استهزأ الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، طوال عقود، بمذكرات التوقيف الصادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية لدوره المزعوم في الإبادة الجماعية بإقليم دارفور، في قضية أصبحت رمزاً لعجز المحكمة. بل وعبَّر عن استهانته بالأمر من خلال تفكيره في حضور الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، على الرغم من مذكرات التوقيف.
لذا، كان الإعلان المفاجئ عن إمكانية تعاون السودان مع مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية وتسليم البشير مثالاً مذهلاً على مدى السرعة التي قد تتغير بها حظوظ تحقُّق العدالة، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية.
هل ستُجرى المحاكمة في الخرطوم أم لاهاي؟
يقول عمر با، أستاذ العلاقات الدولية بكلية مورهاوس الأمريكية: "جرت الأمور بسرعة للغاية على مدار الأشهر القليلة الماضية، لدرجة أنَّ البشير قد ينتهي به المطاف في لاهاي (مقر المحكمة). وهذا يُظهِر كيف يرتبط نظام العدالة الجنائية الدولي بالسياسة المحلية والعالمية".
كان إعلان 11 فبراير/شباط من جانب محمد حسن التعايشي، أحد أعضاء مجلس السيادة الحاكم في السودان، جزءاً من مفاوضات سلام أوسع نطاقاً مع المجموعات السودانية المتمردة في دارفور. كانت جوانب البيان غامضة، فتحدَّث عن كيف أنَّ الخرطوم ستسمح بمثول أولئك المدانين من جانب الجنائية الدولية أمام المحكمة.
ولم يتضح على الفور ما الذي قد يبدو عليه هذا "المثول"، لكنَّ الخبراء تكهَّنوا بأنَّه قد يعني إجراء محاكمة في الخرطوم وليس في لاهاي، وهو ما قد يُمثِّل سابقة في تاريخ المحكمة.
كان الارتباك هو سمة رد الفعل الأولي من جانب المراقبين في الخرطوم. فقالت هالة القريب، المديرة الإقليمية للمبادرة الاستراتيجية للنساء في القرن الإفريقي: "الأمر يُمثِّل مفاجأة. لم نسمع الأمر رسمياً من رئيس الوزراء أو من مجلس السيادة، لذا لسنا متأكدين تماماً".
هل سيلتزم مجلس السيادة بتسليم البشير؟
لكنَّ كينيث روث، مدير منظمة هيومن رايتس ووتش، صرَّح لمجلة Foreign Policy الأمريكية بأنَّه عقد مقابلة "إيجابية للغاية" يوم الأربعاء 12 فبراير/شباط مع قائد الجيش السوداني، عبدالفتاح البرهان، الذي ذهب أبعد من بيان التعايشي. فوفقاً لروث، قال البرهان إنَّ حكومة الخرطوم "ستُركِّز ليس فقط على دارفور، لكن أيضاً على الجرائم التي ارتُكِبَت في عموم السودان".
وأضاف روث للمجلة، في مقابلة من الخرطوم: "ما كنا لنأمل في عقد مقابلة أفضل من هذه، لكن هذه مجرد بيانات وليست أفعالاً. علينا أن نرى كيف سيلتزم بتلك البيانات".
ولم يرد متحدثٌ عسكري على الفور على طلبٍ من أجل التعليق على المسألة. وبدأ القتال بين المجموعات المتمردة التي تنتمي للإثنية الإفريقية والقبائل العربية المدعومة من الحكومة عام 2002 تقريباً في إقليم دارفور بالسودان. وتقول الأمم المتحدة إنَّ ما يصل إلى 300 ألف شخص لقوا مصرعهم في الصراع.
التحولات الكبيرة في السودان تقود البشير إلى هذا المصير
وبدءاً من عام 2009، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق البشير تضمَّنت اتهامات بارتكابه جرائم ضد الإنسانية، والقتل، والإبادة، وجرائم حرب، وغيرها من الأعمال البشعة. وأفادت تقارير بأنَّ البشير نفى تلك الادعاءات. ولم تتمكن القضية من المُضي قدماً، لأنَّ المحكمة الجنائية الدولية لا تحاكم الأفراد غيابياً.
على الرغم من المسيرات التي نُظِّمَت عند مركز التسوق الوطني في العاصمة الأمريكية واشنطن، وحملة "أنقذوا دارفور"، كانت مجموعة من الأطباء والمحامين والصيادلة داخل السودان هي مَن أسقطت البشير في نهاية المطاف.
إذ أنهت الاحتجاجات الشعبية –التي نظمتها شبكة من الاتحادات المهنية- وانقلابٌ عسكري حُكمَ البشير الذي امتد 30 عاماً، في أبريل/نيسان 2019، وكانت حكومة البلاد الجديدة حريصة على إصلاح وضعيتها الدولية المهترئة. فقال رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، لمجلة Foreign Policy الأمريكية، في أغسطس/آب 2019، بعد أيام فقط من تنصيبه: "تحدثتُ بالفعل إلى عدد من الأصدقاء والزملاء، خصوصاً في مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في جنيف". وتحدث حمدوك عن نموذج العدالة والمصالحة في جنوب إفريقيا باعتباره نموذجاً يريد أن يتبعه في السودان.
وقال روث للمجلة: "لا أحد ساذج هنا، لكن هناك تحول ملحوظ في هذا البلد بسبب التعبئة الشعبية".
هل هناك أدلة أساسية قوية لدى المدعي العام ضد البشير؟
يقول روث إنَّه التقى كذلك مع حمدوك، رئيس السلطة المدنية في السودان، الذي قال إنَّ المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن تقيم مكتباً في الخرطوم لمتابعة تحقيقها. وقد يكون هذا الدعم الإضافي حاسماً لمصير البشير.
وقال خبراء إنَّ مذكرة التوقيف الصادرة عام 2009 عن مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية آنذاك، لويس مورينو أوكامبو، بحق البشير، عُرقِلَت بسبب عجز المحكمة عن السفر إلى دارفور والحصول على أدلة أساسية.
قال عمر با، الأستاذ بكلية مورهاوس ومؤلف كتاب قادم عن المحكمة الجنائية الدولية: "اعتمد مكتب المدعي العام في المعظم على تقارير المنظمات الدولية غير الحكومية من المنظمات التي طردها البشير بعد ذلك. واعتمد المدعي العام كذلك على شهادات اللاجئين وصور الأقمار الصناعية. وليس واضحاً بعد ما إذا كان لدى المدعي العام أدلة قوية تدين البشير في الجرئم المحددة المُتَّهم بها".
في عام 2014، قالت المدعية العامة الجديدة للجنائية الدولية، فاتو بنسودا، إنَّها اضطرت لإدخال تحقيق المحكمة بشأن الجرائم المرتكبة في دارفور في حالة "سُبات" من أجل التركيز على "قضايا أخرى عاجلة". ويُعتَقَد منذ ذلك الحين أنَّ تحقيق المحكمة في أعمال البشير متوقف.
يمثل استعداد الخرطوم التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية فرصة جديدة للمحكمة الدولية، التي عُرقِلَت بفعل العديد من مذكرات التوقيف التي استُهزِئ بها، والمحاكمات الفاشلة، ونقص التمويل، والمعارضة التي تلقاها من قوى عالمية رائدة، بما في ذلك الولايات المتحدة (ولو أنَّ واشنطن اتهمت حكومة البشير بارتكاب إبادة جماعية في 2004).
تقول آليس موغوي، رئيسة الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، وهي مجموعة رقابية: "يجب على المحكمة أن تتعامل مع هذا الأمر بطريقة صحيحة: فلا بد أن تعيد التواصل مع الضحايا والمناطق المتضررة والإعلان عن عملها بفاعلية حتى تكون العدالة مرئية للأشخاص المتضررين من الجرائم".