من داخل “سجون” الحجر الصحي.. كيف يعيش المصابون بكورونا عزلتهم الإجبارية، وهل تنقذهم هواتفهم من الوحدة؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/02/20 الساعة 10:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/03/22 الساعة 15:19 بتوقيت غرينتش
"الحجر الصحي أشبه بالحبس الانفرادي في غياب التواصل، إنه عقاب قاس وغير مُعتاد"

التقطت ياردلي وونغ، المُصابة بفيروس كورونا والمُحتجزة على متن سفينة الرحلات اليابانية، صورةً واحدة تُعبّر عن جوهر الحياة في ظل الحجر الصحي. إذ التقطت ياردلي من داخل مقصورتها الصغيرة صورةً للمدخل المُغلق، قبل أن تنشرها على تويتر الأسبوع الماضي. وكتبت على الصورة: "تدور الكثير من التساؤلات خلف هذا الباب".

بماذا يشعر المعزولون صحياً؟

تقول صحيفة New York Times الأمريكية، إنه بدءاً من الطاعون الأسود ووباء الإنفلونزا عام 1918، ووصولاً إلى حالات تفشّي الأمراض الأحدث؛ يكشف تاريخ الحجر الصحي والعزل الطبي عن مشاعر مُشتركة بين القابعين على جانبي الباب -الشك والخوف والوحدة والفصل. ولكن الحاجز المادي هذه المرة بدأ ينكسر بفضل الهواتف الذكية.

وكتبت ياردلي بعد عدة أيام من حصول صورتها على رسائل تضامن من حول العالم: "بعد عددٍ من حالات الانهيار العصبي، وجدت بعض السلام النفسي بفضلكم. شكراً على طيبتكم. لقد منحتني تغريداتكم القوة".

الهواتف الذكية غيرت من شكل الحجر الصحي

في حين خفّفت الصحف والإذاعات والقنوات التلفزيونية من محنة حالات الحجر السابقة، لكن الحجر الصحي لفيروس كورونا في عام 2020 يختلف تماماً عن أيّ حجرٍ صحي آخر في التاريخ البشري بفضل الاتصال الرقمي العالمي.

إذ ساعدت الحواسيب المحمولة والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية الناس في تأدية عملهم عن بُعدـ وطلب الطعام، والتسوّق على Amazon، والدردشة وجهاً لوجه مع الأقارب والأصدقاء، ومُتابعة الشبكات الاجتماعية، وتحميل الأفلام والموسيقى -أي سمحت لهم باختصار أن يبقوا على تواصل مع العالم ويُنجِزوا غالبية أنشطتهم اليومية.

"الهواتف الذكية تخفيف وطأة العزلة لأنّها تُستخدم في إجراء اتصالات اجتماعية مرغوبة"/ Getty

أما كاري مانيسكالكو، الوكيلة العقارية الأمريكية التي احتُجِزَت مع زوجها روجر على متن السفينة نفسها، فقد وجدت ما تشغل به نفسها وسط هذه العزلة. إذ قالت في مقابلةٍ الأسبوع الماضي، قبل أن تُجلِيَ الحكومة الأمريكية غالبية الركاب الأمريكيين من السفينة وتُرسلهم جواً إلى الولايات المُتحدة لاستئناف حجرهم الصحي: "قضينا الأيام الماضية في مُتابعة أعمالنا عبر الإنترنت، وقضاء الكثير من الوقت على فيسبوك. صناديق البريد الإلكتروني تمتلئ بالرسائل الجديدة دائماً. فضلاً عن أنّ مُتابعة الشبكات الاجتماعية تستهلك الكثير من الوقت". 

وبدأت مانيسكالكو تنشر مقاطع فيديو عبر TikTok لتتناسى المشاعر "الغامرة". وأضافت: "كُنت أستيقظ لأجد أنّني في نفس المكان، وأبدأ في البكاء. لكن استخدام الشبكات الاجتماعية أبقاني مُنشغلة، وأنقذني من الجلوس والتفكير على ما أعتقد".

"كنت سأصاب بالجنون"

في الصين، استطاعت إيزابيل دام (22 عاماً) رؤية قططها وكلابها داخل منزلها في ولاية مينيسوتا عن طريق الدردشة مع والدها بوب دام باستخدام تطبيق WeChat. وإيزابيل موجودةٌ الآن في مقاطعة جيجيانغ حيث تُدرّس الإنجليزية منذ نوفمبر/تشرين الثاني، لكنّها تُقيم داخل حدود منزلها فقط رهينة الحجر الصحي الجزئي حالياً.

وقالت إيزابيل، في رسالةٍ عبر البريد الإلكتروني: "أعتقد أنّني كُنت سأُصاب بالجنون قبل أسابيع في حال حدث ذلك في العصور الوسطى".

ويُسمح لها بالخروج من منزلها مرةً كل يومين، لذا تُدرّس صفّها عبر الإنترنت باستخدام حاسوبٍ في شقتها الصغيرة، وقالت: "لدي برنامج شبكة خاصة افتراضية (VPN)، لذا أستطيع الوصول إلى كافة الخدمات المُتاحة في الولايات المتحدة مثل Netflix وHulu ويوتيوب، وهي الخدمات المحظورةً عادةً في الصين". كما تستطيع طلب توصيل الطعام، لكن لا يُسمح لرجال التوصيل بالصعود إلى شقتها.

وقال والدها: "لقد تعلّمت كيف تقول (سألتقيك عند البوابة) باللغة الصينية".

WeChat يعرض خريطة لجميع حالات فيروس كورونا في المنطقة المجاورة العامة/ كريستا لانج بلاكوود

والأهم من ذلك هو أنّ الخاضعين للحجر الصحي يتمتّعون بوصولٍ غير مسبوق إلى المعلومات حول الفيروس نفسه. ففي مدينة شينزين بمقاطعة غواندونغ، التي تتمتّع بأعلى مُعدلات العدوى خارج ووهان، تُتابع كريستا لانغ بلاكوود -المدرسة من مدينة كانساس- تحديثات الفيروس من منظمة الصحة العالمية ومراكز مكافحة الأمراض واتقائها. وأحياناً تنظر مع عائلتها من شباكهم في الطابق الخامس، وتتساءل حول ما إذا كانت الشوارع الخالية تعني أنّ العدوى تنتشر أكثر. ثم تفتح هاتفها لتعرف أكثر.

تغيير طبيعة العزلة

أشارت كريستا في رسالةٍ بالبريد الإلكتروني إلى أنّ الناس كانوا سيقلقون في السابق حيال مكان أقرب حالةٍ مُصابة بالمرض. لكنها أضافت: "لا حاجة للقلق في القرن الـ21! هناك تطبيقٌ سيُخبرك بذلك. لدرجة أنّك تستطيع النظر إلى حيّك لترى موقع كل حالةٍ معروفة على الخريطة. لا نعلم من يُدير هذا التطبيق، لأنّه باللغة الصينية. ولكن التطبيق لا يحوي أيّ علامات تعجّب حمراء على المجمّع السكني في شارعنا. وهذا مزيجٌ غريب يجمع وفرةً المعلومات مع العزلة".

ويبدو أنّ هذا الاتصال واسع النطاق يُغيّر طبيعة العزلة بحسب الخبراء في مجالين منفصلين -الذين يدرسون علم اجتماع استخدام التكنولوجيا والذين يدرسون الحجر الصحي. وخلال وباء الإنفلونزا في عام 1918، تبنّت بعض أجزاء الولايات المتحدة استراتيجيةً تُدعى "التباعد الاجتماعي"، والتي كانت تستهدف الحد من التواصل بين الأفراد بوضوح. لكن ثلث المنازل فقط كانت تمتلك هواتف للتواصل، وكان الناس يخشون لمس الصُحف مخافة نشر الجراثيم.

وأظهرت الأبحاث، التي يعود تاريخها إلى عقودٍ مضت، حالات بعينها ساعدت فيها وسائل الإعلام الجديدة على الحد من العزلة. وأظهرت مقالات الصحف في الأيام الأولى لإذاعات الراديو كيف ساعدت تلك الإذاعات في رفع معنويات الناس المعزولين داخل المستشفيات. ووجدت تجربةٌ أُجرِيَت أواخر الخمسينيات في أوماها أنّ بث التلفزيون بالدوائر المغلقة حسّن مزاج المرضى في مستشفى للأمراض العقلية، حين استطاعوا أن يُشاهدوا ويتواصلوا مع أقاربهم.

في عام 1832، حين ضرب وباء الكوليرا أمريكا الشمالية، نقلت الصحف أنباء العدوى أثناء انتشارها. وقال جيريمي غرين، مُدير قسم تاريخ الطب في كلية طب جونز هوبكنز: "هناك تاريخٌ طويل لتأثير وسائل الإعلام الجديد على مثل هذه اللحظات بمرور الوقت". ويبدو أنّ وسائل الإعلام الحالية تجمع أفضل ما في وسائل الإعلام السابقة -كتابة الرسائل ومقاطع الفيديو والإذاعة والتلفزيون، فورياً وفي كل مكان. وفي إشارةٍ إلى وباء الإنفلونزا عام 2009، قال: "حين ضرب وباء إنفلونزا الخنازير، لم نشهد هذا البروز في دور الشبكات الاجتماعية".

البحث عن الحقيقة

وحذّر جيريمي نوبل، المدرس المُساعد بقسم الصحة العالمية والطب الاجتماعي بكلية طب هارفارد، من أنّ انتشار القدرة الواسعة على التواصل تُصاحبه قدرةٌ كبيرة مُكافئة على التلاعب بالمعلومات وتشويهها وفرض رقابةٍ عليها. ونتيجةً لذلك، قال إنّ الخاضعين للحجر الصحي ستُهاجمهم الأفكار حول ما إذا كانت الحكومات تروي الحقيقة، مما سيخلق توتّراً بين راحة الاتصالات الشخصية والقلق حيال الاتصالات الرسمية. إذ قال: "في عصر الأخبار الكاذبة، قد يتساءل الناس: ما هي الحقيقة؟ وما هو الصدق؟".

كتب الطبيب الصيني، الذي أعلن وجود الفيروس أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، رسالته الأولية إلى مجموعة دردشة وهو
كتب الطبيب الصيني، الذي أعلن وجود الفيروس أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، رسالته الأولية إلى مجموعة دردشة وهو "مُحتجزٌ داخل حجرٍ صحي في غرفة طوارئ"

وكتب الطبيب الصيني، الذي أعلن وجود الفيروس أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، رسالته الأولية إلى مجموعة دردشة وهو "مُحتجزٌ داخل حجرٍ صحي في غرفة طوارئ". ومات الطيب لي وين ليانغ لاحقاً بسبب العدوى.

وكانت شيرلي لين، رائدة الأعمال في مجال الإعلانات بوادي السيليكون، تتواصل بانتظام مع أصدقائها وزملائها في الصين ممن تُقيم عائلاتهم في ووهان مركز تفشي الفيروس عبر مجموعة دردشة على تطبيق WeChat. وقالت شيرلي إنّه عند نشر مقطع فيديو يتضمّن انتقاداً للحكومة الصينية، كان التطبيق يمحوه عادةً قبل أن يتمكن جميع أعضاء المجموعة من مشاهدته.

رقابة مثيرة للقلق

وباتت الرقابة مُثيرةً للقلق بشدة لدرجة أنّ المجموعة تخلّت مؤخراً عن استخدام WeChat المملوك لشركةٍ صينية، وبدأت تستخدم تطبيقات هاتف محمول مُشفّرة مثل Telegram وWhatsApp. وقالت إنّها تُفضّل عدم ذكر اسم التطبيق لإبقاء المجموعة بعيداً عن أعين الحكومة.

وتدعم بعض الأبحاث -التي تتزايد أعدادها حالياً- فكرة أنّ التواصل الاجتماعي يُمكن أن يُحفّز مراكز المكافأة في الدماغ، مما يُخمد الاستجابة للتوتّر ويُحسّن المرونة والصحة الجسمانية. إذ قال ديفيد كريسويل، الأستاذ المساعد في علم النفس بجامعة كارنيغي ميلون والمشارك في هذا البحث، إنّه من المنطقي أن تستطيع الهواتف الذكية تخفيف وطأة العزلة لأنّها تُستخدم في إجراء اتصالات اجتماعية مرغوبة.

وقال جيمس كاتز، أستاذ الإعلام الناشئ بجامعة بوسطن: "يصير الحجر الصحي أشبه بالحبس الإنفرادي في غياب التواصل، وهو ما يُمكن اعتباره عقاباً قاسياً وغير مُعتاد. إذ إنّ الحرمان من التواصل الاجتماعي هو شكلٌ من أشكال الموت، ولكنّها ليس موتاً نهائياً. وتسمح إمكانية التواصل للناس بتحويل التكيّف العقلي إلى واقع".

تحميل المزيد