لعامين عكفت إدارة ترامب على عملية إعداد خطة السلام الأمريكية بشكل شديد السرية، لمنع تسرب تفاصيلها، ولكن تغيّراً في الموقف العربي والإسرائيلي دفعها لإطلاق هذه الخطة.
على ما يبدو فإن الخطة لم تخرج للنور إلا بعد تلبية عدد من الدول العربية لمطلب شديد الحساسية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية، كشف عن مدى السرية التي أحيطت بالخطة، ولماذا تم الإعلان عنها في هذا التوقيت؟
مشكلة إدارة ترامب كانت أنه ليس هناك شريك إسرائيلي
في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، كان أمام مساعدي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرار يتخذونه بشأن خطته التي تأجلت طويلاً للسلام في الشرق الأوسط. كانت إسرائيل في طريقها نحو انتخابات ثالثة غير مسبوقة، ما ترك البلاد تحت إدارة حكومة مؤقتة، وبلا قائد توافقي ليُمثِّل شريكاً لواشنطن في خطتها للسلام.
كان مسؤولو الإدارة الأمريكية يعرفون أنَّه ليس لديهم أي أمل في الحصول على دعمٍ فلسطيني، لذا لطالما اعتقدوا أنَّهم بحاجة لحكومة إسرائيلية راسخة كي تنضم إليهم في الكشف عن الخطة، لكنَّ فرص ذلك تبخَّرت في ديسمبر/كانون الأول، حين انحلَّ البرلمان الإسرائيلي وتقرَّر عقد انتخابات في مارس/آذار المقبل، وخشي المسؤولون من أنَّه بهذه الوتيرة قد لا ترى خطة ترامب النور أبداً.
اتخذ فريق البيت الأبيض، العامل على خطة سلام الشرق الأوسط القرار بالتغيير: سيطرحون الخطة قبل الاستقرار على الحكومة الإسرائيلية المستقبلية، شريطة أن يدعم كلٌّ من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومنافسه الرئيسي الخطة، وأن يحشدا طيفاً من الدعم الدولي.
ووفقاً لمسؤولين حاليين وسابقين بالإدارة كانوا مشاركين في هذه المساعي، كان ذلك التغيير جزءاً من سلسلة تحولات اضطُرَّ فريق ترامب، بقيادة صهر الرئيس ومستشاره جاريد كوشنر، للقيام بها خلال العامين اللذين كانت الخطة فيهما قيد الإعداد وبعد طرحها.
ركَّزت المساعي الأمريكية والدولية السابقة الرامية لتسوية أكثر من 70 عاماً من الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني على عملية من شأنها أن تترك الكثير من المسائل الحساسة للمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن حادت خطة ترامب عن هذا من خلال طرح نتيجة نهائية مُقتَرَحة تنحاز للمواقف الإسرائيلية على حساب وجهات النظر الفلسطينية بشأن الحدود ومسائل أخرى.
لا هواتف أو بريداً إلكترونياً.. إدارة ترامب نفَّذت عملية إعداد خطة السلام الأمريكية بشكل شديد السرية
منذ بدء إعداد الخطة في 2017 وحتى الأيام الأخيرة قبيل إعلانها، فرض الفريق الذي يُعدّها تدابير أمنية مشددة غير مسبوقة. فأربعة أشخاص فقط كانوا يتمتعون بالقدرة على الوصول إلى الوثيقة: هم جاريد كوشنر، والسفير الأمريكي لدى إسرائيل ديفيد فريدمان، والمبعوث الأمريكي الخاص للمفاوضات الدولية آفي بيركويتز، وجيسون غرينبلات، سلف بيركويتز والمحامي السابق بمؤسسة ترامب، قبل أن يغادر الإدارة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وأُطلِعت مجموعة صغيرة من كبار المسؤولين في الإدارة على الخطة، ومُنِح البعض، بينهم نائب الرئيس مايك بينس ووزير الخارجية مايك بومبيو، نسخاً لقراءتها.
أبقى فريق الشرق الأوسط الخطة بعيداً عن رسائل البريد الإلكتروني، وكانوا يجتمعون غالباً بصورة شخصية، ويحتفظون بنسخ ورقية للنص، ويُحدِّدون الأجزاء التي ستُدخَل عليها تغييرات بأيديهم. وكان غالباً ما يسافر غرينبلات وبيركويتز جواً ليلتقيا فريدمان من أجل مناقشة التفاصيل الحساسة، بدلاً من الحديث عنها عبر الهاتف.
وقرروا عدم ترجمة الوثيقة إلى اللغتين العبرية أو العربية خشية إمكان تسرُّبها.
كانت حلوى الكيت كات وريز فوق إحدى طاولات المؤتمرات في مكتب كوشنر بالجناح الغربي بالبيت الأبيض تمد الفريق بالطاقة في الأسابيع الأخيرة، فيما كان الفريق يُدخِل تعديلات وتغييرات اللحظة الأخيرة من أجل تجهيز الوثيقة للإصدار العلني، بعدما أنهى الفريق معظم عملية إعدادها بنهاية عام 2018.
كان التوقيت عاملاً رئيسياً في تغيير الإدارة خططها لإعلان الوثيقة. فبحسب المسؤولين الحاليين والسابقين، كان فريق ترامب بحاجة لإظهار الدعم السياسي والدولي، لكن لم يكن بالإمكان انتظار بلوغ الانتخابات الإسرائيلية في مارس/آذار أو بعدها.
وإطلاق الخطة كان مرهوناً بدعم الدول العربية وغانتس
بدأ كوشنر وفريقه في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي وضع دوائر على المواعيد وتحديدها في تقويم السنة. واستقروا على يوم 28 يناير/كانون الثاني، لكن كان هذا مرهوناً بقدرة كوشنر على حشد الدعم من الدول الأوروبية والخليجية العربية وإشراك خصم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بيني غانتس، في الأمر.
التقى كوشنر في المؤتمر الاقتصادي العالمي بمنتجع دافوس السويسري، الشهر الماضي، مع مسؤولين أوروبيين وعرب مختلفين. وفي نفس الأسبوع، سافر بينس إلى القدس حاملاً تعليماتٍ بدعوة غانتس ونتنياهو إلى البيت الأبيض من أجل طرح الخطة.
قدَّم ترامب موافقته النهائية وهو على متن الطائرة التي أقلّته من دافوس عائداً إلى الولايات المتحدة يوم 22 يناير/كانون الثاني. وفي اليوم التالي، وهو على متن رحلة إلى فلوريدا، قال للصحفيين إنَّه سيطرح الخطة الأسبوع المقبل.
قال مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون إنَّ غانتس كاد يرفض هذه الخطط حين أعرب عن تغيير رأيه في الزيارة للبيت الأبيض، خشية أن يبدو كبيدق في حملة نتنياهو الانتخابية. ووصل فريق ترامب إلى اتفاقٍ يسمح لغانتس بالمجيء إلى البيت الأبيض بصورة منفصلة عن نتنياهو.
قال مسؤول بالإدارة: "بالنسبة لنا، لم تكن الفكرة تتعلَّق كثيراً بمجيء الأشخاص، بل بأن نُظهِر للعالم أنَّ هذا شيءٌ إسرائيل بأكملها مستعدة للتكتل وراءه".
ورفض متحدثٌ باسم غانتس التعليق على المسألة.
ثم قرروا إعلانها بعد موافقة هذه الدول العربية
حشد كوشنر وفريقه بياناتٍ من أكثر من 10 حكومات دعماً للخطة، ولو أنَّه لم يستطِع حشد كمّ الدعم الذي كان يأمله.
فلم يعرب الاتحاد الأوروبي عن دعمه بقوة، قائلاً إنَّه سيدرس خطة ترامب. وانضم الأردن، الذي يُنظَر إليه باعتباره ضرورياً في هذا المسعى، إلى الفلسطينيين في معارضة الخطة.
وقدَّمت كلٌّ من المغرب والإمارات والسعودية ومصر وسلطنة عُمان والبحرين دعماً حذراً للخطة باعتبارها نقطة انطلاق، ونحّوا جانباً إصرارهم التقليدي على حل تفاوضي يستند إلى خطوط الحدود التي كانت قائمة قبل حرب 1967 بين إسرائيل والعرب.
ولكن رفضت جامعة الدول العربية، المؤلفة من 22 دولة، رسمياً الخطة يوم السبت الماضي 1 فبراير/شباط.
وقال مسؤول أمريكي كبير، الأحد 2 فبراير/شباط، إنَّ بياناتٍ سابقة للجامعة العربية "استرضت القيادة الفلسطينية ولم تؤدٍّ إلى سلامٍ أو تقدم".
التضارب الإسرائيلي في تنفيذها لرفع الحرج عن العواصم العربية
أثار إعلان خطة ترامب الثلاثاء الماضي 28 يناير/كانون الثاني جدلاً وارتباكاً، حين قال نتنياهو إنَّ إسرائيل ستُقدِّم مقترحاً لضم مناطق محتلة في الضفة الغربية كي تصوّت الحكومة عليه في مقبل الأيام.
وقال فريدمان، السفير الأمريكي لدى إسرائيل، في إحاطةٍ صحفية ذلك اليوم، إنَّ إسرائيل يمكنها التحرك فوراً بناءً على مطالباتها الإقليمية. لكن يوم الأربعاء، قال فريدمان إنَّ لجنة أمريكية – إسرائيلية سيتعين أن توافق على التغييرات الإقليمية أولاً.
وقال كوشنر إنَّ الولايات المتحدة تريد من إسرائيل الانتظار إلى ما بعد انتخاباتها في مارس/آذار المقبل قبل أي عملية ضم للأراضي. وقالت حكومة نتنياهو إنَّها ستؤجل أي تصويت على المسألة.
وقال دبلوماسيون آخرون اطلعوا على الخطة إنَّ الرسائل المتضاربة بشأن خطط إسرائيل لضم الأراضي كان الهدف منها الإبقاء على الدعم القادم من العواصم العربية والأوروبية التي لم ترغب في أن يُنظَر إليها باعتبارها تدعم حملة لضم الأراضي.
هل توقعوا غضباً أقل من السلطة الفلسطينية؟
وقال المسؤولون إنَّه بالنظر إلى دعم إدارة ترامب لإسرائيل، أدرك كوشنر وفريقه أنَّ الفلسطينيين سيرفضون الخطة.
لكنَّهم قلّلوا من عمق الغضب الفلسطيني حيال اعتراف ترامب في 2017 بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وهو ما دفع رئيس السطة الفلسطينية محمود عباس لقطع العلاقات مع الولايات المتحدة.
قال غرينبلات في مقابلة: "كنتُ متفاجئاً من مدى استعدادهم لقطع العلاقات. كنتُ أظن أنَّ عودتهم للمباحثات ستستغرق من 6 إلى 12 شهراً، لكن هذا لم يحدث".
مع ذلك، واصل فريق ترامب محاولة التواصل مع الفلسطينيين، ونقل رسائل للمسؤولين عبر حلفاء آخرين. وأبقى فريق خطة السلام على اتصالٍ مع شبكة من قادة الأعمال والقادة المدنيين الفلسطينيين.
وقال نبيل أبو ردينة، المتحدث باسم عباس، في مقابلة بشأن عملية السلام في وقتٍ سابق من هذه السنة: "قلنا لا نستطيع الحديث مع أيّ كان، إذا كانت القدس خارج طاولة التفاوض، فأمريكا خارج الطاولة كذلك".
والتقى غرينبلات، خلال زيارة شخصية للقدس في يناير/كانون الثاني الماضي، بزاهي خوري، وهو رجل أعمال فلسطيني أمريكي يدير فرع شركة كوكاكولا في الضفة الغربية وغزة.
وقال خوري، في مقابلة بمكتبه في رام الله، إنَّ غرينبلات وآخرين حثوا الفلسطينيين على أن يكونوا منفتحين، لكنَّ سياسات الإدارة تجعل ذلك صعباً.
وقال إنَّه يحاول أن يبقى متفائلاً، لكنَّني "لا أرى أيَّ فن لعقد الصفقات".