في محاولة أخيرة قبل الموعد النهائي الذي حددوه بأنفسهم للاستعانة بوسيط رسمي، التقى وزراء مصر وإثيوبيا والسودان في واشنطن، الشهر الماضي، للتوصل إلى توافق في الآراء بشأن فترة ملء سد النهضة الإثيوبي أو "تخزين المياه". وطالبت مصر بملء الخزان على مدار سبع سنوات على الأقل، في حين لا تقبل إثيوبيا، المتحمسة لجني فوائد السد الذي طال انتظاره، بأكثر من خمس سنوات.
قد يبدو أن فَرْق العامَين غير مهم، لكن بالنسبة لإثيوبيا، فهذا يعني عامَين آخرين قبل أن تصل الكهرباء إلى المدارس التمهيدية والمستشفيات والمجمعات الصناعية. وبالنسبة لمصر، سيحولُ عامان إضافيان دون تضرُّر مساحة كبيرة من دلتا نهر النيل بشكل دائم، وفقدان ما يقدَّر بنحو مليون مزارع، وهي واحدة من أضعف الفئات في الدولة، لمصدر رزقهم، وما يترتب على ذلك من خسارة الاقتصاد الوطني لـ 1.8 مليار دولار.
لكن رغم كل هذه الاجتماعات، لا يزال كل طرف متمسكاً برأيه، لكن دون الكشف عن تفاصيل نقاط الخلاف والاتفاق بين القاهرة وأديس أبابا.
وبحسب تقرير لمجلة National Interest الأمريكية، فإن مصر وإثيوبيا قطعتا شوطاً كبيراً في المحادثات، وحددتا ما عليه الاختلاف حول السد حتى لا يتضرر أي من البلدين، لكن يظل حسم هذه النقطة رهن التفاوض السياسي.
ولم تكن آمال الدول الثلاث المحاذية لنهر النيل للتوصل إلى اتفاق كبير حيث خرجت إثيوبيا ومصر من اجتماعات انعقدت في الفترة من 8 إلى 9 يناير/كانون الثاني، وهما تكيلان الاتهامات لبعضهما. إلا أن وزير الخزانة الأمريكي أصدر بياناً ظهيرة يوم الأربعاء 15 يناير/كانون الثاني يفيد بحدوث انفراجة فيما يتعلق بفترة ملء السد والتشغيل طويل الأجل لسد النهضة.
نقاط الخلاف بين البلدين
إذ توصلت إثيوبيا ومصر والسودان إلى حل وسط بمناقشتها المرحلة الأولى فقط، وهي تخزين المياه، وتأجيل مناقشة المراحل اللاحقة. وفي بيان مشترك صادر عن وزراء الخارجية والموارد المائية لمصر وإثيوبيا والسودان، اتفقوا على أن "يجري ملء سد النهضة على مراحل، وأن يكون بطريقة منسقة وتعاونية تأخذ في الاعتبار الظروف الهيدرولوجية لنهر النيل الأزرق والتأثير المحتمل للملء على خزانات أسفل مجرى النهر". ووافق الوزراء على تفاصيل المرحلة الأولى، لكنهم أجّلوا المحادثات حول المراحل المتبقية حتى عودتهم إلى واشنطن في 28 و29 يناير/كانون الثاني. وكان من المقرر أن تُجرى مناقشات فنية وقانونية إضافية قبل ذلك.
وتعتبر مصر الحصول على تأكيد المجموعة الثلاثية للنظر في الحالة الهيدرولوجية للنهر طوال مرحلة الملء مكسباً مهماً؛ إذ تمثل فترة الملء مرحلة عالية المخاطر للدولة الواقعة على أقصى مصب النهر؛ لأن الجفاف في هذا الوقت من شأنه أن يدمر القطاع الزراعي في مصر بشكل نهائي.
وجاء في الاتفاق الذي أجمع عليه وزراء الدول الثلاث أن إثيوبيا ستملأ السد خلال موسم الأمطار، الذي يأتي بصفة عامة بين يوليو/تموز وأغسطس/آب، وإذا كانت الظروف الهيدرولوجية ملائمة، فستمتد الفترة إلى سبتمبر/أيلول. وسيتدفق النهر بشكل طبيعي خلال المواسم التي لا تسقط فيها أمطار. ولم يُعلَن بعد عن المدة التي سيستغرقها ذلك، لكن البيان المشترك حدد أن المرحلة الأولى، التي سيُملأ فيها الخزان إلى 595 متراً فوق مستوى سطح البحر، ستتم بسرعة لتوليد الدفعة الأولى من الكهرباء في أقرب وقت ممكن، "مع الحرص على توفير تدابير التخفيف المناسبة لمصر والسودان في حال اشتد الجفاف خلال هذه المرحلة".
تقاسُم مسؤولية الجفاف
واتفقت الأطراف على تقاسم مسؤولية إدارة الجفاف، وهي قضية لا يمكن لأي منهم أن يديرها بمفرده؛ إذ تتطلب هذه المهمة جهوداً على مستوى دول حوض النيل؛ كما يفرض هذا الأمر على كل دولة من الدول الثلاث أخذ زمام المبادرة لتحسين إدارة مواردها المائية.
فقد يكون الخلاف حول سد النهضة هو الزخم الذي تحتاجه مصر للدفع باتجاه مسعى وطني مشترك لإصلاح نظام إدارتها للمياه؛ إذ تستهلك مصر المياه في الوقت الحالي بمعدلات غير مستدامة. ومع زيادة عجزها المائي مع ارتفاع الطلب وقلة الإمداد، ستزداد صعوبة إدارة الوضع. والسبب الرئيسي لذلك هو القطاع الزراعي، الذي يمثل 79.6% من استهلاك المياه في البلاد. وهذا يعادل 107% من إجمالي موارد المياه المتجددة في مصر. بعبارة أخرى، يستهلك القطاع الزراعي في مصر كمية تفوق كمية المياه المتدفقة إلى أراضيها كل عام.
أزمة قطاع الري المصري
ولكن ثبت أنه من الصعب على مصر إصلاح هذا القطاع، لأنه يمثل 11.7% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة. وهو يمثل مصدراً مهماً للدخل من الصادرات وشريان الإمدادات الغذائية في البلاد. إلا أن إصلاح الزراعة المحلية سيكون عاملاً رئيسياً في التغلب على الفترة القريبة التي سترتفع فيها مخاطر نقص المياه. ويجب أن تركز هذه الإصلاحات على الري. ففي عام 2010، استخدم 82.66% من أراضي مصر الزراعية نظام الري بالغمر، وهي طريقة غير فعالة تغطي فيها المياه الأراضي الزراعية بأكملها. وتطفو معظم هذه المياه على سطح الحقول. والتوقف عن هذه الطريقة واستخدام أنظمة الري المضغوط، مثل الري بالرش والري الموضعي بالتنقيط، التي تحمل المياه مباشرة إلى المحاصيل، سيوفر المياه بشكل كبير.
وأثبت مشروع للبنك الدولي اكتمل عام 2018 ضرورة تحديث عملية الري لتقليل الاحتياجات المائية للحقول بشكل كبير. ونصب المشروع 105 آلاف هكتار من شبكات الري والصرف المضغوطة في دلتا النيل. وكانت النتائج واعدة: إذ انخفض استهلاك المياه في مناطق المشروع بنسبة 18% وزاد إنتاج المحاصيل بنسبة تتراوح بين 10 و13%. وأوصى فريق المشروع بإجراء تحسينات إضافية في التصميمات الفنية والتكلفة قبل أن تحاول الحكومة المصرية ري الأراضي المتبقية البالغ مساحتها 2.1 مليون هكتار. وستبلغ تكلفة تحديث عملية الري في الوقت الحاضر 5.2 مليار دولار (حوالي 2% من الناتج المحلي الإجمالي) على مدى 12 عاماً. وبالنظر إلى الفوائد المحتملة لتحديث منظومة الري على نطاق واسع، سيتعين على مصر أن تجعله أولوية. قد تبدو تكاليفه باهظة للغاية، ولكن من المرجح أن تكون تكلفة الفرص البديلة أكبر على المدى الطويل، خاصة في ظل تغير المناخ، وانخفاض هطول الأمطار، وانخفاض تدفق مياه النيل. وفي الوقت الذي تأمل فيه الأطراف الثلاثة في إيجاد حل مُرضٍ لمسألة ملء سد النهضة الإثيوبي، يمكن لمصر أن تقلل من تأثير فترة تخزين المياه إذا اتخذت تدابير سريعة لمعالجة أساليبها في إدارة المياه.
تعد مسألة مراجعة منظومات الري أمراً حيوياً لتحقيق الاستدامة والمرونة وأمن مصر وشعبها على المدى الطويل. ويتداخل استقرار الدولة بشكل مباشر مع إمداداتها الغذائية، كما رأينا عام 2010 عندما ساهمت زيادة بنسبة 50% في أسعار الحبوب في سقوط نظام مبارك. ورغم نتائج المحادثات الثلاثية حول ملء الخزان، فسيقل تدفق مياه النيل. وما لم تعالج مصر أزمتها في إدارة المياه، فقد يتزعزع استقرارها، وهو أمر غير مرغوب فيه.