خلال السنوات القليلة الماضية، همَشت إيران الولايات المتحدة في الأزمة السورية من خلال جولات المفاوضات المختلفة، وأشركت في المقابل تركيا وروسيا. وهذه السابقة الناجحة قد تُجسِد النموذج الإيراني لطرد الولايات المتحدة من المنطقة. ومع ذلك، رغم أن حلفاء إيران يفضلون ذاك المشروع، فإنه يواجه تغييرات عسيرة متعددة، وليس من السهل أن تشارك تركيا أو روسيا في هذه اللعبة.
بخلاف ما آلت إليه التوترات بين إيران والولايات المتحدة من بلوغها أعلى مستوياتها في التاريخ، قد أفسح اغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني بطائرة مُسيَّرة أمريكية، الساحة لمجموعة مكتملة الأركان من التطورات في الشرق الأوسط. ولكي تثأر إيران لمقتل رجلها القوي ذي الشعبية، تأمل تحقيق طموح لطالما راودها، وهو طرد الجيش الأمريكي من المنطقة.
هل تنجح إيران في ذلك؟
يقول موقع Al-Monitor البريطاني، إن واقعة استهداف سليماني بطائرة مسيَّرة خارج مطار بغداد الدولي ربما تسفر عن عواقب وخيمة بالمنطقة. فبعد تجاوز الصدمة الأولى، سرعان ما حددت إيران أجندة سياستها الخارجية المعنيَّة بالانتقام وأعلنتها على الملأ. وتولى إسماعيل قاآني قيادة فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني خلفاً لسليماني. وقال القائد الجديد في تصريحات للصحفيين عقب صلاة الجنازة على جثمان القائد الراحل، يوم 6 يناير/كانون الثاني، إن العقاب الحقيقي لن يتحقق إلا بطرد الولايات المتحدة من المنطقة، وردد جنرالات وسلطات مدنية أخرى الموقف ذاته، في إشارة إلى أن طهران لن تتردد في إنجاز تلك المهمة.
وخلال السنوات القليلة الماضية، همشت إيران الولايات المتحدة في الأزمة السورية من خلال مفاوضات أستانا، وأشركت في المقابل تركيا وروسيا. وهذه السابقة الناجحة قد تُجسِّد النموذج الإيراني لطرد الولايات المتحدة من المنطقة. ومع ذلك، رغم أن حلفاء إيران يفضلون ذاك المشروع، فإنه يواجه تغييرات عسيرة متعددة.
هل تشارك روسيا وتركيا في هذه اللعبة؟
يقول موقع المونيتور، إن روسيا، التي صارت لاعباً أكثر هيمنة في الحسابات الأمنية والعسكرية بالشرق الأوسط، ستبتهج لرؤية عرض منكبي منافِستها الرئيسية الولايات المتحدة وهي تغادر المنطقة. ولقد مضت تركيا في مسار تحقيق أهدافها بسوريا، إذ حوَّلت دفة سياستها من التعاون مع الولايات المتحدة إلى التعامل مع إيران وروسيا.
ورغم ذلك، لا يبدو أن أنقرة تؤيد التصعيد مع واشنطن؛ إذ أخفقت كل من تركيا وروسيا في إدانة اغتيال سليماني رسمياً؛ بل بالكاد أعربتا عن قلقهما من العواقب المحتملة. وفي محادثة هاتفية مع دونالد ترامب، أبدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قلقاً إزاء مقتل سليماني، إثر "التوترات الإقليمية المتفاقمة"، ولأن الأمر كان "صدمة".
وعلى صعيد آخر، خلال مقابلة تلفزيونية، ألقى أردوغان الضوء على قدرة بلاده على حل الأزمة، قائلاً: "إننا في تركيا قد بذلنا -وما زلنا نبذل- جهوداً كثيرة للسيطرة على هذا الصراع والتصدي له عن طريق السبل الدبلوماسية". وأكد الرئيس التركي الحاجة إلى وقف التصعيد، محذراً من أن التوترات الأمريكية-الإيرانية طويلة الأمد قد تشكل خطراً على العراق والشرق الأوسط على نطاق أكبر.
"لا يخدم مصالح أنقرة"
لكن إلى أي مدى يمكن أن يوجه الانسحاب الأمريكي تركيا نحو أهداف سياستها وإطارها الأمني المنشود في المنطقة؟
السفير الإيراني السابق لدى الأردن، نصرات الله طاجيك، قال في حديث لموقع Al-Monitor: "ليس هناك تأكيد بأن الانسحاب الأمريكي سيخدم مصالح أنقرة، فبالنظر إلى عضويتها في الناتو والعلاقات الوثيقة التي تربطها بالولايات المتحدة، تبدو تركيا مترددة في المشاركة بهذه اللعبة".
وفي الوقت نفسه، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال مباحثات أجراها بشأن حادث الاغتيال، مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، إنَّ تفاقم التوترات الإقليمية كان نتيجة فورية لمثل هذه الخطوة. وانتقدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، الولايات المتحدة على خلفية "مقتل ممثل لحكومة دولة ذات سيادة"، وأشارت إلى أن الهجوم كان بعيداً كل البعد عن أي أساس قانوني.
وقال طاجيك: "لست متأكداً مما إذا كانت تركيا ستستفيد من انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، ونظراً إلى أسباب مختلفة، على غرار عضويتها في الناتو وقربها من الولايات المتحدة، ربما لن تكون تركيا مهتمة باللعبة".
وتابع: "تعدّل روسيا تفاعلاتها مع الولايات المتحدة وتوازنها، لتبلغ مستوى مختلف، وليس بالضرورة فيما يتعلق بإيران. لكن يبدو أن الانسحاب الأمريكي من العراق وسوريا لن يكون مقبولاً إلا من خلال إرادة شعب هذين البلدين وتوطيد وحدة أراضيهما، وتعزيز الحكومة في بلديهما لا عن طريق تحالف أجنبي".
وقال طاجيك: "سيأتي هذا النمط بفرصة أكبر لكسب الدعم من الجمهور والمجتمع الدولي، بالإضافة إلى اللاعبين الرئيسيين، ومن بينهم الولايات المتحدة ودول أخرى في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية".
إيران تستهلك طاقاتها الدبلوماسية مع حلفائها الإقليميين
وفي أعقاب الاغتيال، شدد مسؤولون إيرانيون على أهمية انسحاب الولايات المتحدة من العراق وسوريا؛ فبعد ساعات فحسب من الضربات الصاروخية الإيرانية الانتقامية التي استهدفت قاعدتين أمريكيتين في العراق يوم 8 يناير/كانون الثاني، وصف المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي تلك العملية بأنها "صفعة" على وجه الولايات المتحدة. ولكنه قال: "الأمر الأكثر أهمية في هذه المواجهة هو حتمية انتهاء الوجود الأمريكي في المنطقة، وهذا لن يتحقق من خلال السبل العسكرية فحسب". وفي اليوم نفسه، قال الرئيس حسن روحاني في اجتماع لمجلس الوزراء بالعاصمة طهران، إن الثأر الحقيقي سيتحقق عندما تنقطع "أقدام الولايات المتحدة عن المنطقة".
وإذا كان للانتقام أن يتحقق من خلال قنوات غير عسكرية، فسيتعين على إيران التعاون مع أصدقائها الإقليميين. قال الصحفي سيافاش فلاح بور إنه على الرغم من أن روسيا وتركيا لديهما القدرة على مساعدة طهران في دفع الولايات المتحدة إلى الخروج من المنطقة، لم يُظهر أيهما استعداداً لفعل ذلك.
وقال في حديثه مع Al-Monitor": "في الواقع، أمام موسكو وأنقرة على حدٍ سواء، طريقٌ طويلٌ قبل أن تبلغا النقطة التي يتسنى لهما عندها التصدي للوجود الأمريكي بالشرق الأوسط، ومع ذلك، فلا شك في أن عملية أستانا أظهرت عدم كفاءة واشنطن في حل أزمات الشرق الأوسط. وهذه فرصة يتسنى لدول المنطقة اغتنامها".
من جانبه، قال دبلوماسي إيراني رفيع المستوى لـAl-Monitor، إن استهلاك إيران طاقاتها الدبلوماسية مع حلفائها الإقليميين جعل رحيل الولايات المتحدة أمراً واقعاً. وأضاف المصدر: "في أعقاب اغتيال الجنرال سليماني، كانت إيران على تواصل وثيق مع حلفاء مثل العراق وتركيا وروسيا، إذ كانت تؤكد تأكيداً صارماً الحاجةَ إلى الانسحاب الأمريكي، كذلك، أثبتت عملية أستانا لتلك البلدان، أنه من الممكن حل المشكلات الإقليمية من خلال التعاون الإقليمي بدلاً من التدخل الأمريكي. لا تتضح حالياً معالم خاتمة الأمور، ولكن الجمهورية الإسلامية تنغمس في أنشطة دبلوماسية لتنفيذ نهجها الهادف إلى طرد الولايات المتحدة من المنطقة".
في النهاية، فإنَّ سبيل الثأر لاغتيال سليماني ليس ممهَّداً، وإن كان لهذا الهدف أن يتحقق من خلال القنوات غير العسكرية، فلا يمكن أن تعتمد إيران بالكامل على القوى الشيعية ذات العقلية المشابهة لها في العراق ولبنان، أو حكومة بشار الأسد بدمشق؛ بل سيتعين على طهران أن تنال دعم أنقرة وموسكو أيضاً. ومن زاوية مختلفة، يمكن أن تسدد وفاة سليماني ضربة قاسية إلى النفوذ الإقليمي لإيران، وهو خبر ربما لا يعد حزيناً لتركيا وروسيا.