لا أحد يشكك في أن الوضع الفريد لسلطنة عمان كطرف محايد وشبه معزول عن توترات وتجاذبات المنطقة كان مرتبطاً بشكل أساسي بشخص السلطان الراحل قابوس بن سعيد، فهل يتمكن خليفته السلطان هيثم بن طارق من مواصلة الدرب نفسه أم أن رحيل قابوس قد يشجع السعودية والإمارات على التدخل في شؤون السلطنة المحايدة؟
مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تقريراً، بعنوان: "الانتقال السلس للسلطة في عُمان لا يعني أنَّ جيرانها لن يفتعِلوا مشكلات"، ألقت فيه الضوء على تعقيدات الوضع الداخلي في السلطنة، ومعطيات الأوضاع الإقليمية وما قد ينتج عنها من تدخلات خارجية تزعزع استقرار عمان ما بعد قابوس.
انتقال سلس للسلطة
أشاد كثير من المراقبين بعملية الانتقال السلمية والشفافة للسلطة في عمان، التي شهدت تعيين هيثم بن طارق سلطان عمان خلفاً للسلطان قابوس في 10 يناير/كانون الثاني 2020. ونظراً إلى أنَّ السلطان قابوس لم يُعلِن عمن يخلفه، فضلت العائلة الحاكمة فتح مظروف مغلق يحوي اسم الشخص المفضل للسلطان، بدلاً من اختيار السلطان الجديد بأنفسهم.
ويبدو أنَّ اختيار السلطان قابوس لابن عمومته هيثم، الذي عمل سابقاً في وزارة الخارجية ومؤخراً وزيراً للتراث والثقافة، بدلاً من شقيقيه أسد وشهاب، وهما رجلان عسكريان، يعكس رغبته في استدامة دور سلطنة عمان وسيطاً في الدبلوماسية الإقليمية.
ومع ذلك، تظل عمان عرضة لعوامل زعزعة استقرار داخلية وخارجية، مع سعي السعودية والإمارات لتوسيع نفوذهما الإقليمي. أضف إلى ذلك، غياب الحلول الحاسمة لأسباب الاضطرابات الداخلية المحتملة، ومنها ارتفاع معدلات البطالة وعجز الموازنة وتراجع الاحتياطي النفطي، ويواجه السلطان هيثم عديداً من التحديات، حتى في غياب تهديد التدخلات الخارجية؛ غير أنَّ دول الجوار قد ترى وفاة قابوس فرصة فريدة لفرض أجنداتها التوسعية.
قابوس وسياسة الحياد
وعلى مدى عقود، أبقى السلطان قابوس عُمان في وضع المُحكِّم المحايد؛ وهو ما سمح لها بأداء دور الوسيط في النزاعات الإقليمية. لكن هذا الوضع واجه تحدياً عند اشتداد التنافس بين إيران والمملكة العربية السعودية في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والذي أنهى جهود العراق لموازنة النفوذ الإيراني في المنطقة، وأشعل مزيجاً ملتهباً من التنافس الجيوسياسي والطائفي.
عُمان رفضت السياسة السعودية
ومن وجهة نظر السعودية، يُشكِّل تسهيل التعاون مع إيران تحدياً لمصالح دول الخليج العربي: إذ أسهم التقارب الواضح لإيران في اتخاذ القرار السعودي والإماراتي القاضي بفرض حصار على قطر في عام 2017. لكن عمان تحدَّت هذا الحصار من خلال السماح للرحلات الجوية القطرية والشحن البحري بالعبور من وإلى مسقط وبقية الموانئ العمانية. إلى جانب ذلك، قاومت عمان محاولات المملكة العربية السعودية استخدام مجلس التعاون الخليجي أداةً لخدمة أجندتها للسياسة الخارجية. وتجلى هذا تحديداً عندما أعلن وزير الدولة العماني للشؤون الخارجية رفضه خطة الملك عبدالله لتحويل دول مجلس التعاون الخليجي إلى اتحاد خليجي في عام 2013. وكانت عمان هي الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تشارك في التدخل العسكري بقيادة السعودية في اليمن، والذي بدأ في عام 2015.
ودفعت شهرة سلطنة عمان بالحيادية وتاريخها في تيسير المفاوضات إدارة أوباما إلى طلب مساعدة السلطان الراحل قابوس في ترتيب اجتماعات سرية مع إيران في عامي 2012-2013، انتهت بتوقيع صفقة إيران النووية في 2015. لكن على الجانب الآخر، وصل السلطان هيثم إلى السلطة في وقت أشارت فيه إدارة ترامب، مراراً وتكراراً، إلى دعمها للمملكة العربية السعودية وكراهيتها لإيران. وفسر كثيرون اختيار مسؤولين أمريكيين منخفضي الرتبة، وإعلان أسمائهم متأخراً، لحضور الاحتفال الرسمي لتكريم السلطان قابوس، على أنه توجُّه مضاد للعمانيين. إذ في المقابل، أرسلت المملكة المتحدة الأمير تشارلز ورئيس الوزراء بوريس جونسون لتقديم التعازي.
وفي ضوء رغبة القادة السعوديين في أن يكون السلطان هيثم أكثر تقبلاً لخليج تقوده السعودية، وغياب الدعم الأمريكي، قد تشعر عمان بالضغط من أجل القبول أو مواجهة تداعيات محتملة. إذ أعرب المسؤولون العمانيون عن قلقهم من احتمال أن تكون عُمان الهدف التالي للحصار الذي تقوده السعودية والإمارات، ولكن عكس قطر، تفتقر عمان إلى الموارد المالية التي ستتيح لها الصمود في وجه أي حصار مماثل.
الرياض لا تهتم بتبعات سياستها العدوانية
وقد أبدت المملكة العربية السعودية بالفعل استعدادها للسعي لتحقيق أهدافها الجيوستراتيجية، بغض النظر عن الآثار المترتبة عليها. فعلى الرغم من أنها المُتسبِّبَة بالأزمة الإنسانية الأسوأ في العالم باليمن، استغلت السعودية وجودها العسكري هناك للإعلان عن اعتزامها بناء خط أنابيب يمر بمحافظة المهرة، وتشييد ميناء للنفط على الساحل اليمني. وتنقل السعودية شحناتها من النفط حالياً عبر مضيقَي هرمز وباب المندب، في حين سيسمح خط الأنابيب المُقترَح بالشحن المباشر إلى المحيط الهندي.
وترتبط محافظة المهرة اليمنية بصلات وثيقة مع منطقة ظفار العمانية المتاخمة، التي لطالما اعتبرتها عمان منطقة عازلة غير رسمية عن الاضطرابات في الأجزاء الأخرى من اليمن. وقدَّم السلطان قابوس مساعدات بالإضافة إلى الجنسية المزدوجة، لسكان المهرة؛ في محاولة للتصدي لاحتمال نشوب صراع آخر يشبه حرب ظفار في 1963-1976، التي حصل خلالها المتمردون على الدعم من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية من محافظة المهرة وعبر الحدود إلى ظفار. وتولى قابوس السلطة في منتصف تلك الحرب، وبعد هزيمة المتمردين في ظفار بمساعدة إيرانية وبريطانية، شدد على التنمية الاقتصادية بوصفها وسيلة لمنع الصراع في المستقبل وكسب ولاء الأعداء السابقين.
وعلى الرغم من أنَّ السعودية أرست وجودها في المهرة في عام 2017، بدأ التدخل الإماراتي هناك في عام 2015، بعد فترة وجيزة من بدء الأعمال العسكرية باليمن. وأعرب سكان المهرة عن إحباطهم من الوجود السعودي والإماراتي على أرضهم؛ بالنظر إلى أنَّ أعداء هاتين المملكتين المزعومين -الحوثيين وتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية- غير موجودين في المهرة. واعتُقِل يحيى السويري، الصحفي اليمني الذي كتب تقريراً عن الأنشطة السعودية والإماراتية بالمنطقة، في يوليو/تموز 2019، ولا يزال مكان وجوده مجهولاً.
الأجندة الخاصة للإمارات
وتصر السعودية على أنَّ الحوثيين يمثلون تهديداً كبيراً؛ ومن ثم لا يمكنها إنهاء الأعمال القتالية ضد اليمن حتى تنجح في تهدئتهم. وعلى الجانب الآخر، تعكس تصرفات الإمارات أنَّ تدخلها في اليمن يمثل لها حرباً اختيارية ووسيلة لتوسيع معاقل النفوذ في المنطقة. إذ فرضت الإمارات سيطرتها على جزيرة سقطرى اليمنية، حيث بنَت قاعدة عسكرية في محيط بيئي فريد من نوعه تحميه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو). وتشيِّد الإمارات أيضاً قواعد عسكرية في إريتريا وصوماليلاند، وذلك جزء من خطة لتطوير "سلسلة من الموانئ" ستسمح لها باستعراض قوتها وتجنب الضغط المحتمل من إيران في مياه الخليج.
وتشمل الطموحات الإماراتية الأخرى شبه جزيرة مسندم، وهي جيب عماني يشكل أضيق نقطة في مضيق هرمز. ويرتبط سكان شبه الجزيرة بعلاقات وثيقة مع الإمارات، إذ تتصل مسندم جغرافياً بإمارتَي رأس الخيمة والفجيرة، وليس بسلطنة عمان. وتعود سيطرة سلطنة عمان على هذه النقطة الاستراتيجية لتاريخ السلطنة حين كانت إمبراطورية تمتد أراضيها من جنوب باكستان إلى زنجبار.
وينبغي الإشارة إلى أنَّ مخططات الإمارات في منطقة مسندم ليست سرية. ففي الواقع، تتضح الطموحات الإماراتية تجاه شبه الجزيرة في خريطة موجودة بمتحف اللوفر أبوظبي، تعرض مسندم على أنها جزء من دولة الإمارات. ولم يجرِ ترسيم الحدود بين عمان والإمارات رسمياً إلا في عام 2008، لكن العمانيين يرون دائرة من التهديدات المحتملة الناشئة عن النشاط الإماراتي أو المخططات المحتملة في مسندم والمهرة وسقطرى.
شبكات تجسس؟
وازدادت المخاوف العمانية من النوايا الإماراتية في عام 2011؛ حين اعتُقِل عضو كبير بجهاز الأمن الداخلي العماني كان فرداً من شبكة تجسس جندتها أبوظبي. وأدى الإيقاع بشبكة تجسس أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، إلى تعميق شعور العمانيين بالخوف. ومن ثم، أصدر السلطان الراحل قابوس، في الشهر نفسه، مرسوماً ملكياً بمنع المواطنين غير العمانيين من امتلاك الأراضي بالمناطق الحدودية الاستراتيجية في عمان، وضمن ذلك مسندم وظفار، رداً على شراء مواطنين إماراتيين أراضي بتلك المناطق. وفي ديسمبر/كانون الأول 2019، حين كان قابوس في بلجيكا للحصول على الرعاية الطبية قبل وفاته بفترة وجيزة، سافر ولي عهد أبوظبي والحاكم الفعلي للإمارات، محمد بن زايد، في زيارة مفاجئة، إلى مسقط، وعاد قابوس بعدها سريعاً للسلطنة.
والآن مع رحيل السلطان قابوس، قد تشعر الإمارات بأنَّ السلطان العماني الجديد قد يكون أكثر تقبلاً للانحياز إلى الأهداف الإماراتية من سلفه. واحتفل الإماراتيون، على موقع تويتر، بتتويج السلطان هيثم بن طارق، ونشروا صوراً له وهو في الإمارات. يُذكر أنَّ هيثم حين كان رجل أعمال دخل في شراكات عديدة مع إماراتيين؛ وهو ما يميزه عن سلفه المنعزل.
لطالما كانت احتياطيات عمان النفطية محدودة مقارنة باحتياطيات جيرانها الأثرياء، وفشلت عمان في تنويع اقتصادها بشكل كبير. إلى جانب أنَّ الحصول على النفط المتبقي في سلطنة عمان يحتاج بالفعل وسائل متطورة ومُكلِّفة لاستخراجه. وكما هو الحال في عديد من الاقتصادات المعتمدة على النفط، ترتفع معدلات البطالة في عمان، خاصة بين الشباب. وطوال فترة حكمه، استخدم السلطان قابوس احتياطيات النفط في سلطنة عمان لتمويل إنشاء البنية التحتية وتوفير الخدمات الاجتماعية للسكان الذين يعانون فقراً مدقعاً، لكن سنوات من الرخاء شجعت على الفساد والهدر.
كيف تعامل قابوس داخلياً؟
وخلال الانتفاضة الشعبية عام 2011، التي شهدت خروج آلاف من العمانيين إلى الشارع لأول مرة، استخدمت الحكومة مدخراتها لتمويل زيادة هائلة في الرواتب الحكومية. وفي مقابلة أجراها عام 2015، قال أحد المسؤولين الحكوميين العمانيين في مسقط، إنَّ بعض المكاتب الحكومية أصبح لديها ثلاثة موظفين لأداء مهام رجل واحد؛ تلبيةً لطلبات المتظاهرين بالحصول على فرص عمل. وأوضح المسؤول أنه في حالة حدوث انتفاضة شعبية كبيرة أخرى، لن تكون لدى الحكومة أية أموال متبقية لتلبية احتياجات المواطنين؛ لأنها تعاني بالفعل عجزاً هائلاً. وفي الواقع، لا توجد موارد متوافرة لمحاولة تمويل عملية الانتقال الاقتصادي بعيداً عن النفط، يضاف إلى ذلك أنَّ انخفاض سعر النفط أعاق جهود الحكومة للوفاء بالتزاماتها.
مجمل القول، يرث السلطان هيثم سيناريو داخلياً صعباً، تزيده تعقيداً طموحات دول الجوار. وصحيح أنَّ إدارة ترامب أبدت قليلاً من الاهتمام بالسلطنة، إلا أنَّ صدور إشارة واضحة إلى دعم عمان من شأنه تقويض تهديدات زعزعة الاستقرار التي تشكلها الإمارات والسعودية. هذا إلى جانب أنَّ أي تدخُّل من دول الجوار أو انتفاضة داخلية سيجلب توترات إضافية إلى منطقة مضطربة بالفعل، يُحتمَل أن تجذب إيران للتدخل وتُعقِّد الجهود الأمريكية لإخراج نفسها من الشرق الأوسط. وبالنسبة لإدارة تزعم أنها تسعى إلى إنهاء حرب لا نهاية لها في المنطقة، فهذا سيناريو ينبغي لواشنطن أن تتجنبه.