حين احتجّت حشود المتظاهرين على حسني مبارك في بداية الربيع العربي، في يناير/كانون الثاني من عام 2011، تعهَّد بعدم الهروب من مصر إلى الخارج مُهاناً. وقال متحدثاً عن بلده مصر آنذاك: "فيه عشت وسأموت على أرضه"، وتظهر جنازة مبارك أنه حقق هذا الهدف، والأهم أنه حتى لو مات مهمشاً فإنه قهر أبرز أعدائه.
فبالفعل مات مبارك -الذي حكم البلاد 30 عاماً- في مصر عن عمرٍ يناهز 91 عاماً، ودُفِن يوم أمس الأربعاء 26 فبراير/شباط، بمراسم تشريفية عسكرية كاملة، في جنازةٍ أقيمت في القاهرة بحضور أفراد أسرته وبعض حلفائه السابقين، وأحدث رجل قوي يدعمه الجيش؛ الرئيس عبدالفتاح السيسي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وجاء في العنوان الرئيسي لأولى صفحات جريدة الأهرام المصرية الحكومية: "مبارك في ذمة الله".
ما الذي كان يخشاه السيسي في جنازة مبارك؟
في مراسم قصيرة نُظِّمت إجراءاتها بإحكام خارج مسجدٍ تابع للجيش، قاد السيسي مسيرةً من المُشيِّعين وراء نعش مبارك، الذي توفي في مستشفى يوم أمس الأول الثلاثاء 25 فبراير/شباط، بسبب مضاعفات في الكليتين والقلب.
وكانت هذه لحظة يتوقعها السيسي، الذي كان يخشى أي تعاطفٍ شعبي متبق تجاه مبارك، منذ سنوات. لذا ركَّزت المراسم على إبراز مبارك كبطل حرب، بفضل دوره في حرب مصر مع إسرائيل في عام 1973، وقلَّلت من رقمه القياسي بصفته أطول الرؤساء بقاءً في رئاسة مصر.
وأطلق الجنود 21 طلقةً تحيةً لمبارك، بينما كانت الخيول تسحب عربةً تحمل نعشه المُغطَّى بعلم مصر. فيما كان أحد الجنود يسير خلفهم حاملاً أوسمة مبارك العسكرية مُرتَّبةً بعناية على لوحٍ خشبي.
وكان السيسي يسير مرتدياً نظارته الشمسية إلى جانب نجلي مبارك، علاء وجمال، اللذين كانا يتعرضان لانتقاداتٍ تصفهما بأنَّهما أحد أضلاع النخبة الفاسدة التي خيَّمت على سنوات مبارك الأخيرة في الحُكم. وهما يعيشان الآن حياةً هادئة في ضواحي القاهرة.
وصافح السيسي أرملة مبارك، سوزان مبارك، التي كانت تحظى بقوةٍ مهيمنة في الحياة العامة المصرية في أثناء سنوات حكم زوجها. وكانت سوزان تتلقى إشاداتٍ بفضل الحملات التي كانت تقودها لتعزيز الوعي بالتعليم وتنظيم الأسرة، لكنَّها كذلك كانت تتعرَّض لانتقاداتٍ تصفها بأنَّها زوجةٌ متأنِّقة لرئيسٍ قدَّم نفسه على أنَّه أشبه بفرعونٍ معاصر.
وقدَّم بعض أئمة الأزهر الشريف تعازيهم، مثلما فعل بعض الدبلوماسيين الغربيين والعرب. لكنَّ الشيء الملحوظ كان عدم وجود علامةٍ على حضور أي زعيم أو رئيس أجنبي في جنازة شخصٍ بشُهرة مبارك ومكانته.
جنازة مبارك أقيمت رغم إدانته
كانت إقامة الجنازة التشريفية العسكرية مثار خلاف. فبالرغم من تبرئة مبارك من مجموعة من التهم الجنائية بعد إطاحته في عام 2011، فقد أدين بتهمة فساد واحدة. وبعد هذه الإدانة التي صدرت في عام 2015، ذكرت وسائل الإعلام المصرية أنَّ العُرف يقتضي حرمانه من إقامة جنازة تشريفية عسكرية بسبب هذه الإدانة.
لكنَّ السلطات المصرية تجاهلت هذا العُرف، وبينما أذيعت الجنازة على شاشات التلفزيون الحكومي المصري، بدا أنَّ الحكومة أرادت الاكتفاء بالحديث عن حياته العسكرية، مع ذكر بضعة إشاراتٍ عابرة إلى سنواته التي قضاها في الحكم، والاكتفاء بالحديث عن بعض سياساته الخارجية في تلك السنوات.
ولم تشهد الجنازة سوى إشارةٍ واحدة إلى ثورة يناير 2011، فالمسجد الذي أقيمت فيه الجنازة يحمل اسم المشير المتقاعد حسين طنطاوي، الذي ترأَّس المجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد تنحي مبارك.
والحضور كان ممنوعاً على الجماهير
كان العديد من ضباط الأمن يصطفون على طول كيلومترات من الطريق السريع المؤدي إلى المسجد الضخم ويرتدون حُلَّاتٍ أو ستراتٍ جلدية، معيدين إلى الأذهان الجهاز الأمني القوي المعروف بوحشيته وحصانته في عهد مبارك. إذ قُتل 800 شخص على الأقل في الأسابيع الأولى من انتفاضة عام 2011، قبل أن يُجبَر مبارك على التنحي. لكنَّ موقع الجنازة يُبرِز رؤية السيسي لمصر في الغالب. إذ يؤدي هذا الطريق السريع إلى عاصمته الإدارية الجديدة، وهو مشروع مُفضَّلٌ لديه تبلغ تكلفته عشرات المليارات من الدولارات وما زال قيد الإنشاء في منطقةٍ صحراوية تقع شرق القاهرة.
وعلى طول الطريق، توجد لافتاتٌ إعلانية عملاقة تروِّج لمشروعات عقارية زاهية تهدف إلى جذب المصريين من الطبقة المتوسطة والعليا. وتروِّج إحدى الصور التي أنشئت بالحاسوب لـ "أكبر مسبح لا متناهٍ في العالم".
ولم يُسمح للمصريين العاديين بحضور الجنازة التي أقيمت يوم أمس على أطراف القاهرة، ممَّا أعجزهم عن التعبير عن احترامهم للرجل الذي سيطر على حياتهم فترةً طويلة.
ونُقِل نعش مبارك إلى مقبرةٍ بالقرب من منزله في حي مصر الجديدة، حيث دُفن في مقبرة خاصة.
المصريون اعتبروه رجلاً لا يقهر
جديرٌ بالذكر أنَّ مبارك كان رجلاً عريض المنكبين، نجا من عدة محاولاتٍ لاغتياله، لدرجة أنَّ المواطنين المصريين انتشرت بينهم خُرافةٌ بأنَّه رجل لا يُقهَر أبداً. وكانوا يتداولون نكتة شعبية تقول إنَّ عزرائيل حين قال لمبارك إنَّ الوقت قد حان ليودِّع المصريين، ردَّ عليه قائلاً: "إلى أين سيذهبون؟".
وبعد إطاحة مبارك، فوجئ العديد من المصريين بالصور التي كانت تُظهر وجهه عابساً وراء قضبان قاعة المحكمة، أو منقولاً على سريرٍ طبي متحرك لمحاكمته بشأن اتهامات بالفساد والقتل.
ولكن في عام 2017، بُرِّئ مبارك من أقسى التهم التي كانت موجَّهة إليه، وأعيد إحياء خُرافة حصانته ضد الهزيمة. وفي الخريف الماضي، أجرى مقابلات صحفية تباهى فيها بدوره في حروب مصر.
ولكن في 21 يناير/كانون الثاني الماضي، نُقِل إلى المستشفى بسبب انسدادٍ معوي وخضع لعمليةٍ جراحية. وتوفي يوم أمس الأول متأثراً بمضاعفات في القلب والكليتين، وفقاً لوثائق طبية استشهدت بها وكالة The Associated Press الأمريكية.
غير أنَّ خُرافة حصانته ضد الهزيمة لم تتحطَّم تماماً، فالحاكم المستبد عاش فترةً طويلة جداً ليرى ما تعرَّض له أولئك الذي ثاروا ضده من سجنٍ وقتلٍ وهجرة قسرية. لكنَّ جثمانه وُري بتراب مصر أخيراً.