عادت محافظة درعا جنوب سوريا إلى المشهد من جديد، بعدما ظهرت فيها بوادر مقاومة جديدة ضد نظام بشار الأسد، الذي أعاد السيطرة عليها في يوليو/تموز 2018، بعد معارك طويلة خاضها ضد قوات المعارضة.
استعاد النظام السيطرة على المحافظة التي تُعتبر مهد الثورة على الأسد، بعد التوصل إلى ما بات يُعرف في سوريا بـ "اتفاقيات التسوية"، حيث يعود النظام للسيطرة على المؤسسات هناك، ويرفع أعلامه عليها، وينصب حواجزه العسكرية في المنطقة، وأبرز ما كانت تنص عليه تلك الاتفاقيات عودة التجنيد الإجباري لأبناء المناطق التي دخلت في "التسوية" بعد رفضهم للقتال في صفوف جيش النظام لسنوات.
دخل النظام محافظة درعا وقد حوّل أجزاءً كبيرة منها إلى دمار، وأعاد سطوته الأمنية والاعتقالات التي تستهدف الشبان، تارة بدعوى سوقهم للخدمة الإلزامية في الجيش، وتارة أخرى لشكوك النظام في أنهم من المعارضين له.
بالإضافة إلى ذلك يزداد الاحتقان في المحافظة بسبب سوء الخدمات العامة، وعيش السكان على الحد الأدنى من متطلبات المعيشة.
مؤشرات على انفجار الوضع
لم يستطع نظام الأسد رغم اتفاقيات التسوية من سحب جميع الأسلحة التي كانت بحوزة المعارضة في درعا، فبعضها أُخفي تماماً ولا يعرف مكانها سوى أصحابها، كما أنه من غير الواضح بعد حجم الأسلحة المتبقية بأيدي السكان الذين قاتلوا الأسد سابقاً.
أصبحت هذه الأسلحة تستهدف من جديد قوات للنظام في درعا، ففي وقتٍ مبكر من مساء 11 يناير/كانون الثاني، اقتحمت مجموعةٌ من الرجال المسلحين نقطة تفتيش على مشارف بلدة ناحتة بريف درعا الواقع شرقي سوريا، واحتجزوا العشرات من عملاء المخابرات الجوية قبل أن يختفوا مجدداً في الليل.
وبعد ساعات من تلك الواقعة، شنَّ رجالٌ مسلحون هجوماً مماثلاً على نقطة تفتيش أخرى على بعد حوالي 10 كيلومترات جنوبي بلدة الكرك الشرقي كانت تحرسها القوات الموالية للحكومة، ومن جديد، احتُجِزَ مقاتلون وصودِرت الأسلحة.
في أعقاب الهجمات، بدأت الصفحات الإعلامية الداعمة للمعارضة السورية تنشر خطابات التضامن من البلدات الواقعة بأنحاء ريف درعا، وتحمل العديد منها الرسالة ذاتها التي كُتِبت على قصاصات ورق، وإلى جوارها مجموعة من البنادق والقنابل اليدوية، ونصّها: "نحن معكم حتى الموت".
ماذا يحدث في درعا؟
تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني أشار فيه إلى أن وقائع الاعتداء هذه ليست ليست سوى قصة واحدة في موجة متنامية من الاغتيالات، والغارات، ووقائع إطلاق النار من السيارات، وحوادث الاختطاف التي صارت سمة للحياة في المحافظة الواقعة جنوب غرب سوريا.
بالنسبة لنظام الأسد، فإن هذه التطورات تمثل أدلة مقلقة للغاية لها، في قدرتها على إعادة السيطرة على الأماكن المضطربة التي أعادت السيطرة عليها.
بالنسبة للبعض، فإن التصعيد الأخير بمستويات العنف والاضطرابات، إلى جانب وجود استجابة سياسية منظمة، بدأ يبدو وكأنه عصيان، ولعلَّه يشبه العلامات الأولى لتصعيد لطالما توقَّعه المراقبون منذ شهور.
لطالما كانت درعا بمثابة استثناء خلال الانتفاضة السورية.
فقد عُرِفت باسم "مهد الثورة" بعدما أجَّجَت الاحتجاجات التي اندلعت في مارس/آذار 2011 حركةً على المستوى الوطني ضد الرئيس بشار الأسد وحكومته، ويبدو أن كتائب الجيش السوري الحر في درعا كانت -في بعض الأحيان- في نظر المراقبين الخارجيين هي الأمل الأفضل لخلق سوريا مستقرة ديمقراطية بدون زعامة الأسد.
وإلى حدٍّ كبير، أبقت الجماعات المُعارِضة التي تشكل الجبهة الجنوبية التي يدعمها الغرب على المُسلّحين المتشددين الذين عثرت عليهم المعارضة في أماكن أخرى.
وقد ساعد الدعم القوي من الحلفاء الإقليميين، والمنظمات غير الحكومية الدولية، وعدد كبير من منظمات المجتمع المدني بالبلاد على خلق اقتصاد محلي في درعا، مستقر نسبياً مستقل عن الحكومة السورية.
ومع ذلك، في منتصف عام 2018، مع التقدم الذي أحرزه الجيش السوري على الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة في جميع أنحاء البلاد، حولت القوات الموالية للحكومة دفة اهتمامها نحو جنوب غرب البلاد.
على الرغم من أن التوقُّعات أشارت إلى عكس ذلك، فقد انهارت معارضة درعا في غضون أسابيع عبر مزيجٍ من القوة العسكرية الهائلة والتسويات التي جرى التفاوض عليها بشأن ما تبقَّى من الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون.
وقد أودت عمليات الاعتقال، والاختفاء، والقتل بحياة متمردين سابقين، ونشطاء، وغيرهم ممن شاركوا في الحكم في درعا في عهد المعارضة.
وحينها، بدأ معارضون سابقون أولى جولاتهم في التمرّد على مستوى منخفض، باستهداف ضباط الجيش السوري وأفراد المخابرات، والمشاركين في مفاوضات المصالحة، والمعارضين السابقين الذين يعتبرونهم خونة بسبب عملهم مع دمشق. إن تلك الاضطرابات سُرعان ما أعقبت انتهاء الصراع الفعلي في درعا، وأصبحت أكثر تهديداً للاستقرار المحلي من أي وقت مضى.
في عام 2019 وحده، وُثِقت ما لا يقل عن 305 محاولات اغتيال في جميع أنحاء محافظة درعا، وفقاً لمكتب توثيق الشهداء في درعا، وهو أحد مجموعات المراقبة المحلية. وطالت الاغتيالات ووقائع الاختطاف جميع الأطراف المشاركة في سياسة درعا الفوضوية بعد انتهاء الصراع.
تعيين رئيس مخابرات "لإضفاء الاستقرار" على درعا
وبينما استمرت أحداث العنف في تأجُّجها خلال العام الجديد، يبدو أن الحكومة السورية قد نفد صبرها أخيراً.
ومنذ الشهر الماضي، ديسمبر/كانون الأول، يعقد حسام لوقا، رئيس المخابرات، عدداً من اللقاءات مع أفراد درعا البارزين، حسبما أشارت تقارير وسائل الإعلام، ومصدرين مُطّلِعين.
ورغم أن تلك الخطوة لم تُعلن على الملأ، فقد ترقَّى للتوّ لوقا ليشغل منصب رئيس لجنة أمن درعا التي منحته صلاحيات للتنسيق على رأس جميع الأجهزة الأمنية في الجنوب الغربي.
واللجنة نفسها ليست جديدة؛ إذ تضم شخصياتٍ بارزة أخرى من فروع الأمن المحلي في الجنوب، بما في ذلك لؤي العلي، رئيس الأمن العسكري في جنوب سوريا، الذي يقال إنه على صلة وثيقة بحزب الله وإيران.
ولوقا هو رئيس وكالة المخابرات العامة السورية، وقد ترقَّى ليحل محل اللواء ديب زيتون في يوليو/تموز من العام الماضي. وكانت هذه الخطوة جزءاً من تعديل أوسع على مستوى القيادة الأمنية السورية خططه بشار الأسد نفسه.
وكان الاتحاد الأوروبي قد أدرج حسام لوقا، الذي ترجع أصوله إلى ريف حلب الجنوبي، على قائمة العقوبات في منتصف عام 2012 لدوره السابق في قيادة شعبة الأمن السياسي في حمص، حيث يُزعم أنه كان "مسؤولاً عن تعذيب المعارضين أثناء الاحتجاز"، وفقاً لما أورده الاتحاد الأوروبي.
وقال قائدٌ بارز رفيع المستوى في الجيش السوري الحر، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، إن لوقا يعمل منذ ذلك الحين على تهميش لجان المصالحة التي ما زالت دمشق تمتّعها بقدرٍ من الحكم الذاتي، في بعض مناطق درعا.
وأشارت جريدة زمان الوصل الإلكترونية المؤيدة للمعارضة أنه عندما التقى لوقا بممثلي لجنة المصالحة العام الماضي، قدم قائمة من المطالب انطوت على تسليم جميع الأشخاص المطلوبين وأسلحة الأفراد إلى الحكومة، والبدء في كبح المظاهرات.
وقال المصدر الذي تحدّث معه موقع Middle East Eye البريطاني من الجيش السوري الحر: إنه "بناءً على سلوك لوقا في الجنوب خلال الشهرين الماضيين، أعتقد أنه يحاول تقليص دور لجان المصالحة قدر استطاعته، إذ إنه لا يريد أن يكون لأي شخص أي تأثير باستثنائه. فهو يريد أن يمر كل شيء من خلاله لا سواه".
وفقاً لأحد الباحثين ممن على صلة بين المتمردين الخاضعين للمصالحة في درعا والمجتمعات المحلية، فقد أصبح حسام لوقا بمثابة وجه أكثر ترحيباً للحكومة منذ ذلك الحين.
وقال الباحث الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية إنه "قد وعد بالإفراج عن المحتجزين، ووقف الاعتقالات، ومحاولة التوسط لتوفير خدمة أفضل".
ويُزعم أيضاً أن لوقا قد طلب من أسر المحتجزين في درعا التعامل مباشرة مع مكتبه في المدينة، وليس عن طريق لجان المصالحة.
على النقيض من ذلك، رد المسؤولون الآخرون على أي معارضة أو نقد بالتهديدات والترهيب. وعندما سأل ممثلي المجموعات المحلية في درعا اللواء محمد محلا، وهو شخصية استخباراتية سورية بارزة أخرى، العام الماضي عن مصير المحتجزين، زُعِم أنه ردّ قائلاً: "انس أي شخص اعتُقِل قبل 2014".
وبالمثل، فإن جميل الحسن، رئيس إدارة المخابرات الجوية السورية السابق سيئ السمعة، سبق أن لوّح بتهديدات واضحة ضد المجتمعات المضطربة في درعا.
على الجانب الآخر، لم يلجأ لوقا للتخويف، بل يُزعَم أنه أثار ضجيجاً إيجابياً حول رغبته في إنجاز الأمور.
وأضاف الباحث أن لوقا فشل إلى حدٍّ كبير في مهمته حتى الآن. في الوقت نفسه، يبدو أن صبر المجتمعات المحلية في الجنوب الغربي آخذ في النفاد.
"أهل درعا لن يقبلوا الظلم"
بعد أسبوع من هجمات مجهولين على قوات النظام يوم 11 يناير/كانون الثاني، اجتمعت مجموعة من زعماء العشائر، وقادة المجتمع، والشيوخ، وقادة المتمردين من الجيش الحر في درعا البلد، ذاك النصف الجنوبي من مدينة درعا الذي كانت المعارضة تسيطر عليه من قبل.
ووقع هؤلاء ميثاقاً مشتركاً يدين سلسلة الاغتيالات ووقائع الاختطاف التي استهدفت المتمردين السابقين في المنطقة.
وجاء في بيانهم أن: "شعب درعا لن يقبل بالظلم والفساد وسيوحّد الجهود للقضاء على ما يسمونه بالفساد بجميع أشكاله".
وفي يوم الثلاثاء، التقى قادة المجتمع المحلي مرة أخرى ونشروا قائمة من 9 نقاط تنطوي على مطالب للحكومة السورية فيما يتعلق بموجة الاعتقالات والاختفاء، والحكم الذاتي المحلي، ومصير المعتقلين.
وحسبما قال أحد الموقّعين، أبوقصي الكراد، وهو شخصية بارزة سابقة في الجبهة الجنوبية للجيش السوري الحر، فإن "عمليات الاختطاف والقتل والاختفاء تتنامى، ونحن نوجه أصابع الاتهام مباشرةً إلى الجهاز الأمني التابع للنظام السوري".
ويأمل كراد في أن تصبح القائمة ميثاقاً ونموذجاً تحتذي به بقية أنحاء جنوب سوريا.
وقال في حديثه مع Middle East Eye: "لقد بدأنا في قلب مدينة درعا، ولكننا سنوحّد أرجاء الريف بالشرق والغرب أيضاً".
وفي الوقت نفسه، قال المصدر البارز من الجيش السوري الحر إنه من المحتمل أن تسجّل الحكومة السورية ملاحظاتها. ونتيجة لذلك، يتوقّع المصدر أن تستمر وكالات الاستخبارات في محاولة اختراق المجتمعات المحلية وتطيح بمن تشتبه في إثارتهم الشغب خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
وأضاف قائلاً: "كان هذا تحذيراً للنظام، وقد أخذه النظام بحقٍّ على محمل الجد".