يبدو أن عملية وقف إنتاج النفط الليبي أكبر من اللواء المتقاعد خليفة حفتر وأن وراءها دولاً عربية وأوروبية، لكن الأخطر أنها لن تدمر اقتصاد البلاد فقط، بل قد تؤدي إلى تأجيج نزعات نفصالية أكثر تشرذماً مما هو موجود أصل، فأزمة النفط قد تؤدي لتفتيت ليبيا.
في 17 يناير/كانون الثاني الماضي، أغلق موالون لحفتر ميناء الزويتينة (شرق)؛ بدعوى أن أموال بيع النفط تستخدمها حكومة "الوفاق الوطني" المعترف بها دولياً، قبل أن يقفلوا لاحقاً موانئ وحقولاً أخرى؛ ما دفع بمؤسسة النفط لإعلان حالة "القوة القاهرة" فيها .
وتنص قرارات الأمم المتحدة على وجوب أن يبقى النفط تحت السيطرة الوحيدة للمؤسسة الوطنية، وإشراف حكومة السراج. وأكدت الدول الغربية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي "الحقوق الحصرية" للمؤسسة الوطنية في تصدير النفط.
حجم الخسائر جراء وقف إنتاج النفط
يشكل النفط في ليبيا نحو 94% من موارد البلاد التي اكتشف فيها النفط لأول مرة عام 1958، وبدأ إنتاجه رسمياً عام 1961.
وأعلنت مؤسسة النفط الليبية، أمس الثلاثاء، ارتفاع خسائر البلاد جراء إغلاق موالين للواء المتقاعد خليفة حفتر، حقولاً وموانئ نفط شرق ووسط ليبيا، وصلت إلى مليار و325 مليوناً و58 ألفاً و881 دولاراً.
وفي بيان لها، قالت المؤسسة إنه "نتيجة الإقفالات غير القانونية لمنشآت النفط، تراجع الإنتاج إلى 183 ألفاً و265 برميلاً في اليوم، وسجلنا خسائر بلغت حتى اليوم (الثلاثاء) ملياراً و325 مليوناً و58 ألفاً و881 دولاراً".
وتوقعت أن يتسبب ذلك في "تفاقم مشكلة إدارة واستيراد وتوزيع الوقود، وتحميل الخزانة العامة مبالغ إضافية لاستيراد كميات إضافية من الوقود لتعويض الفاقد من إنتاج المصفاة".
وتشرف قوات حفتر على تأمين الحقول والموانئ النفطية في المنطقة الوسطى (الهلال النفطي) وميناء الحريقة النفطي بمدينة طبرق بالقرب من الحدود المصرية، فيما تدير تلك المنشآت مؤسسة النفط التابعة لحكومة الوفاق، التي لا يعترف المجتمع الدولي بغيرها مسوقاً للنفط الليبي.
وبلغ إنتاج ليبيا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي 1.167 مليون برميل يومياً، بحسب منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك).
وبينما يربط المراقبون عملية الإغلاق التي تنفذها مجموعات قبلية بقوات حفتر فإن الجنرال المتقاعد ينفي علاقته بها.
انقطاع للكهرباء وأزمة لاجئين
وقال محافظ مصرف ليبيا المركزي في طرابلس، الصديق عمر الكبير، في تصريحات لوكالة "رويترز"، إن "تعطيل النفط رصاصة في الرأس".
وأشار محافظ مصرف ليبيا المركزي إلى أنه "لا موافقة على ميزانية 2020 حتى الآن".
وفي وقت سابق حذر رئيس المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، مصطفى صنع الله، من أن إنتاج النفط في البلاد سينهار خلال أيام إلى أدنى مستوى له منذ الإطاحة بمعمر القذافي في عام 2011.
وأضاف صنع الله أن إغلاق موانئ تصدير النفط فرض إغلاقاً سريعاً للإنتاج وانقطاع الكهرباء في أجزاء من البلاد، وفقاً لموقع "ليبيا الأحرار".
وذكر رئيس مؤسسة النفط أن فقدان إمدادات الغاز كان يؤثر على توليد الطاقة، ما تسبب في نقص في الشبكة الوطنية وانقطاع التيار الكهربائي في أجزاء من شرق ليبيا.
وحذر صنع الله من أن الأزمة قد تتسبب في تآكل الاحتياطيات النقدية للبلاد وتفاقم أزمة اللاجئين في أوروبا وتشجيع المزيد من الناس على المجازفة برحلة المغادرة من ليبيا عبر البحر الأبيض المتوسط.
يذكر أن إجمالي الإيرادات النفطية بلغ 31.395 مليار دينار خلال عام 2019، في حين بلغ إجمالي المرتبات المدفوعة، غرباً وشرقاً، 29.5 مليار دينار العام الماضي، وفق بيانات رسمية صادرة عن المصرف المركزي.
ويوجد في حوض سرت النفطي فقط ما يزيد على 50 حقلاً ومحطة، وسيؤثر وقف التصدير على الإنتاج اليومي من هذا الحوض بما يصل إلى 700 ألف برميل يومياً، فضلاً عن تأثير ذلك على تآكل التسهيلات السطحية وخطوط نقل النفط الخام، كما يؤدي توقف الإنتاج المفاجئ إلى تجمد خام السرير.
مطالب خطيرة.. تقسيم المقسم
وأفادت تقارير إعلامية بأن المجموعات التي أوقفت إنتاج النفط لديها، أعلنت في اجتماع حضره مشايخ القبائل من جميع أنحاء ليبيا، أنهم توافقوا على عدة مطالب على رأسها:
- إسقاط الاعتراف بحكومة السراج.
- تغيير رئيس المصرف المركزي، ومدير المؤسسة الوطنية للنفط.
- تشكيل حكومة تسيير أعمال.
- التوزيع العادل للثروة، من خلال تقسيمها إلى 4 أقاليم.
المطلب الأخطر هو الدعوة إلى تقسيم ليبيا إلى 4 أقاليم
فمن المعروف أن ليبيا تقليدياً مقسمة إلى ثلاث أقاليم هي: طرابلس وفزان وبرقة، ومنذ سقوط نظام القذافي وظهور خليفة حفتر، قوي تيار يطالب بالفيدرالية في برقة، ومطالب التيار لا ينظر لها باعتبارها مجرد فيدرالية على النمط الأمريكي أو الألماني بقدر ما هي انفصالية أو تمهيد لها، وأغلب هؤلاء متحالفون مع حفتر.
ومنطقة الهلال النفطي هي منطقة وسط بين الأقاليم الثلاثة، وقد يثور حولها نزاع في حال مضت فكرة الفيدرالية قدماً للأمام.
إذ تمتد منطقة الهلال النفطي غرباً، إلى ما بعد ميناء السدرة في اتجاه بن جواد والوادي الأحمر.
ويمثل هذا الامتداد عامل نزاع بين المنادين بالفيدرالية والمنادين بالوحدة، منذ سنوات. فحدود إقليم برقة، بحسب التقسيم الإداري القائم على دستور 1951، تقف عند غرب اجدابيا، ولا تضم في نطاقها من منشآت الهلال النفطي سوى البريقة، غير أن المنادين بالفيدرالية، في السنوات الأخيرة، يعتبرون الوادي الأحمر فاصلاً بين المنطقة الشرقية (إقليم برقة) والمنطقتين الوسطى والغربية (إقليم طرابلس)، ما يعني أن جميع منشآت الهلال النفطي تقع ضمن الحدود الترابية لإقليم برقة.
لكن من الواضح من سياق الأحداث أن هناك من بين الزعماء والمتنفذين في المنطقة الوسطى من يريد خلق إقليم رابع في منطقة الهلال النفطي الغنية، بدلاً من استمرار الوحدة المركزية الليبية أو انضمام جزء من الهلال النفطي لشرق ليبيا، علماً بأن التركيبة السكانية في المنطقة أقرب للغرب الليبي من الشرق.
ومن هؤلاء الزعماء السنوسي الحليق شيخ قبيلة الزوية.
فهؤلاء الزعماء الذين تقلبوا في الولاءات يريدون أن يضعوا يدهم على النفط عبر الإقليم الرابع المزعوم، خاصة أن القوات التي تحرس منشآت النفط الليبي هي من أبناء قبائل المنطقة، وعلاقتها بحفتر علاقة مصلحية بحتة، كما يبدو أن لها علاقات خارجية بعيداً عن حفتر.
لكن هذا قد يفتح المجال لنزاع قبلي بدلاً من الإقليمي والسياسي
يقول الأكاديمي الليبي خليفة الحداد لـ "العربي الجديد" عن التقسيم الجغرافي للنفوذ القبلي، إن "منابع النفط وحقوله بالفعل هي في أراضي قبيلة الزوية، لكن الموانئ في وسط البلاد تقع في أراضي قبيلة المغاربة، بينما تتقاسم قبيلتا العبيدات والبراعصة السلطتين التشريعية والتنفيذية في شرق ليبيا".
وحذر من أن ما يسمى "مبدأ التقسيم العادل القائم على الأقاليم والفيدراليات" سيفضي لمرحلة جديدة من الصراع الأكثر دموية، ما يعني ذهاب البلاد ليس للتقسيم فقط، بل للتفتيت أيضاً.
ويرى أن "توقيت إغلاق النفط وضبابية من يقف وراءه أمر مريب"، متسائلاً عن حقيقة بيانات شيخ قبيلة الزوية و "هل بإمكانه الإعلان عن أسماء شيوخ القبائل الذين يزعم أنهم اجتمعوا وناقشوا مسودة تقاسم الثروة"، لافتاً إلى أن "الـ30 خبيراً لم يخرج منهم أحد ليتحدث".
وأردف قائلاً: "أمر مريب ألا نسمع عن تلك الاجتماعات إلا بعد انتهائها، وعلى لسان الحليق فقط من دون غيره، على الرغم من أن أحداثاً أصغر تحدث في العلن".
لماذا وقف المجتمع الدولي صامتاً هذه المرة، وهل يجرى الأمر بدون موافقة حفتر؟
وليست هذه المرة الأولى التي يتوقف فيها إنتاج النفط الليبي ولكن في المرات السابقة كان المجتمع الدولي يسارع بالتدخل، ولكن هذه المرة بدا أن هناك تباطؤاً لافتاً للنظر في هذا الشأن.
فالمؤسسة الوطنية للنفط تعتبر من بين المؤسسات الوطنية القليلة التي عملت في سياق سياسي منقسم بين حكومة الوفاق الوطني وقوات خليفة حفتر.
واللافت أن شيخ قبيلة الزوية، السنوسي الحليق أحد الشخصيات المتورطة في عملية وقف إنتاج النفط الليبي، قال إن "العديد من سفراء الدول الكبرى" تواصلوا معه لـ "التشاور بشأن مطالبهم الخاصة بتقسيم الثروة"، بحسب تصريحاته لوكالة "سبوتنيك" الروسية أخيراً.
ويرى الباحث الليبي في العلاقات الدولية مصطفى البرق أنه منذ تدويل الملف الليبي كان أحد الأهداف فرض توزيع الثروة في أي اتفاق، لإخضاع النفط للمساومات السياسية، ونقله لدائرة التفاوض على تقاسم السلطة، ويقول: "دليلي على أن المسألة أجندة دولية وإقليمية أن حفتر لم يتحدث في كل فترة وجوده عن توزيع الثروة أو تقاسمها بالمطلق".
هل اتفق الإيطاليون والفرنسيون في برلين على تقسيم النفط الليبي؟
ويحذر البرق من أن اتصالات سفراء الدول التي أكدها الحليق، شيخ الزوية، تعني وجود مقاربة دولية بشأن تقسيم موارد النفط وليس مواقعه.
وقال إن "التوصيفات السابقة للصراع الدولي في ليبيا بأنه صراع "توتال" الفرنسية و "إيني" الإيطالية صحيحة، وتضاف إليها الدول التي تمتلك شركاتها الكبرى عقوداً للتنقيب والإنتاج، وباعتبار أن برلين جاءت لفك الاشتباك الدولي في الملف الليبي، فهذا يعني أن الخلافات بشأن النفط سُوّيت في برلين".
وتساءل عن سبب صمت المجتمع الدولي إزاء استمرار غلق النفط، وهو الذي تدخل في السابق لإجبار حفتر على الرجوع عن قرار نقل تبعية المنشآت النفطية لبنغازي في أقل من يوم، على الرغم من أنه مَن يسيطر على تلك المنشآت.
وهناك دولتان عربيتان لهما دور في أزمة النفط
وبينما لا تزال قيادة قوات حفتر تنفي علاقتها بقرار وقف إنتاج النفط، فإن برلمانياً ليبياً على صلة بلجنة الطاقة والموارد الطبيعية أكد بمجلس النواب في تصريح لموقع العربي الجديد، أن علي الشامسي، مستشار ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، على صلة وثيقة بخطوة وقف إنتاج وتصدير النفط.
كما ربطت أوساط ليبية بين قرار غلق النفط وبين استضافة القاهرة المسار الاقتصادي الذي تمخض عنه مؤتمر برلين.
فالمرة الأولى التي تثار فيها مسألة "توزيع الثروة في ليبيا بشكل عادل" كانت من قبل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين اعتبرها "أحد أهم سبل حلّ الأزمة الليبية".
ويرى البرق أن "غلق النفط، مع إنشاء مسار اقتصادي، واستضافته في القاهرة، ووجود أيادٍ إماراتية خفية وراءه، مقابل سعي تركي للتواجد في مواقع الطاقة في البحر المتوسط"، عوامل تزامنت، وتعكس سعياً دولياً لفرض شكل من أشكال الوصاية على النفط الليبي، كونه مفتاح الحل الوحيد، بعد أن فشلت كل المقاربات السياسية والعسكرية".
تجدر الإشارة إلى أنه عندما سيطرت قوات حفتر على موانئ الهلال النفطي قبل عدة سنوات، صدرت تقارير وتصريحات عن شحنات مجانية من النفط تصل مصر تباعاً.
ويعد إقليم برقة، والهلال النفطي المتاخم له، مجالاً حيوياً تحرص السلطات المصرية على بقائه تحت سيطرة حلفائها المحليين المساندين لعملية "الكرامة".
وقد حرصت القاهرة على الاحتفاء بالعديد من شيوخ القبائل التي تشكل النسيج الاجتماعي للهلال النفطي وما جاوره، مثل شيوخ قبيلة "المغاربة".
لكن في المقابل، يستبعد محللون أن يكون إقفال الموانئ النفطية ورقة ضغط مثمرة لإعادة فتح ملف "تقسيم الثروة الليبية".
إذ يحذر الباحث بمعهد كلينغديل في لاهاي جلال هرشاوي من أن "هناك أيضاً مخاطر من إثارة استياء واشنطن". وأضاف أن "إدارة ترامب تعارض بشدة وقف صادرات النفط الليبي"؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط.