. إذ أسقط الحراك الاحتجاجي، الذي يُمثِّل أكبر انتفاضة عفوية في تاريخ البلاد، حكومةً ورفض رئيسَ وزراء مُرشَّحاً كان يحظى بدعم الصدر. وتنحّى رئيس الوزراء المرشح، محمد توفيق علاوي، الأحد الماضي 1 مارس/آذار.
أنصار الصدر.. أين هم من الحراك؟
يقول مسؤولون أمنيون ومجموعات حقوقية، إنَّ أكثر من 500 متظاهر قُتِلوا على يد القوى الأمنية العراقية والميليشيات المدعومة من إيران منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وتسبب العنف في تحويل ما بدأت باعتبارها احتجاجات مناوئة للفساد إلى ثورة ضد النظام السياسي برمته، وجرى توجيه غضب وسخرية متزايدَين إلى دور إيران الريادي، والآن إلى رجل الدين العراقي نفسه.
قال بن روبين دي كروز، الباحث في الشؤون السياسية العراقية لدى جامعة إدنبره البريطانية: "بهذا المعنى، فإنَّ طبيعة سياسات الاحتجاج العراقية هي التي تغيَّرت، وليس الصدر نفسه".
انضم أتباع الصدر إلى الاحتجاجات في اليوم الأول. فخرج شباب من مدينة الصدر –وهي حي فقير مترامي الأطراف في بغداد سُمِّي تيمناً بوالد مقتدى، وهو أحد آيات الله الذي تعرَّض للقتل، ولطالما تمتع الصدر هناك بدعمٍ شعبي- عفوياً وتصادموا مع شرطة الشغب العراقية مراراً.
يقول المحتجون إنَّهم سئموا الفساد المستشري وغياب الحريات السياسية، الظاهرتين اللتين نتجتا عن نظامٍ سياسي تشكَّل عقب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. وعلى الرغم من الدعم الأوَّلي لمطالبهم، دعا الصدر إلى مسيرة منفصلة بدعمٍ من الميليشيات المدعومة من إيران في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، ثُمَّ غرَّد –على ما يبدو وهو موجود بإيران- بأنَّه سـ"يحاول عدم التدخل في الاحتجاجات، لا سلباً ولا إيجاباً".
وأَمَرَ أنصاره بمغادرة مخيمات الاحتجاج العراقية بعد ذلك بأيام، ثُمَّ أرسلهم للخروج في مسيرات مجدداً، لكن هذه المرة لمعارضة الحشود الشبابية التي خيَّموا معها من قبل.
قال وليد فاضل (27 عاماً)، وهو يشاهد بحذر حين وقع العنف في أحد الأيام مؤخراً: "لم تعُد شرطة الشغب هي التي تهاجمنا، بل هُم".
وتعرَّض عشرات الأشخاص للقتل أو الإصابة في المصادمات الأخيرة.
قالت ريم، وهي محتجة تبلغ من العمر 28 عاماً، في ساحة التحرير ببغداد، وهي تلوّح بيدها تجاه الخيام التي جرى إخلاؤها في الأسابيع الأخيرة: "غيَّر ذلك كل شيء".
فكانت هناك صورة موجودة بهاتفها المحمول، تُظهِر -على ما يبدو- محادثة مشؤومة عبر الإنترنت بين عضو بميليشيا الصدر وشخص آخر تعرفه. تضمَّنت المحادثة صوراً لمحتجين، معظمهم من النساء، بينهم ريم. وكُتِب في الرسالة تحتها: "لدينا معلومات عن 40 شخصاً من الاحتجاجات. وسنعتني بهم".
مراعاة الموازنات
يقول خبراء سياسيون إنَّ الصدر لطالما سعى للموازنة بين احتياجات الشوارع العراقية وهيكل الميليشيات المدعومة من إيران والتي يمثل هو جزءاً منها. لكن مع تصاعد التوترات بين إيران والولايات المتحدة، خصوصاً عقب قرار الرئيس ترامب قتل القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني، إلى جانب أكثر قادة الميليشيات العراقية نفوذاً، أبو مهدي المهندس، تقلَّص مجال المناورة أمام الصدر.
قال روبن دي كروز إنَّ الصدر قرَّر أنَّه حان الوقت لمقايضة دعمه للحراك الاحتجاجي بدورٍ مركزي في تحالف الميليشيات المدعومة إيرانياً.
وقال عباس كاظم، مدير مبادرة العراق بمركز أبحاث المجلس الأطلسي: "بالنسبة للصدر، الإصلاح يعني حركة تدريجية نحو وضع البلاد على المسار الصحيح وليس الإصلاح الجذري الذي ينتهجه المحتجون، والذي يرمي بالأساس إلى سقوط الطبقة والنظام السياسي بكاملهما".
اتبع كثير من أنصار الصدر تعليماته، فانسحبوا من الاحتجاجات. لكنَّ آخرين شككوا فيه، بعضهم كان يشكك لأول مرة. فقال شاب في ساحة التحرير، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، بسبب حساسية موقفه: "كان من الصعب بالنسبة لنا فهم السبب الذي قد يدفعه إلى عمل ذلك. لقد أعطانا الأمر بالمغادرة، لكن البعض منا سيبقى. هذه معركة من أجل العراق، وليست من أجل سياسيين".
يقول بعض المحتجين إنَّهم تلقوا تهديدات تحثهم على المغادرة، وقد رضخ البعض. لكنَّ آخرين فككوا الخيام التي عاشوا فيها أشهراً، ثُمَّ انصهروا وسط الحشود.
قال سجاد جياد، مدير مركز البيان البحثي في بغداد، إنَّ تغيُّر موقف الصدر سيجعل من الصعب بالنسبة له ادعاء أنَّه فوق الجدل السياسي العراقي. وأضاف: "هذا يعزز فكرة أنَّ هذه النخبة السياسية في وادٍ، والمحتج العادي في وادٍ آخر".
وفي ساحة التحرير الأسبوع الماضي، وصفت ريم تراجع رجل الدين عن موقفه بأنَّه بداية "تغيير كبير". وأضافت: "غادر كثير من المحتجين وهُم قلقون من تصاعد العنف وتزايد التحزُّب".
كانت خيمتها قبل ذلك تمثل مركزاً لبعض أشهر نشطاء المدينة. لكنَّ الغالبية غادرت إلى تركيا؛ بعد تهديدات من ميليشيات مدعومة إيرانياً وأشخاص مرتبطين بالصدر.
وقالت: "بإمكانهم التعامل مع التهديدات التي تستهدفهم هم، لكن ليس عائلاتهم. الأمر يتعلق بالاختطاف والقتل". لكنَّها أصرَّت على أنَّها ستبقى.
فقالت: "سأغادر من هنا إمَّا منتصرة وإما في كفن. لا توجد طريقة أخرى".