عندما جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للحكم قدم نفسه على أنه سياسي ليبرالي يبتنى أيديولوجيا أخلاقية ترفض العنصرية، لاسيما ضد الإسلام، ولكن تدريجياً يتحرك ماكرون نحو سياسات أقرب لليمين وأحياناً لليمين المتطرف، آخرها إعلانه عن سياساته الجديدة تجاه الإسلام السياسي التي تسمى خطة ماكرون ضد "الانفصال" الإسلامي في فرنسا.
وأطلق الرئيس إيمانويل ماكرون حملة ضد الإسلام السياسي وما سمَّاه "الانفصالية" الإسلامية في بعض المدن الفرنسية، سعياً لاستعادة النظام في الضواحي العنيفة والفقيرة في بعض الأحيان، والحصول على الدعم من الناخبين اليمينيين قبل الانتخابات المحلية في مارس/آذار.
خطة ماكرون ضد "الانفصال" الإسلامي في فرنسا
في بعض تعليقاته الأكثر وضوحاً على الإسلام وفرنسا، قال ماكرون إنه "من غير المقبول" أن يعصى أي شخص قوانين الجمهورية الفرنسية باسم دين أو قوة أجنبية.
وقال: "يجب على الجمهورية أن تفي بوعودها، ويجب أن نحارب التمييز، ويجب أن نضع الجدارة في كل مكان". "لكن على الجانب الآخر، يجب أن نحارب الانفصالية، لأنه عندما لا تفي الجمهورية بوعودها، يحاول الآخرون استبدالها".
وأعلن ماكرون تدابير لتشديد الرقابة على التمويل الأجنبي للمساجد، لإنهاء ترشيح الجزائر والمغرب وتركيا لـ300 إمام سنوياً لفرنسا، والانسحاب من نظام يمنح إذناً للحكومات الأجنبية للتحكم في دورات اللغة لـ80 ألف تلميذ يتعلمون اللغة العربية، والتركية واللغات الأخرى من بلدانهم الأصلية – وهو نظام أطلق عليه "ناقل مهم للانفصالية" بالنظر إلى أن العديد من المعلمين لا يتحدثون الفرنسية أو يهتمون بالثقافة الفرنسية.
وقال إن الأئمة غالباً ما كانوا مرتبطين بالسلفية أو الإخوان المسلمين و "الوعظ ضد الجمهورية". وأضاف ماكرون: "سنقوم بتدريب الأئمة في فرنسا حتى يتعلموا لغة وقوانين الجمهورية".
وتحدث الرئيس الفرنسي مع سكان حي بورتزويلر في مولهاوس في شرق فرنسا في أول سلسلة من عمليات التنظيم المخطط في إطار خطة ماكرون ضد "الانفصال" الإسلامي في فرنسا.
هدفه الأول.. مغازلة اليمين المتطرف
وليست زيارة مولهاوس هي المرة الأولى التي يشدد فيها ماكرون وهو ليبرالي اقتصادي واجتماعي تولى السلطة عام 2017 كسياسي جديد، قدم أنه نفسه على أنه لا ينتمي "لا لليسار أو اليمين"، ولكن هذا لم يمنعه من محاولة استقطاب التصويت المحافظ.
وظهر ذلك واضحاً، في سبتمبر/أيلول الماضي، عندما تبنى سياسات هجرة الأكثر صرامة وقال إن الوقت قد حان لكي نكون "حازمين للغاية" في تطبيق قواعد اللجوء بالنظر إلى الزيادة الكبيرة في الطلبات المقدمة من الأجانب للاستفادة من سمعة فرنسا الطويلة الأمد باعتبارها "أرض اللجوء".
من أهم سياسات مارين لوبان وحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، الذي نال أكبر عدد من الأصوات في فرنسا في الانتخابات الأوروبية في شهر مايو/أيار الماضي، التحكم في الهجرة، وكبح جماح الإسلاميين، ومعالجة الجريمة.
ويمثل هذا التيار التهديد السياسي الرئيسي لماكرون.
استهداف للتطرف أم الإسلام؟
وبصرف النظر عن محاولة تأكيد ماكرون أن خطته لا تستهدف المسلمين، فإن تصرفاته تشير إلى عكس ذلك، إذ كان لافتاً عدم زيارته مسجداً كبيراً جديداً في مولهاوس، وهي مدينة بها عدد كبير من المهاجرين وكثير من أنصار اليمين المتطرف من البيض.
وبينما يحاول الرئيس الفرنسي ومؤيدوه الحديث عن أن هذا التحرك يأتي على خلفية القلق المتزايد في فرنسا بشأن تأثير المتطرفين الإسلاميين على المجتمعات المضطربة، حيث تنتشر الجريمة، وحيث ينتمي العديد من السكان إلى شمال إفريقيا، خاصة في ظل أن الهجمات الإرهابية المتعددة في السنوات الأخيرة زادت من تلك المخاوف.
ولكن من الواضح أن هناك أموراً في هذه الخطة تظهر أنه لا علاقة للخطة بالإرهاب أو الجريمة المنظمة.
الخطة تُخلي الساحة للسلفية من منافسيها الأساسيين
خطة ماكرون ضد "الانفصال" الإسلامي في فرنسا تستهدف بالأساس وقف إيفاد الأئمة من المغرب والجزائر وتركيا، والدول الثلاث ليست سلفية المذهب بل لهما باع طويلة في العداء للسلفية، فالمغرب تعتبر نفسها معقلاً للمذهب المالكي وتتعاون معها العديد من الدول الأوروبية في هذا الشأن باعتبار أن المذهب المالكي أكثر اعتدالاً وبديلأ للسلفية، والجزائر كذلك مالكية، والأهم أن الجزائر هي أكثر دولة عانت من الإرهاب في العالم.
أما تركيا فهي معقل المذهب الحنفي (الذي يعد نقيضاًً للسلفية من حيث الاعتماد على الاجتهاد مقابل تركيز السلفية على النقل)، والإسلام السائد في البلاد هو خلطة من المذهب الحنفي والطرق الصوفية والإسلام السياسي المعتدل، واختراق الجماعات الإرهابية والسلفية الجهادية للأتراك أدنى من أي شعب آخر، وذلك بشكل أساسي بفضل هذه الخصوصية القومية الدينية ودور التيار الإسلامي التركي المعتدل الذي يمنع اختراق السلفية الجهادية للأقليات التركية في أوروبا.
تريد أن تقضي على الصلات اللغوية للمهاجرين ببلادهم.. عودة للإمبريالية الثقافية
الأمر الثاني أن خطة ماكرون ضد "الانفصال" الإسلامي في فرنسا تركز على وقف تعليم اللغات الأجنبية تحديداً العربية والتركية إلى 80 ألف طالب، بدعوى أن ذلك يؤثر على اندماجهم داخل فرنسا.
وبالتالي فإن الخطة من الواضح لا تهدف إلى محاربة الإرهاب بالأساس، ولكنها تمثل عودة للسياسات الفرنسية التقليدية بمحاولة قطع أي علاقة ثقافية أو دينية للأقليات المسلمة في فرنسا ببلادها الأصلية، فيما يمكن تسميته بالإمبريالية الثقافية.
واللافت أن هذا الرفض الحاد لفكرة احتفاظ مسلمي فرنسا بصلات لغوية أو ثقافية مع أوطانهم الأصلية، يأتي في ظل اختراق فرنسي واسع النطاق للعالم العربي عبر تيار فرانكفوني عارم يحكم العديد من البلدان من المحيط للخليج وآلاف المدارس الفرنسية في بلاد العرب، ونخب تجاهر بولائها للثقافة الفرنسية وأقليات مثل الأقلية المارونية في لبنان يباهي بعض رموزها بأن فرنسا هم أمها الحنون.
والأغرب أن فرنسا العلمانية التي تحاول تقليل نفوذ المؤسسات الدينية الإسلامية في الداخل الفرنسي، تعتبر أن حليفها الأهم في العالم العربي هو الكنيسة الكاثوليكية، ولاسيما كنيسة مثل الكنيسة المارونية الكاثوليكية.
تريد باريس بتر العلاقة بين تركيا والمغرب والجزائر وغيرهم بمهاجريها في فرنسا، بينما تتدخل هي في شؤون العالم العربي ويرتبطُ العديدُ من الناشطين في قضيَّة مسيحيي الشرق على نحوٍ وثيقٍ بالدوائر السياسيّة الفرنسية ويمارسون، على غرارِ اللوبي، عملاً دؤوباً من أجل فرضِ المسألةِ على الأجندةِ السياسيّة الوطنيّة الفرنسية.
الإجابة الليبرالية لمشكلة الإسلام في أوروبا
فعلى غرار ألمانيا الميركلية تريد فرنسا الماكرونية أن ينسى مسلموها من أين جاؤوا (تمثل أزمة اللاعب الألماني التركي الأصول مسعود أوزيل نموذجاً لذلك).
اللافت أنه عندما حتى ينسى أبناء المهاجرين من أين جاؤوا، فإن المجتمع الأوروبي لا ينسى.
ولذا كان ما أبلغ ما قيل في ذلك، ما نطق به أوزيل: "أنا ألماني في النصر تركي في الهزيمة".
وفي نفس الوقت الذي تعمل فيه فرنسا تحديداً على تعزيز الروابط بينها وبين الأقليات الكاثوليكية والنخب الفرانكفونية في العالم العربي.
فعلى الجزائري العربي المسلم الذي يحمل الجنسية الفرنسية أن ينسى كل ذلك ويكتفي بهويته الفرنسية، بينما من حق الجزائري الفرانكفوني الذي يعيش في الجزائر أو الماروني الذي يعيش في جبل لبنان، الذي جاء أجداده من الجزيرة العربية وفقاً لدراسة كمال صليبا أشهر مؤرخي لبنان أن يباهي بثقافته الفرنسية وأن يدعي نسباً فرنسياً وهمياً للأسرة الملكية الكارولنجية، وأن يتوقع دعماً فرنسياً له يتضمن التدخل الصارخ في الشؤون الداخلية لبلده.
يبدو كل ذلك بمثابة الإجابة الليبرالية الجديدة على مشكلة الإسلام في أوروبا، فبينما يعادي اليمين المسلمين فإن الليبراليين واليساريين يريدون تشكيل إسلام أوروبي على هواهم.
يريد اليمين أوروبا بلا مسلمين، أما بعض الليبراليين الأوروبيين فيريدون مسلمين في أوروبا بلا إسلام أو على الأقل إسلام يحدد قواعده الرئيس إيمانويل ماكرون وغيره من القادة الأوروبيين.
وفي هذا الإطار، قال مصدر عربي مقيم في ألمانيا لـ "عربي بوست" إن الحزب الاشتراكي في ألمانيا يسعى لجذب اليساريين المهاجرين العرب للانضمام إليه كما أنهم يعاملون معاملة خاصة.
ولكن ما يتجاهله ماكرون أن هذه السياسات ستعزز التطرف والإرهاب، فمحاربة الإسلام الحركي المعتدل مهما كان عيوبه، وحتى لو كانت له توجهات قومية أو وطنية وأهداف سياسية لن يعني انتشار الإسلام الفرنسي أو الأوروبي المزعوم.
بل على العكس، فإن الشعور بالاغتراب وفقدان الهوية الذي سيخلقه هذا الإسلام الفرانكفوني لن يؤدي إلا لانجراف الشباب إلى التطرف في ظل غياب نموذج الإسلام الحركي الأقرب لهم.
هل الخطة تأتي تنفيذاً لأجندة إماراتية؟ تحالفات نبيّ الليبرالية المريبة مع السلفية المدخلية
كما أن ما يتم تجاهله في خطة ماكرون أن حربه على ما يسميه الانفصال الإسلامي، وتحديداً الإسلام السياسي التركي والإخواني، هي امتداد للتحالف المريب للرجل مع الإمارات، التي تحاول بدورها خلق إسلامها الخاص عبر التحالف مع مجموعات منتقاة من الصوفيين، مثلما حدث في مؤتمر غروزني الذي أعلن استبعاد الإخوان والسلفيين من المذهب السني.
كما تظهر تناقضات الرجل أيضاً في تحالفاته مع المملكة العربية السعودية، معقل ومهد الإسلام السلفي الذي خرج منه معظم المكون الإرهابي .
والحقيقة أنه لأمر غريب من رجل يقدم نفسه باعتباره نبي الليبرالية المنتظر أن يتحالف مع أنظمة استبدادية ساهمت بطغيانها في نشأة التطرف.
وتقدم ليبيا مثالاً لافتاً على تناقضات ماكرون.
إذ يتحالف الرئيس الفرنسي مع الجنرال خليفة حفتر، الذي يفاخر بأنه قاد انقلاباً ضد المؤتمر الوطني المنتخب، حتى قبل تشكيل مجلس النواب، بينما يناصب ماكرون حكومة شرعية العداء رغم أن القوات المحسوبة على هذه الحكومة هي التي قضت على داعش في سرت عبر عملية البنيان المرصوص.
تثبت الحالة الليبية تناقضات ليبرالية ماكرون التي تتحالف مع قوى توصف بأنها ظلامية من المنطلق الليبرالي.
فتحالف حفتر الذي يؤيده ماكرون يضم سلفية مدخلية، وهي سلفية تتميز على باقي السلفيات بعدائها المبالغ لأي ديمقراطية أو معارضة أو اعتراض حتى على الحاكم، وميل غريزي فقط للحكام الطغاة استناداً لفكرة إمامة الغلبة.
كما أن قوات حفتر ليست بعيدة عن فلول داعش في ليبيا، والتي يعتقد أن جزءاً منها ينتمي لفلول القذافي أو كما يسمون في ليبيا بالأزلام.
لماذا قد تؤدي خطة ماكرون إلى زيادة التطرف؟
حرب ماكرون على الإسلام الحركي المعتدل أو الإسلام الرسمي في المغرب والجزائر سيترك مسلمي فرنسا أمام ثلاثة نماذج بديلة.
- إسلام الإمارات -حليفته- الذي لم يتبلور بعد، وهو إسلام ينفر منه أي كاره للاستبداد.
- إسلام أوروبي يضع قواعده ماكرون وقادة الجمهورية الفرنسية، وهو إسلام لن يقبل به أي مسلم طبيعي.
- إسلام متطرف أُخليت الساحة من منافسيه الطبيعيين، وهما الإسلام الحركي المعتدل، والإسلام الرسمي المشوب بالوطنية.
فالحقيقة التي يتجاهلها خصوم الإسلام الحركي، أنه في كل مكان يعلو فيه الإسلام الحركي المعتدل على عيوبه، والإسلام المؤسسي مثل الأزهر، يتراجع فيه الإسلام السلفي والجهادي والعكس.
في مصر معقل الحركة الإسلامية بأنواعها، كان الإخوان المسلمون لهم نفوذ قوي في الدلتا، ولكن كانوا ضعفاء في الصعيد، فظهرت الحركات الإسلامية المتطرفة المسلحة في الصعيد دون وجود لها تقريباً في شمال مصر.
في المغرب وتونس، حيث توجد أحزاب إسلامية معتدلة، انحسر التطرف الديني للأطراف من دون تأثير، وتحول وجوده إلى قضية أمنية.
وتركيا الدولة الإسلامية السنية الوحيدة التي يحكمها حزب إسلامي، لا يكاد يوجد فيها تطرف ديني.
غزة، بفقرها وحصارها يفترض أنها بيئة مثالية للتطرف، وكادت تكون كذلك، ولكن من منع التطرف من التفشي فيها كان صرامة حماس في التعامل معه، ولأن الحركة المقاومة توفر في الوقت ذاته متنفساً عقلانياً للمشاعر الدينية والوطنية لأهل القطاع المنكوب.
ولكن المناكفة الليبرالية مع الإسلام الحركي التي كانت سبباً في إسقاط الربيع العربي، تأبى إلا أن تكرر أخطاءها في أوروبا، متناسية أن الطرفين يجمعهما أكثر مما يفرقهما، فكلاهما يريد الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكلاهما لديه مشكلة مع الاستبداد.
والآن ها هي الأنظمة المستبدة تزداد قوتها وتتحالف رغم ما بينها من خلافات، مثلما يحدث بين الصين وروسيا والسعودية ومصر وسوريا الأسد، بينما يفتح ماكرون معركة وهمية مع من يفترض أنهم حلفاؤه الطبيعيون.
ولكن السؤال الكبير الذي تثيره سياسات ماكرون الميالة بشكل لافت للتحالف مع الاستبداد في الشرق الأوسط: هل هو نبي حقيقي لليبرالية أم أنه يمثل نموذجاً جديداً للبراغماتية المستعدة للتحالف مع الشيطان؟