بعد الابتعاد عن شفا الحرب، من المرجح أنَّ قادة الولايات المتحدة وإيران يقيّمون الآن مكاسبهم وخسائرهم التي خرجوا بها من صراع مستمر منذ 20 شهراً.
وسعياً نحو تهدئة التوترات، وإدراكاً لمدى الضغوط السياسية الداخلية، أعلن كل طرف فوزه في هذا الصراع.
لكن يقول محللون إنَّ التقييمات الحيادية قد لا تكون بهذا القدر من الإيجابية، بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
المحصلة صفر!
منذ انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاقية النووية الإيرانية، وفرض عقوبات طاحنة على الاقتصاد الإيراني في مايو/أيار 2018، بدأت دوامة من الأعمال الانتقامية التصعيدية، عانت على إثرها الدولتان من خسائر متعاقبة على جميع الجبهات المشمولة في الصراع.
ويقول المحللون إنه بالرغم من أنَّ كل طرف حقق مكاسب، فقد كانت متواضعة بالمقارنة بالصراع؛ إذ أعطت الانتصارات الظاهرية انطباعاً بأنها أضرت بالجانب الآخر، لكن من دون تحقيق مكاسب واضحة وملموسة.
ومن ثَم، جاءت "المحصلة صفر"، بحسب داليا داسا كايي، مديرة مركز سياسات الشرق الأوسط في مجموعة RAND Corporation غير الحزبية للأبحاث.
وقالت إنه بالرغم من أنَّ الصراع يبدو أبعد ما يكون عن الانتهاء، وقد يستغرق انكشاف تداعياته بالكامل عدة أشهر وربما سنوات، فإلى الآن "فاتورة الصراع التي سيتكبدها كلاهما تبدو سيئة".
وشهدت الولايات المتحدة انتكاسات أكثر من نجاحات في سبيل تحقيق طموحاتها بتشديد القيود المفروضة على البرنامج النووي الإيراني، وإنهاء استخدام إيران للوكلاء المسلحين، والأهم من ذلك كله، تغيير ميزان القوى في الشرق الأوسط على حساب إيران.
وفي المقابل، كان أداء إيران أفضل قليلاً، وتمثلت أهدافها في ضمان نشر نفوذها في المنطقة، فضلاً عن إنقاذ نافذتها الدبلوماسية الدولية والتخفيف من العقوبات الاقتصادية التي منحتها إياها الصفقة النووية، إلى أن انسحب ترامب منها.
وتُمثِّل هذه الحلقة المستمرة منذ ما يقرب من عامين درساً في حدود نظريات الصراعات ذات المجموع الصفري، التي ترى أنَّ خسارة أحد الخصوم تعني يقيناً مكسبَ الآخر. لكن في هذه الحالة، يشير حساب المكاسب والخسائر الرئيسية لكل جانب، المُجمَّع أدناه، إلى أنه عند كل منعطف تقريباً، انتهى التصعيد الأمريكي – الإيراني بكل جانب إلى وضع أسوأ.
معاناة الشرق الأوسط
يعود الجزء الأكبر من النزاع لمساعي واشنطن للحد من استخدام إيران للقوات بالوكالة والتصدي لنفوذها المتزايد في المنطقة.
ومن الصعب تحديد المكاسب الأمريكية الملموسة في هذا الصدد.
ولم تنجح التحركات الأمريكية إلى الآن في منع إيران من استخدام قوات بالوكالة أو إقناعها بالتراجع عن تدخلاتها في أنحاء المنطقة. فعلى العكس، ما حدث هو أنَّ طهران كثَّفت من استخدام الجماعات بالوكالة. وربما تكون التهديدات قد عززت من إيمان طهران بأنَّ معركتها مع الولايات المتحدة هي معركة وجودية؛ مما يضطرها للقتال بكامل قوتها.
وعلى الرغم من الأهمية الصادمة لقرار واشنطن بقتل اللواء قاسم سليماني، القائد العسكري الأعلى لإيران، فإنَّ هذا لم يُحدِث تغييراً ملموساً في السلوك الإيراني أو توازُن القوى الإقليمي.
وفي هذا الصدد، كتبت المحللة الإسرائيلية داليا شيندلين، في موجز سياسي لمؤسسة Century Foundation البحثية: "لا تؤدي الاغتيالات بحد ذاتها إلى القضاء على التهديدات أو المعضلات الاستراتيجية والسياسية طويلة الأجل".
وأضافت: "لا يوجد بديل عن الحل السياسي".
وفي المقابل، جاءت الخسائر الأمريكية في المنطقة نتيجة لذلك القرار شديدةَ الوضوح.
إذ دفع قتل الجنرال سليماني على أرض العراق بالبرلمان العراقي إلى إقرار مشروع قانون يطالب القوات الأمريكية بمغادرة البلاد. وربما لا يزال من غير الواضح ما إذا كان الأمريكيون سيغادرون في نهاية المطاف، لكن يبدو أنَّ علاقة واشنطن ببغداد تضررت بشدة.
ونتيجة لتلك الاضطرابات، خيَّمت حالة من الشكوك على جهود محاربة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" التي تقودها واشنطن.
ومن جانبهم، سعى حلفاء الولايات المتحدة في الخليج، مثل المملكة العربية السعودية، الذين يخشون على ما يبدو من الانجرار إلى صراع أوسع، إلى التهدئة مع طهران. ومن ثَم، لم يبقَ أمام الولايات المتحدة سوى عدد أقل من الشركاء للتعاون معها في احتواء النفوذ الإيراني.
ومع ذلك، تبقى مكاسب إيران في المنطقة مجرد نظريات في أغلبها، حتى وإن كانت مرجحة.
إذ يمكن أن تملأ طهران الفراغ الذي ينشأ عن انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، أو الصدع الدبلوماسي بين واشنطن وبغداد، لكن لم يُترجَم ذلك على أرض الواقع إلى الآن.
وكان غضب الشارع العراقي من النفوذ الإيراني المتزايد في بلادهم قد وصل لمستويات عالية بالفعل قبل الأسابيع الأخيرة من الصراع. ثم جاء رد إيران على مقتل الجنرال سليماني، بإطلاق صواريخ على قاعدتين عسكريتين في العراق تضمان جنوداً أمريكيين، الذي خلا من أي احترام للسيادة العراقية.
وفي إيران، أدت وفاة الجنرال سليماني إلى تدفق المشاعر القومية في أنحاء البلاد، إلا أنه في ظل حالة الفوضى التي يعاني منها الاقتصاد الإيراني، ترجح داليا كايي أن يكون ذلك مجرد فورة مؤقتة في النزعة القومية. وأوضحت: "لا تزال الضغوط الداخلية ومخاطر الاضطرابات قائمة".
تتركز الخسائر الإيرانية حول وفاة الجنرال سليماني، الذي كان شخصية بارزة في حملات إيران لإعادة تشكيل الصراعات والسياسات في الشرق الأوسط لصالحها.
وكتبت المحللة داليا شيندلين أنَّ اغتيال سليماني "سيضر بالتأكيد ببعض مشاريعه الرئيسية"، لكن ليس هناك سبب وجيه للاعتقاد بأنَّ إيران ستغيّر سلوكها في المنطقة؛ إذ تُعتبَر الأجهزة العسكرية والاستخباراتية في إيران من التطور والضخامة بحيث لا تؤدي وفاة شخص إلى إحداث تغيير جذري في سياسة البلاد.
وإجمالاً، يبدو أنَّ الخطوط العريضة لسياسات القوة في الشرق الأوسط ما زالت صامدة. ربما ضعفت الولايات المتحدة وإيران إلى حد ما، لكن لم تقترب أيٌّ منهما من أهدافها الرئيسية.
الملف النووي
انسحب ترامب من الاتفاق النووي لعام 2015 زاعماً أنَّ إيران تسعى لبناء سلاح نووي، وهي المزاعم التي تتناقض مع آراء المفتشين الدوليين وقادته العسكريين والاستخباراتيين. وتعهد ترامب بردع هذه الجهود الإيرانية وفرض قيود أشد من تلك الموجودة في الاتفاق الأوّلي.
ومنذ ذلك الوقت، تركز إيران على إعادة تحسين العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية التي كان من المفترض أن يوفرها اتفاق عام 2015.
ولم تتحقق بعد المكاسب الأمريكية في القضية النووية؛ إذ لا تزال إيران بعيدة تماماً عن الامتثال لقيود نووية أشد من تلك المنصوص عليها في اتفاق عام 2015.
لكن الخسائر الأمريكية تتزايد.
ردَّت إيران، في بعض الأحيان، على التصعيد الأمريكي بإعلانها أنها لن تمتثل لبعض القيود النووية. وفي حين أنَّ إيران لم تتخذ حتى الآن سوى خطوات فعلية بسيطة نحو تطوير برنامج نووي أكبر، إلا أنها ستواجه قيوداً أضعف إذا ما قررت ذلك.
إذ تفكَّك التحالف الدولي الذي تفاوَض على الاتفاق مع إيران، وكان من المفترض أن يشرف على تنفيذ الاتفاقية، تاركاً واشنطن تسعى إلى فرض وضع جديد بمفردها، وهو الأمر الذي احتاج لتنفيذه في المرة السابقة عملاً مشتركاً من القوى الكبرى في العالم.
إلى جانب ذلك، قد يؤدي قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق إلى خلق حالة تردُّد لدى طهران وغيرها من الخصوم الأمريكيين إزاء تقديم أية تنازلات نووية في المستقبل.
وفي هذا الصدد، قالت إليزابيث سوندرز، عالمة سياسية بجامعة جورج تاون: "لم يتضح بعد ما مدى المصداقية التي تتمتع بها الولايات المتحدة لعقد اتفاقية لمنع الانتشار النووي مع عدو.. هل يمكن لأي شخص أن يدخل معنا في اتفاق يشبه صفقة إيران مرة أخرى؟".
ومع ذلك، تبدو المكاسب الإيرانية أبسط مما عليه.
صحيح أنَّ إيران استغلت الغضب الدولي من انتهاج واشنطن سياسة "حافة الحرب" للإفلات من بعض الالتزامات النووية من دون إثارة أزمة، لكن تصريحات طهران وتحركاتها تشير بقوة إلى أنَّ هدفها الأساسي لا يتمثل في امتلاك سلاح نووي، وإنما استعادة المزايا الاقتصادية والدبلوماسية التي توفرها الصفقة. وربما كانت إيران تأمل في أن يؤدي تكثيفها للضغط إلى دفع المجتمع الدولي لتحقيق ذلك، إلا أنه من الواضح أنها لم تقترب أبداً من هذا الهدف.
وتبدو خسائر إيران هنا أكبر؛ إذ يئن اقتصادها تحت وطأة العقوبات، في الوقت الذي تتفاقم فيه الاضطرابات الداخلية.
إلى جانب ذلك، أبعدت التهديدات الإيرانية والهجمات بالوكالة طهران عن القوى الأوروبية التي كانت تأمل أن تضغط على الأمريكيين للتراجع عن موقفهم من الاتفاق النووي. وانهارت جهود بقيادة فرنسا في الخريف الماضي لتسليم إيران 15 مليار دولار في صورة خطوط ائتمان، مقابل عودة البلاد إلى شروط الاتفاق النووي، بسبب المعارضة الأمريكية.
وقالت داليا كايي: "لست متأكدة من حجم التعاطف الدولي الذي تتمتع به إيران حقاً، ومع ذلك فالولايات المتحدة نفسها أبعدت الكثير من الشركاء الدوليين أيضاً؛ لذا قد يكون ذلك مقبولاً".
ونتيجة لذلك، أصبحت كل من الولايات المتحدة وإيران أبعد ما تكونان الآن عن جوانب الاتفاقية النووية لعام 2015 التي جمعتهما معاً وجذبتهما للتوقيع عليها.
لكنهما، بدلاً من ذلك، تتجهان نحو سيناريو يجمع بين أسوأ مخاوف كل طرف: العقوبات القاسية والعزلة الدولية لإيران، مقابل قيود ضعيفة أو غير الموجودة على برنامجها النووي.
وتؤكد هذه المخاطر أنَّ استمرار الصراع منذ أشهر حول جميع الملفات الرئيسية بين البلدين، زاد الوضع سوءاً بالنسبة للجانبين، وكل ذلك جعل من الصعب على أيٍّ منهما التراجع.
وقالت داليا كايي: "جميع الشروط التي أوصلتنا إلى هذه النقطة لا تزال سارية، والآن نواجه الواقع الجديد المتمثل في أنَّ الولايات المتحدة وإيران منخرطتان في نزاع مباشر ومفتوح".
وتتبنَّى داليا وجهة نظر متشككة حول إعلانات النصر الصادرة من واشنطن وطهران.
وقالت: "هذا ليس الوقت المناسب للاحتفال بالنصر".