خطوة مفاجئة أقدم عليها رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان، عبدالفتاح البرهان، بلقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ليفتح بذلك جدلاً بين تجريم وتبرير الخطوة، وبين تشكيك في جدواها وتأييد لها. إذ يعد اللقاء الذي جمع البرهان ونتنياهو في أوغندا، الإثنين 3 فبراير/شباط 2020، هو الأول من نوعه، المعلن لمسؤول سوداني رفيع مع الجانب الإسرائيلي منذ استقلال السودان عام 1956.
التحول الكبير
يبدو أن اللقاء يدشن لمرحلة تحوُّل كبير في العلاقات العدائية بين الخرطوم وتل أبيب، إذ ظل السودان داعماً للقضية الفلسطينية، وتمسَّك برفضه لأي علاقة مع إسرائيل.
وكان مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي كشف في بيان نشره على تويتر، أن نتنياهو والبرهان التقيا في أوغندا، واتفقا على "بدء تعاون يقود نحو تطبيع العلاقات بين البلدين".
والواضح أن الكشف عن اللقاء كان من نصيب إسرائيل، في حين قال المتحدث باسم الحكومة السودانية، وزير الإعلام فيصل محمد صالح، عقب ساعات من الإعلان عنه، إنه لم يتم إخطار الحكومة أو التشاور معها.
الثلاثاء، أصدر البرهان بياناً مقتضباً، عقب اجتماع مشترك لمجلسي السيادة والوزراء، قال فيه إنه التقى نتنياهو "من موقع مسؤوليته، ومن أهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني السوداني، وتحقيق المصالح العليا للشعب".
وأضاف: "أوكد أنَّ بحث وتطوير العلاقة بين السودان وإسرائيل مسؤولية المؤسسات المعنية بالأمر، وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية".
وتتضمن هذه الوثيقة محددات مرحلة انتقالية، يعد مجلس السيادة أحد هياكلها، بدأت في 21 أغسطس/آب الماضي، وتستمر 39 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وتحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير".
وأتبع البرهان ذلك بتصريحات أطلقها الأربعاء، دافع فيها بشدة عن اللقاء مع نتنياهو، قائلاً إن "الاتصالات مع نتنياهو وبومبيو بدأت منذ 3 أشهر وطرحنا فيها ما يستفيد منه السودان، وأن قربنا من إسرائيل قد يكون مفيدا في مساعدة الفلسطينيين على حل مشاكلهم". مردفاً: "لم نتصل بالسلطة الفلسطينية ولم يتصلوا بنا والسلطة نفسها معترفة بإسرائيل"، في تبرير لموقفه.
بدعم من دول "صفقة القرن"
يرى بعض المحللين أنَّ تحرك رئيس المجلس السيادي بهذا الشكل، "يشير إلى أنه تحرُّك منفرد في إطار إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية".
بينما يرى خبراء أن خطوة البرهان لا يمكن النظر إليها بمعزل عن استماعه لمشورة محور الدول الداعمة لـ "صفقة القرن" الأمريكية والتي تربطه علاقات جيدة بها.
إذ كشفت صحيفة "ذي تايمز أوف إسرائيل"، صباح الثلاثاء، نقلاً عن مسؤول عسكري سوداني "رفيع" لم تسمه، أن الإمارات هي التي رتبت اللقاء، وعلِمت به "دائرة صغيرة" من كبار المسؤولين في السودان، وكذلك السعودية ومصر.
في حين لم يصدر عن أبوظبي أو الرياض أو القاهرة نفي أو تأكيد لما أوردته الصحيفة العبرية.
بين التجريم والتبرير
حول تقييم اللقاء بين المسؤولَين السوداني والإسرائيلي، تباينت الآراء والمواقف على المستويَين الرسمي والحزبي، بين التجريم والتبرير.
رئيس الوزراء عبدالله حمدوك رحّب، الأربعاء، على صفحته بموقع فيسبوك، بـ "التعميم الصحفي" الذي أصدره البرهان، مساء الثلاثاء، حول المسألة. لكن حمدوك أكد أن "العلاقات الخارجية من صميم مهام مجلس الوزراء وفقاً لما تنص عليه الوثيقة الدستورية"، وطالب بـ "ضمان المساءلة والمسؤولية والشفافية في جميع القرارات المتخذة".
وبدوره، ذهب "تجمُّع المهنيين السودانيين" إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ أدان لقاء البرهان مع نتنياهو، معتبراً إياه "تجاوزاً خطيراً" للسلطة الانتقالية والوثيقة الدستورية.
وأعلن التجمُّع، في بيان، الأربعاء، رفضه القاطع "لأي مخرجات تمخض عنها اللقاء"، مشدداً على أن "موقف الشعب السوداني ودولته الثابت تاريخياً هو عدم التعامل أو التطبيع مع الكيان الإسرائيلي دعماً للشعب الفلسطيني".
وفي ردود الفعل التي صدرت الثلاثاء، قالت قوى "إعلان الحرية والتغيير"، إن لقاء البرهان مع نتنياهو يشكل "تجاوزاً كبيراً للسلطة التنفيذية".
وأضافت القوى، التي تعتبر قائدة الحراك الاحتجاجي وتمثل التحالف الحاكم، أن "إحداث تغييرات جذرية في قضية سياسية بحجم قضية العلاقة مع إسرائيل يقرره الشعب السوداني من خلال مؤسساته التي تعبر عن إرادته".
"تلطيخ لسمعة بلادنا"
في حين اعتبر حزب "المؤتمر الشعبي" السوداني، أن لقاء رئيس مجلس السيادة الانتقالي، مع رئيس الوزراء الإسرئيلي، "صادم" للموقف الشعبي، و "طعنة" للقضية الفلسطينية.
وقال الحزب الذي أسسه الراحل حسن الترابي، في بيان: "جاء هذا اللقاء ليس فقط طعنة لقضية فلسطين، وإنما تلطيخاً لسمعة بلادنا العزيرة ومواقفها المشرفة دفاعاً عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني".
بدوره، قال رئيس حزب الأمة القومي السوداني، الصادق المهدي، إن لقاء البرهان مع نتنياهو "لن يحقق مصلحة وطنية أو عربية أو دولية".
وعلى النقيض من كل ما سبق، وصف رئيس "حزب الأمة"، مبارك الفاضل المهدي، اللقاء بأنه "جريء وشجاع من البرهان". واعتبر المهدي، في تدوينة نشرها على صفحته بـ "فيسبوك"، أن "اللقاء يمهد لرفع العقوبات الأمريكية" المفروضة على السودان منذ 1997.
ورفعت إدارة الرئيس دونالد ترامب، في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2017، عقوبات اقتصادية وتجارية عن السودان، لكنها أبقت اسمه على قائمتها لـ "الدول الراعية للإرهاب"، المدرج عليها منذ 1993؛ لاستضافته زعيم تنظيم القاعدة الراحل، أسامة بن لادن.
مرونة تدريجية تجاه إسرائيل
وخلال الأعوام الأخيرة من حكم الرئيس المعزول عمر البشير (1989-2019)، كانت قد ارتفعت أصوات في السودان تنادي بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، لكنها ظلت مجرد دعوات. ونسبت وسائل إعلام محلية، في يناير/كانون الثاني 2016، إلى وزير الخارجية إبراهيم الغندور، قوله إن حكومته يمكن أن "تدرس" التطبيع مع إسرائيل.
اعتبر الغندور ذلك مدخلاً لتطبيع العلاقات مع واشنطن، التي تفرض عقوبات اقتصادية قاسية على البلاد على مدى قرنين من الزمن، وهو الحديث الذي تم نفيه سريعاً.
وجاهر حزب المستقلين، وهو غير مؤثر ولم يمثَّل من قبلُ تحت قبة البرلمان، بالدعوة إلى التطبيع، خلال مداولات مؤتمر الحوار الوطني، التي استمرت ثلاثة أعوام بدعوة من البشير (2014-2017)، وقاطعته غالبية فصائل المعارضة الرئيسية، لكن الأحزاب المشاركة رفضت الخطوة.
وفي أغسطس/آب 2017، قال نائب رئيس الوزراء وزير الاستثمار (آنذاك) مبارك الفاضل المهدي، إنه لا مانع من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، على اعتبار أن الأمر يحمل في طياته فوائد للمصالح السودانية.
نظرة إلى تاريخ العلاقات
- منذ استقلال السودان، لم تنشأ أية علاقات ثنائية بين تل أبيب والخرطوم؛ بل شاركت الأخيرة في الحروب التي شهدتها المنطقة العربية ضد إسرائيل، وأرسلت جنوداً للقتال في حربي عام 1948 وعام 1967.
- احتضن السودان قمة "اللاءات الثلاثة"، المعروفة بقمة الخرطوم، في 29 أغسطس/آب 1967، بعد هزيمة العرب على يد إسرائيل في الحرب التي اندلعت في 5 يونيو/حزيران من العام نفسه، وعُرفت بـ "النكسة".
- خرجت القمة العربية آنذاك بإصرار على التمسك بالثوابت من خلال "لاءات" ثلاثة، وهي: "لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه".
- درج المسؤولون السودانيون، خلال العقود الماضية، على تأكيد وقوفهم جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين في قضيتهم، وعادة ما يتباهون بدعمهم للقضية الفلسطينية.
- في الفترة بين 2008 و2014، قصفت إسرائيل أكثر من مرة، أهدافاً داخل الأراضي السودانية، بحجة تهريب حكومة الخرطوم أسلحة إيرانية إلى حركة "حماس" في غزة، مروراً بصحراء سيناء المصرية.
- وقع الاعتداء الأضخم عندما قصف سلاح الجو الإسرائيلي مصنعاً حربياً بالخرطوم في 2012، لكن تل أبيب لم تعلّق حتى الآن رسمياً، على اتهام السودان لها بتنفيذ الهجوم.
- السودان أول دولة أعلنت الحرب على إسرائيل من داخل البرلمان عام 1967، وكان حينها برلماناً ديمقراطياً.
تفاؤل إسرائيلي حول مصير اللقاء
لاحقاً، قال مكتب رئاسة الوزراء في إسرائيل، إن نتنياهو "يعتقد أن السودان يمضي في اتجاه جديد وإيجابي، وقد عبَّر رئيس الوزراء (نتنياهو) عن رأيه هذا لوزير الخارجية الأمريكي (مايك بومبيو)"، دون تحديد تاريخ ذلك.
وتابع البيان الذي نُشر الإثنين: "يريد البرهان مساعدة بلاده في القيام بعملية تحديث، من خلال إخراجها من العزلة، ووضعها على خارطة العالم".
في حين نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، الإثنين، عن مصدر إسرائيلي لم تسمّه، أن "لقاء نتنياهو والبرهان يمكن أن يقود إلى مرور الرحلات الجوية الإسرائيلية فوق السودان".
قالت الصحيفة إن نتنياهو كان قد صرح بعد استئناف العلاقات مع تشاد في يناير/كانون الثاني 2019، بأنه يسعى لإقناع السودان وتشاد بالسماح للطائرات الإسرائيلية بالتحليق عبر إفريقيا إلى البرازيل، وهو المسار الذي سيقلص مدة الرحلات بنحو 3 ساعات.
وبحسب ردود الفعل المتواترة على اللقاء خلال الساعات الماضية، يبدو أن الأوضاع لن تسير وفق التفاؤل الذي يبديه الجانب الإسرائيلي، بحسب عدد من المراقبين. وحتى لو نجحت الخرطوم في تحسين علاقتها مع تل أبيب على المستوى السياسي، فإن كثيراً من المحللين لا يتوقعون أن يؤدي ذلك إلى تحسُّن على المستوى الشعبي.