بقدر ما كان حزنهم كبيراً على مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس، كان غضب الإيرانيين هائلاً أيضاً جراء حادثة سقوط الطائرة الأوكرانية فوق طهران.
لم يكن إسقاط الطائرة هو الذي أغضب الإيرانيين بهذا الشكل، بل ما سمعوه من قادتهم على مدار أيام، فالأكاذيب التي سمعوها جعلتهم يشكون في كل ما قاله النظام لسنوات.
فبعد ثلاثة أيام من الإنكار، وإصدار التقارير الخاطئة التي تفيد بأن الطائرة الأوكرانية التي سقطت يوم 8 يناير/كانون الثاني، في الأجواء الإيرانية، بالقرب من مطار الإمام الخميني بطهران، كان السبب وراء سقوطها خلل فني، اعترفت إيران أخيراً في 11 يناير/كانون الثاني، بمسؤوليتها عن إسقاط الطائرة.
وقال اللواء علي حاجي زاده، قائد القوة الجوية في الحرس الثوري الإيراني، إن الدفاعات الجوية التابعة للحرس هي المسؤولة مسؤولية كاملة عن إسقاط الطائرة بصاروخ أرض جو، معللّاً الأمر بأن الدفاعات كانت في حالة تأهب قصوى بعد الهجوم الصاروخي الإيراني على قاعدة عين الأسد بالعراق، التي تستضيف القوات الأمريكية العسكرية، رداً على اغتيال الولايات المتحدة لقائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني، في 3 يناير/كانون الثاني، بالقرب من مطار بغداد الدولي.
مظاهرات عفوية
ظلّت المؤسسة السياسية والعسكرية ووسائل الإعلام المحلية، لمدة ثلاثة أيام، في حالة إنكار تامة لوجود أي خطأ من قِبل الحرس الثوري تَسبَّب في إسقاط الطائرة، في تلك الأثناء تم تداول تقارير تابعة للاستخبارات الأمريكية، وأدلة من الحكومة الكندية تشتبه في أن صاروخاً إيرانياً أسقط الطائرة.
لكن بعد الاعتراف الإيراني، وأيام الإنكار والخداع، خرج طلاب جامعة أمير كبير بطهران لتأبين ضحايا الطائرة الأوكرانية، البالغ عددهم 176 شخصاً، أغلبهم من الإيرانيين، ومن هذا التأبين الرمزي انفجرت الاحتجاجات بشكل عفوي، لتمتد إلى عدد من الجامعات الإيرانية في مختلف المدن.
أمير، طالب بجامعة أمير كبير، وكان مشاركاً في تلك الاحتجاجات يقول لـ "عربي بوست": "خرجنا للاحتجاج على خداعنا طوال تلك الفترة، لن نسمح للمسؤولين بالكذب علينا مرة أخرى".
منذ مساء يوم السبت إلى الآن، خرج الآلاف من الإيرانيين للاحتجاج على ما سمّوه خداع المسؤوليين وكذبهم على الشعب الإيراني، رددوا شعارات مناهضة للحكومة، وللمرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، مطالبينه بالاستقالة.
قبل أيام قليلة أظهر الإيرانيون مشهداً يدلّ على وحدتهم في وجه التهديد الأمريكي لبلاده، في جنازة الجنرال قاسم سليماني، الذي قُتل على يد الولايات المتحدة، لكن سرعان ما تبدّلت مظاهر الوحدة والحزن على أهم قائد عسكري في البلاد، إلى احتجاجات مناهضة للنظام بأكمله.
الاستقالة ليست كافية.. نريد المحاكمة
قبل اعتراف قائد القوة الجوية عن مسؤولية قواته عن إسقاط الطائرة الأوكرانية، عملت جميع وسائل الإعلام المحلية والمسؤولون على نفي الأدلة الأمريكية والكندية حول سقوط الطائرة بسبب صاروخ إيراني، وفجاة تبدّل كل شيء.
انهال سيل من الاعتذارات والاستقالات بين صفوف الصحفيين في الوكالات الإخبارية، والتلفزيون الحكومي، معتذرين للشعب الإيراني عمّا وصفوه "بالكذب" على الشعب.
لكن إلى الآن لم يستقل أحد من كبار المسؤولين، أو حتى قائد القوة الجوية المسؤول الأول عن تلك المأساة، هتف المتظاهرون بأن الاستقالة ليست كافية، بل إنهم يطالبون بمحاكمة كل مَن تسبّب في هذه الحادثة، وكل مَن عرّض الشعب للخداع.
يقول أمير لـ "عربي بوست": "الشعب يتعرّض للخداع من قِبل النظام في كل شيء، إلى الآن لا نعلم كم شخصاً قُتل أو اعتُقل في أحداث نوفمبر/تشرين الثاني".
في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، شهدت إيران احتجاجات غير مسبوقة، اعتراضاً على قرار الحكومة بزيادة أسعار البنزين إلى ثلاثة أضعاف، قوبلت تلك الاحتجاجات بحملة قمع دموية من قبل القوات الأمنية.
تقول منظمة العفو الدولية إن عدد القتلى وصل إلى 300 شخص، كما تقول منظمات حقوقية غير حكومية داخل إيران إن عدد المعتقلين وصل إلى 8 آلاف.
إلى الآن تتعنت الحكومة في إصدار أي أرقام رسمية عن القتلى والجرحى، بالإضافة إلى المعتقلين، أو أي بيانات عن أماكن المعتقلين والتهم الموجهة إليهم.
هذا الأمر كان بمثابة الشرارة الأولى لإحساس المتظاهرين الإيرانيين حالياً بتعرضهم للخداع من قبل النظام.
الطلاب والطبقة الوسطى هما أبطال الاحتجاجات الحالية
شهدت إيران موجتين من الاحتجاجات الأولى في نهاية عام 2017، وبداية عام 2018، والثانية في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، كانت الطبقة العاملة والطبقات الفقيرة هي المسيطرة على تلك الاحتجاجات، التي طالبت في الأساس بمطالب اقتصادية، واختفى إلى حد ما المثقفون والطلاب من تلك المظاهرات.
لكن تلك المرة خرجت الاحتجاجات من الجامعات، ولم ترفع أي شعارات اقتصادية، فقط طالب المتظاهرون بإصلاحات جوهرية للنظام، ومساءلة كبار المسؤولين في الجمهورية الإسلامية، وعلى رأسهم آية الله علي خامنئي.
وهذا ما يذكرنا باحتجاجات عام 1999 التي أطلق عليها انتفاضة الطلاب ضد القوانين المقيِّدة لحرية الصحافة، و2009 التي قادها كبار القادة السياسيين الإصلاحيين فيما عرف باسم الحركة الخضراء، اعتراضاً على إعادة انتخاب الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد، في الانتخابات المتنازع عليها في العام نفسه.
مصمّمون على مواصلة الاحتجاج
لم تتوقف الاحتجاجات منذ الإعلان الإيراني عن إسقاط الدفاعات الجوية للطائرة الأوكرانية، بل انتشرت بيانات صادرة من روابط طلابية، تطالب المواطنين والطلاب بمواصلة الاحتجاجات، حتى تتم محاسبة المسؤولين عن تلك الكارثة.
تقول إحدى الطالبات المشاركة في الاحتجاجات التي خرجت من جامعة طهران، بشرط عدم الكشف عن هويتها، لـ "عربي بوست": "لا يمكننا العيش في ظل الفساد المنتشر في الدولة، يجب أن يكون هناك حد لكل تلك الأمور، يكفينا ما نعانيه من وضع اقتصادي متدهور".
تطالب الطالبة الإيرانية بضرورة أن يستمع لهم النظام، وأن تكون هناك بعض الإصلاحات في النظام السياسي والإداري، معتبرة أن سبب تدهور الأوضاع في إيران ليس فقط العقوبات الاقتصادية، أو التوتر بين طهران وواشنطن، بل هناك جزء كبير يعود إلى الفساد وتهرب المسؤولين من المُساءلة.
هناك آثار إيجابية للحادثة
بالرغم من الاحتجاجات المتواصلة إلى اليوم، والإنكار والخداع الذي تعرّض له الإيرانيون من قِبل المسؤولين، والخسائر المادية، وعدد الضحايا، إلا أن هناك من يرى في الأمر شيئاً إيجابياً.
يرى الباحث والمحلل السياسي المقيم في طهران باقر رستمي، أن اعتراف إيران بمسؤوليتها عن الحادث شيء إيجابي، فيقول "عدم مواصلة الإنكار، واختيار الاعتراف والاعتذار، وقبول الدول الأوروبية التي فقدت ضحايا في هذا الحادث للاعتذار الإيراني شيء إيجابي".
من وجهة نظر رستمي، فإن هذا التعاون بين إيران والدول الأوروبية التي لها صلة بالحادث (أوكرانيا، كندا، السويد) سيُخفّف من حدة التوترات بين الجمهورية الإسلامية والغرب، بشرط أن تكمل طهران الأمور بشكل جيد، وتنقل رفات الضحايا إلى بلدانهم، وتبدأ في تعويض عائلاتهم.
انعكاسات خطيرة
بينما هناك من يرى شيئاً من الإيجابية في الحادث، مثل السيد رستمي، هناك أيضاً من يراقب الوضع في الداخل بشيء من القلق. ويرى أنه سيكون لحادث تحطم الطائرة انعكاسات خطيرة على الداخل الإيراني.
يجادل البعض داخل إيران بأنه لو كانت الحكومة الإيرانية قد اعترفت من البداية بإسقاطها الطائرة الأوكرانية، دون التورُّط في الكذب والإنكار لمدة ثلاثة لكان الوضع مختلفاً الآن، وربما كانت قد حافظت على مشاهد الوحدة التي ظهرت في جنازة قاسم سليماني.
لكن إخفاء المسؤولين في طهران للأدلة، وتجنب الاعتراف بالمسؤولية، وتوريط وسائل الإعلام بإشراكها في هذا الخداع، هو ما أوصل الأمور إلى خروج الناس للاحتجاج، وتأزّم الوضع.
الآن يريد المحتجون محاسبة المسؤولين المتورطين في هذا الحادث، وإحالتهم للقضاء، ومن بينهم قائد القوة الجوية التابعة للحرس الثوري، الذي صرّح بأنه يتحمّل المسؤولية عن الحادث بشكل شخصي، ويقبل بأي أمر تفرضه عليه القيادة العليا.
يريد الإيرانيون أيضاً اتخاذ إجراءات جادة لمنع تكرار تلك الحادثة مرة أخرى في المستقبل، يقول الصحفي الإيراني مجتبى فتحي لـ "عربي بوست": "كيف يمكن لدولة تحترم شعبها، وتثمن أرواح الناس أن تقوم بهجوم صاروخي كبير، ولا تنسق مع منظمة الطيران المدنية، لتمنع تحليق الطائرات في ذلك الوقت، أو تمنع الطيران في اليوم بأكمله".
ويرى المحللون الإيرانيون أن أمام النظام الإيراني للخروج من تلك الأزمة خيارين، الأول يتمثل في محاسبة جادّة وعاجلة لكل المتورّطين في الحادث، والخيار الثاني هو إظهار اهتمام النظام بضحايا الحادث، على سبيل المثال إعلان الحداد الوطني، وجنازة كبيرة، مثلما تعامَل النظام مع مقتل قاسم سليماني، لكي لا يشعر الإيرانيون أنهم في آخر قائمة اهتمامات النظام.
يرى مجتبى فتحي، الصحفي الإيراني المستقل والمقيم في طهران، أنه يجب على المرشد الأعلى الخروج والاعتذار للناس عن كل ما حدث من بداية سقوط الطائرة، "كان لا بد أن يعتذر بالأمس، الوضع خطير، وإذا تم تجاهله فسينهار كل شيء".
قطاعا السياحة والطيران ضحايا أيضاً
لقد كان للأحداث الماضية منذ بداية العام الجديد إلى اليوم الذي سقطت فيه الطائرة الأوكرانية في إيران آثار كبيرة على الاقتصاد الإيراني، بجانب العواقب السياسية.
في أعقاب حادثة سقوط الطائرة ألغت بعض شركات الطيران رحلاتها إلى إيران والعراق، مثل شركة لوفتهانزا الألمانية، التي علّقت رحلاتها إلى طهران، حتى يوم 20 يناير/كانون الثاني على الأقل.
كما غيّرت بعض شركات الطيران التابعة للخطوط الجوية الفرنسية، والنرويجية، والماليزية، والأسترالية اتّجاهها، متجنّبة المجال الجوي الإيراني، والعراقي أيضاً.
يقول غلام علي جهانجيري، نائب مدير شركة التأمين المركزية في إيران، إن إلغاء الرحلات الجوية، وتجنّب السماء الإيرانية سيُعرّض الشركة الوطنية للطيران المدني لخسائر تُقدر بمليارات الدولارات، بجانب دفع الحكومة الإيرانية 70 مليون دولار كتعويض لأوكرانيا عن الطائرة، ناهيك عن التعويضات الأخرى التي ستُدفع لأسر الضحايا.
أما قطاع السياحة، الذي يحاول النهوض وتطوير نفسه لكي يصبح أداة قوة في الاقتصاد الإيراني المتدهور، فقد تعرّض لضربة كبيرة، بسبب حادثة سقوط الطائرة الأوكرانية.
يقول حرمت الله رفيعي، رئيس جمعية مكاتب السفر والسياحة لـ "عربي بوست"، "ألغيت الرحلات القادمة من الولايات المتحدة وكندا بنسبة 100%، والقادمة من أستراليا بنسبة 80%، أما الآتية من آسيا فقد ألغيت بنسبة 60%".