مازال تفسير ابن خلدون للعصبية البدوية التي تنشئ الدول صالحاً لفهم ما يحدث في العالم العربي، وتحديداً تركيبة الحكم في السودان .
ففي القرن العشرين وبعد سنوات من التحالفات والصراعات بين العسكر والإسلاميين والقوى اليسارية والليبرالية والأحزاب الطائفية التقليدية، انتهى الأمر بهذا البلد بأن تصبح ميليشيات ذات جذور قبلية تنتمي إلى الأطراف الجغرافية هي الحاكم الفعلي للبلاد، بقيادة محمد حمدان دقلو، الذي يحمل لقب الفريق رغم أنه لم يتخرج في كلية عسكرية أو أي كلية قط.
السودان، منذ نشأته الحديثة، لعب الجيش دوراً في حكمه والحفاظ على وحدته.
وكمثل أغلب الجيوش العربية التي تُباهي بقية مواطنيها بأنها تحميهم من عدو لا يعرفونه، فإن فضل الجيش السوداني كغيره من الجيوش العربية الأساسي أنه حفظ وحدة البلاد، في ظل تغييب هذه الجيوش لدور الدولة المدنية.
ولكن في السودان، كانت معاناة الجيش أكبر من أي جيش عربي آخر، في ظل مساحة البلاد الشاسعة وتنوعها الجغرافي والإثني والديني، إضافة إلى قلة الموارد وضعف الدولة.
وكانت النتيجة انفصال الجنوب، وحركات تمرد مستمرة في أرجاء البلاد.
عسكر وإسلاميون.. تحالف السودان الغريب
على عكس كل الدول العربية حكم السودان في عهد البشير تحالف فريد بين الإسلاميين والعسكريين، أقصى القوى السياسية الأخرى.
وكان سبباً في استئناف الحرب في الجنوب، ثم قرر التخلص من هذا الإقليم المختلف إثنيا ودينياً عبر اتفاقات سلام فصلت الجنوب وجعلته دولة مستقلة أخذت معها معظم الموارد النفطية للبلاد.
وفور انفصال الجنوب وقع التمرد الواسع في دارفور، وهنا ظهرت النظرية الخلدونية مقدمةً تفسيراً لتطور التاريخ العربي مجدداً.
في مواجهة تمرد القبائل الإفريقية كان الجيش السوداني منهكاً من حربه في الجنوب، الذي يُعتقد أنه فقد فيها خيرة قواته، من بينها ذات التوجه الأيديولوجي الإسلامي.
فلجأ النظام للقبائل العربية بدارفور، التي مازالت تحتفظ بصلابة أجدادها الذين جاؤوا من الجزيرة، بفضل البيئة القاسية بالإقليم، ونمط معيشتها الذي يغلب عليه الرعي مقابل غلبة الزراعة على القبائل الإفريقية.
وتشكلت ميليشيات من هذه القبائل أطلق عليها ميليشيات جنجاويد، التي نجحت في التصدي للتمرد، ولكن بثمن إنساني وسياسي باهظ، حيث ارتكبت فظائع واسعة، أدت إلى ملاحقة الرئيس السوداني عمر البشير من المحكمة الجنائية الدولية.
الرجل الذي أعاد تدوير الجنجاويد
وبينما بدا أن الجنجاويد كعادة مثل هذه التشكيلات يصعب السيطرة عليها، ظهرت شخصية أعادت تشكيلها وهو محمد حمدان دقلو، الذي رأى فيه البشير الرجل القادر على حمايته، خاصة بعد دوره في إفشال هجوم متمردي دارفور على أم درمان، بعد أن تمرد على عمه زعيم الجنجاويد موسى هلال.
بدا أن البشير وجد أن ميليشيات الرجل الذي لقبه بـ "حميدتي" بديل للجيش السوداني المنهك والضعيف في تسليحه بحكم ظروف البلاد، والأهم بعد أن فقد هذا الجيش كثيراً من الزخم الأيديولوجي جراء سنوات الحكم الطويلة، والفشل في حرب الجنوب، والانشقاقات بين الإسلاميين.
جعل البشير قوات الدعم السريع مستقلة عن الجيش، أو بالأحرى أصبحت مفضلة عن الجيش.
كانت هذه مفارقة تاريخية سودانية تختلف عن بقية الدول العربية، بدأت كثير من الدول العربية مثل السعودية والأردن والدولة السنوسية الحديثة في ليبيا كدول تعتمد على مقاتلي القبائل، مع مسحة دينية، ثم تحولت إلى دول تعتمد على جيوش نظامية بخلفية قبلية. ولكن في السودان حدث العكس، فتحولت الدولة التي لعب الجيش الحديث دوراً أساسياً في تشكيلها إلى دولة تقوم على جيش يتبنّى الأيديولوجيا الإسلامية، ثم دولة تعتمد على مقاتلين قبليين وتهمش الجيش.
وكما يصدق ابن خلدون دوماً أثبتت العصبية القبلية أنها أقوى، بينما العصبيات الحاكمة القديمة سرعان ما تضعف شكيمتها من دعة الحكم.
وقد يكون السبب في ضعف عصبية الإسلاميين والجيش فقط، ليس دعة الحكم، بل عوامل أخرى أبرزها أن الطبيعة الجغرافية والبشرية السودانية المعقدة، مع خيار النظام بالإقصاء للجميع سواء القوى السياسية التقليدية أو الحديثة أو الممثلة للأقاليم الطرفية قد أرهق الجيش والنظام والمعارضة على السواء، ليأتي طرف من خارج كل هذا ليرث الجميع.
كان ما تحمله الجيش السوداني خلال العقود السابقة، لاسيما فترة حكم البشير، أكبر مما تحمله أي جيش عربي (باستثناء الجيش العراقي خلال عهد صدام على الأغلب)، وفي الوقت ذاته فإن هذا الجيش تحديداً يعاني من نقص في المعدات العسكرية الحديثة، في ظل ضعف القدرات الاقتصادية للبلاد، وشبه الحصار الذي كانت تعاني منه.
فكانت الميليشيات القبلية المحاربة بالفطرة هي البديل، كان رجال القبائل هم صناع الدولة في العالم العربي عبر التاريخ، لاسيما إذا ارتبطوا بفكرة دينية تحمسهم وتهذب ميول السلب والنهب والتمرد الدائم لديهم.
إنهم مقاتلون بالفطرة بعيدون عن البيروقراطية العسكرية العربية، وتركيبتها العقيمة، وأيضاً أكثر عدوانية وأقل تمسكاً بالقواعد والمحاذير.
والنتيجة عندما وقعت الثورة السودانية، أصبحت قوات الدعم السريع تمثل رقماً صعباً في المعادلة السياسية والأمنية في السودان، فهي القوة المنتشرة في العاصمة من خلال مئات الشاحنات الصغيرة والجنود المقاتلين ذوي الخبرة بأسلوب معارك العصابات وحروب الشوارع، وبخاصة أنها مازالت مرتبطة في المخيلة الشعبية بالرعب الذي مارسته قوات الجنجاويد في إقليم دارفور خلال الحرب.
الأوروبيون ومِن بعدهم الإماراتيون يلجأون إليهم
لم يكن البشير وحده هو من عرف القيمة العسكرية للدعم السريع.
حتى الاتحاد الأوروبي الذي يصدع العالم بالحديث عن حقوق الإنسان، والمؤسسية، قيل إنه مول قوات الدعم السريع (الجنجاويد سابقاً) لمنع الهجرة غير الشرعية، فأمام طوفان المهاجرين الذي قد يسقط الحكومات الأوروبية في صناديق الانتخابات تسقط كل القواعد الأخلاقية.
ولكن بعد البشير والأوروبيين جاء من قيّم قدرات الجنجاويد العسكرية بالذهب؛
دول الخليج، وتحديداً السعودية والإمارات.
يعلم حكام الدولتين الذين كان أجدادهم مقاتلين في مثل صلابة الجنجاويد قبل ظهور النفط مدى أهمية القدرات العسكرية للجنجاويد، جربوها في اليمن، والميزة بالنسبة لهم أيضاً أنهم مقاتلون غير مؤدلجين، وهم لا يفضلون القتال في الأوطان فقط مثل الجيوش النظامية.
إنهم على استعداد للقتال مقابل الأموال، وهم أرخص تكلفة من المرتزقة الكولومبيين الذين استعان بهم الإماراتيون في اليمن.
ولذا سرعان ما تم استخدامهم في ليبيا بعد اليمن، وتحول حميدتي لمقاول توريد مقاتلين، وفي الوقت ذاته فإنه بدعم سياسي من دول الخليج، وبالأموال التي يحصل عليها منهم مقابل توريد المقاتلين، أو لقاء الذهب السوداني الذي يصدره لهم أصبح الحاكم الفعلي للبلاد.
الحاكم الفعلي للبلاد
يعد تولي الفريق عبدالفتاح البرهان لرئاسة المجلس العسكري ومن بعده المجلس السيادي مؤشراً على تغلغل نفوذ الخليج وحميدتي في الحكم السوداني.
فالرجل كان مسؤولاً عن نشر القوات السودانية في اليمن، كما أنه كان يتولى منصب المفتش العام للجيش السوداني، وهو منصب قد يبدو مهماً شكلياً.
إلا أنه في أوقات الانقلابات لا وزن له غالباً، ففي مثل هذه الأوقات يكون القادة ذوو النفوذ هم الذين يقودون قوة عسكرية ضاربة، مثل رئيس الأركان أو قادة فرق أو جيوش، ويكونون غالباً من المشاه أو المدرعات.
تولي هذا الرجل ذي المنصب الرفيع الفارغ فعلياً من المضمون لقيادة المرحلة الانتقالية، بعدما اعتراض حميدتي على القائد السابق للمجلس العسكري، يشير إلى أنه يقوم بدور واجهة لصالح رجلٍ آخر لديه قوة ضاربة ومتماسكة تدين له بالولاء.
ومن يكون هذا الرجل غير حميدتي.
يشير وصول حميدتي والبرهان للحكم إلى انفراط عصبية الجيش السوداني.
انفراط بدأ مبكراً جراء الحروب والخلافات الأيديولوجية، والأهم جراء نجاح قوات الدعم السريع أن تصبح قوته الضاربة، خاصة أن الجيش السوداني ليس لديه معدات ثقيلة كثيرة العدد مثل الدبابات والطائرات والمدفعية، وهي الأسلحة التي تعطي ميزة نسبية للجيوش على الميليشيات.
ومع ضعف الجيش السوداني وإقصاء الإسلاميين استكملت عملية إضعاف عصبية هذا الجيش، وهو ضعف يظهر في صمت قادة الجيش عن تولي رجل ليس عسكرياً منصبَ نائب رئيس المجلس العسكري.
ويبدو من خلال ملاحظة حميدتي وعلاقته بدول الخليج أنه لعب دوراً في الإجهاز على هذه العصبية، فالرجل لم يكتفِ بسيطرته على قوات الدعم السريع، بل يستحوذ على مقدار كبير من مناجم الذهب، ليصبح واحداً من أغنى الرجال في البلاد، وهو متعاقد مع شركات علاقات عامة أجنبية، بل إنه يخلق منظمات مجتمع مدني خاصة به، وكل ذلك أدوات اختراق لمؤسسات الدولة بما فيها الجيش.
رهان الحراك.. من يبتلع الآخر؟
أما قوى الحراك السوداني، فقد راهنت منذ البداية على استئصال الإسلاميين، حتى لو أدى ذلك إلى صعود زعيم ميليشيا اتهموها بقتل رفاقهم في مذبحة القيادة العامة، والتي اعترف حميدتي تقريباً بتورط قواته فيها، وتحدث عن أنه فخ نصب لها.
أدت الخلفية اليسارية للحراك السوداني وسنوات الاضطهاد أثناء حكم البشير وقبلها الصراع الأيديولوجي مع الإسلاميين إلى أن تلجأ قوى الحراك السوداني للخيار السهل، وهو إقصاء الجناح الإسلامي للنظام لصالح الجناح الميليشياوي.
تأمل هذه القوى أن يكون الزمن كفيلاً بتعزيز سيطرتها على السلطة، وبالتالي قد تتخلص من هذا الجناح الميليشياوي.
ولكن بينما تظل هذه القوى أسيرة أحلامها يواصل حميدتي مراكمة المال والرجال وإرسال المقاتلين أينما تطلب الإمارات والسعودية، ليزداد وزنه السياسي والعسكري والمالي، بينما يندر أن يتحدث أحد عن حل ميليشيات حميدتي أو دمجها بالجيش.
ويثبت استمرار حميدتي في إرسال المرتزقة لليبيا وهيمنته على مناجم الذهب، وأخيراً لقاء رئيس المجلس عبدالفتاح برهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن الجناح الميليشياوي والشق العسكري المتحالف معه والمدعوم خليجياً يستطيع أن يفعل ما يشاء في السودان.
وما يزيد من قوته أن استمرار هيمنته على السلطة هو الضمان لاستمرار تدفق التمويل الخليجي للسودان المأزوم اقتصادياً.
وبينما تراهن قوى الحراك على أن الزمن كفيل بإضعاف حميدتي ورجاله، فهناك احتمال أن يكون الزمن في صالحه أيضاً، خاصة أنه يحاول أن يقدم نفسه كثوري ومتعاطف مع الأقليات.
كما أن الرجل الذي أثبت أنه حاد الذكاء يحاول تقديم نفسه على أنه ممثل لغربي السودان، الذي همّش تمثيله في السلطة منذ الاستقلال.
وقد نجح في هذا الإطار في إقامة علاقات وثيقة مع خصومه السابقين من الذين كانوا محسوبين على الحركات المتمردة في دارفور.
قد يكون هناك احتمال أن يكون الزمن في صالح الثورة السودانية، ولكن هناك احتمال أكبر أن يحيدها حميدتي، بعد أن بردت حموتها، وأن يزداد دوره في السلطة على حساب الثوار والعسكر التقليديين على السواء، بعد أن فعلها مع العسكريين الإسلاميين وقائدهم البشير، الذي يحتمل تسليمه بالفعل للمحكمة الجنائية الدولية عن الجرائم التي ارتكبتها ميليشيات الجنجاويد، التي أعاد حميدتي تدويرها باسم الدعم السريع.