الإنترنت عدو الأنظمة غير الديمقراطية، لأنه أداة رخيصة لتوصيل المعلومات للعدد الأكبر من الناس، وهناك دول تحجب الإنترنت بشكل جزئي، أو كامل أحياناً، لفرض رقابتها على المحتوى أو حتى منعه من الأساس، لكن روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين لها طريقتها الخاصة.
صحيفة إندبندنت البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: "كيف تعزِّز روسيا سلطتها الرقابية على الإنترنت؟"، ألقى الضوء على الخطوات التي تتخذها السلطات الروسية لفرض رقابتها على المحتوى في مجتمع اعتاد على الإنترنت كمصدر رئيسي للأخبار.
الذريعة لا لتشجيع الانتحار، لكن ما الحقيقة؟
تقع مدينة كيركينيس الصغيرة على امتداد الحدود النرويجية، المعروفة بظاهرة الشفق القطبي مع القطب الشمالي. يبلغ عدد سكان المدينة أقل من أربعة آلاف، ويعمل اثنان فقط في الصحيفة المحلية على شبكة الإنترنت، وهنا تشير روسيا إلى ما قد يحمله المستقبل: محاولة تعزيز سلطة رقابة الإنترنت على مواطنيها.
موضوع النقاش هو موقع Barents Observer الذي يُنشر بالإنجليزية والروسية، وقصة لرجلٍ يصرح بكونه مثليّ الجنس، راودته فكرة الانتحار مرتين، ولكنه تراجع بعد ذلك، والآن يعمل على النهوض بصحته النفسية. اعتبرت روسكومنادزور، الهيئة الروسية للرقابة على الاتصالات، أن القصة تدعو إلى الانتحار وحجبت موقع Observer كليةً في روسيا، العام الماضي، ولكن محرر Barents Observer تساءل عمَّا إذا ما كان الموقع مُستهدفاً بسبب محتواه السابق المعارض للكرملين.
تأثَّرت كل سبل التعبير، من القصص المُصوَّرة اليابانية إلى العناوين السياسية المعارضة على شبكة الإنترنت إلى موقع نرويجي صغير يكاد يصل إلى عشرين ألف قارئ روسي شهرياً، بما يُدعى "القائمة السوداء" الروسية التي تصل إلى أكثر من 300 ألف، ولكن رغم سمعة موسكو السيئة لاختراقها شبكة الإنترنت في العالم، فإن القيام بذلك في روسيا ليس أمراً هيناً، خصوصاً في مجتمعٍ اعتاد على حرية استخدام الإنترنت.
سلكت روسيا حتى الآن هذا المسار الرقابي بحرصٍ نسبي، ورغم ذلك يخشى مراقبو حرية الإنترنت في روسيا من أن قانون "سيادة الإنترنت" الجديد قد ينافس يوماً ما مثيليه الصيني والإيراني، وقد وضع المرصد الحقوقي فريدم هاوس، في لندن، روسيا في المركز 51 من بين 65 دولة في تقييمها السنوي لحرية الإنترنت، العام الماضي.
ماذا يعني قانون سيادة الإنترنت؟
دخل القانون حيز التنفيذ في نوفمبر/تشرين الثاني، وقد يكون ذلك قبل عام من العمل بتكنولوجيات المراقبة. ويهدف إلى رصد حركة شبكة الإنترنت الروسية وبياناتها عبر نقاط تتحكم بها سلطات الدولة، ولبناء نظام لاسم النطاق القومي. ويدَّعي المؤيدون أن روسيا قد تتمكُّن من إرساء تحكُّمٍ أكبر في محتوى الإنترنت وحركته.
تصفه السلطات الداعمة لمشروع القانون بأنه إجراءٌ ضروري للأمن الحاسوبي للدفاع عن روسيا، ببناء حواجز إلكترونية، ولكن النقاد يرونه وسيلةً إضافية للحكومة من أجل تضييق الخناق على واحدة من المصادر القليلة المجانية المتبقية للمعلومات في روسيا.
تدير الدولة قنوات الأخبار الفضائية، ويقل مشاهدو التلفاز تدريجياً، بحسب مركز ليفادا الروسي المستقل للاستطلاعات، الذي كشفت دراسته عن المشهد الإعلامي الروسي في 2019 أيضاً أن شبكات التواصل الاجتماعي استبدلت التلفاز باعتبارها المصدر الرئيسي للأخبار لدى الشباب، وأنه رغم أن قرابة 80% من السكان كانت لديهم الثقة في التلفاز باعتباره مصدراً للأخبار منذ عشرة أعوام مضت، صارت النسبة الآن 55%.
صرَّحَت هيذر آي كونلي، مديرة البرنامج الأوروبي بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: "سخَّرَت الحكومة الروسية أنشطة الفضاء الإلكتروني لاستهداف الحكومات والنشطاء خارجياً، ولكن هذه الأدوات تُستَخدَم داخلياً الآن. وقد رأى المسؤولون الروس كيف يمكن للمجتمع المدني استخدام الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي لمشاركة المعلومات وتنظيم الاحتجاجات الشعبية عبر روسيا، وكأداة للشفافية ضد الفساد الروسي".
البداية قبل أكثر من 8 سنوات
تسببَّت انتفاضةٌ منذ أكثر من ثمانية أعوام، قامت على ادعاءاتٍ بتزوير الانتخابات، في بدء الجهود الأولى للسلطات الروسية للحصول على تحكم أكبر في الإنترنت. ويقول المُشِّرع السابق إيليا بونوماريف إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رأى في شبكة الإنترنت "تهديداً محتملاً" وبدأ يبحث ضوابطه.
وفي الوقت نفسه تقريباً، قُدِّمت المعايير الأولى لحجب المحتوى غير المرغوب فيه على الإنترنت، ويستهدف تحديداً استغلال الأطفال في المواد الجنسية والمواد المُتعلِّقة بالمخدرات، وكلَّ شيء قد يُعَد مُشجِّعاً على الانتحار.
كان من المفترض أن تُحدِّد المنظمات غير الحكومية القائمة السوداء، ولكن هذا الدور ذهب إلى الهيئة الرقابية روسكومنادزور بدلاً منهم. يمكن لأكثر من عشر وكالات حكومية أن تطلب حجب أي موقع من روسكومنادزور.
يقول بونوماريف: "هذا القانون تحديداً لا غبار عليه، ولكنه استُخدِم كنموذج لتقديم مبادرات أخرى. كانوا يقدمون قوانين، ولكن لقضايا سياسية بالفعل، ما أطلقوا عليه التطرف، والإرهاب، وتلك الأمور، مما أدى إلى تأسيس رقابة حقيقية".
وكانت النتيجة تعريفاً ملتبساً حول ما يمكن حجبه. شملت القائمة السوداء بعضاً من المانغا اليابانية باعتبار أنها تستغل الأطفال في مواد جنسية. ولا يمكن للروس الوصول إلى مواقع إخبارية يديرها الكرملين، وتنتقد ميخائيل خودوركوفسكي وغاري كاسباروف ﻷن تلك المواقع صُنِّفَت باعتبارها "متطرفة".
وحُجِبَ موقع Barents Observer بسبب مزاعم الترويج للانتحار، رغم أن موضوع قصتها كان يدعو للعكس، ويشك المحرر توماس نيلسين أن الأزمة الحقيقية تعود إلى 2014، حين اتَّهَم مسؤول روسي الموقع علانيةً بأنه ينشر تقارير معادية للروس، ﻷنه استخدم مصطلحاً مثل "البوتينية"، وكان ناقداً لضم روسيا للقرم من أوكرانيا.
ويقول نيلسين: "نقع تقريباً في أقصى زاوية من أوروبا، ولكننا لا نشعر بذلك بسبب أننا اخترنا أن ينتهي بنا الحال في هذا الوضع، نعم نحن على الحدود مع روسيا، ولكن أيضاً على حافة النضال من أجل حرية الإنترنت".
لم تكن كل المحاولات الروسية لحجب الإنترنت ناجحة
إذ بعد أن رفض تطبيق تيليغرام للرسائل النصية، شائع الاستخدام، خاصةً في روسيا، أن يمنح السلطات إذناً للوصول إلى رسائل المستخدمين المُشفَّرة في 2018، حاولت هيئة روسكومنادزور حجب التطبيق دون أن تُكلَّل بالنجاح، لكن الهيئة منعت الروس دون قصد من الوصول إلى عدة خدمات إلكترونية لا علاقة لها بالتطبيق.
ويظل تيليغرام شائع الاستخدام بين الروس، بمن فيهم العديد من المسؤولين، حتى إن أليكساندر زاروف، رئيس هيئة روسكومنادزور يستخدم التطبيق. وحجبت روسيا منصة LinkedIn في 2016، لأنها تحتفظ ببيانات المستخدمين من المواطنين الروس خارج روسيا، ولكنها ترددت في اتخاذ الإجراء نفسه مع مواقع التواصل الاجتماعي الأشهر مثل فيسبوك وتويتر.
ويقول خودوركوفسكي: "يفهمون تماماً أن 90% من المستخدمين (المتصلين بالإنترنت) غير سياسيين، ولكن إذا سلبت منهم منتجاً يحبونه، يمكنهم تسييس هذا المنتج، وهو ما لا يريده أي أحد".
يقول أرتيم كوزليك من Roskomsvoboda، وهي مجموعة تحارب الرقابة على الإنترنت وتدعو إلى حرية المعلومات، إن قانون سيادة الإنترنت الجديد "يفتح المجال نحو فصلٍ جديد من الضوابط" ﻷنه يتضمن التحكم في البنية التحتية عبر تكنولوجيا الفحص الدقيق لحزم البيانات- طريقة متطورة للتحكم في حركة الإنترنت.
ويشك كوزليك أن روسيا ستتمكَّن فعلاً من عزل نفسها عن شبكة الإنترنت العالمية، كما ادعت السلطات الروسية، ولكن قد تسوء الخدمات في بعض المناطق لوقت قصير، وهذا ما حدث أثناء الاحتجاجات في موسكو وجمهورية إنغوشيتيا في منطقة القوقاز.
كان للحجب عواقب وخيمة على Barents Observe. إذ خسرت قرابة الثلثين من جمهورها الروسي منذ أن وُضعت في قائمة الكرملين السوداء الخاصة بالإنترنت، ويقول نيلسين، محرر موقع Barents Observer إنه يفضل حدوث ذلك عن الاستسلام للرقابة الذاتية.
يقول: "قرَّرنا ألّا نساوم أبداً على ما نكتبه. نحن نتَّبِع صحافةً نؤمن أنها سليمة من الناحية الأخلاقية. ولا نريد أن نُغيِّر أيَّ شيء لمجرد أن روسكومنادزور لا تتفق معنا".