تتركز الأنظار في واشنطن على مواجهة الرئيس ترامب مع إيران، والتي تتمحور حول الضربات الصاروخية بالعراق. لكن في هذا الأسبوع، أبدى قادة العالم قلقهم بسبب صراعٍ مُطول في دولة عربية أخرى مزقتها الحرب: ليبيا.
فمنذ أبريل/نيسان الماضي، بدأت قوات الجنرال المتمرد خليفة حفتر هجوماً مدمراً على ضواحي العاصمة طرابلس، وتخوض معركة استنزاف مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً. وبعد مرور أكثر من نصف عام من الهجمات بالطائرات دون طيار، لا تزال ضربات المدفعية والقصف لم تقلب موازين الصراع بعد، في حين أدى القتال إلى مصرع مئات، وتشريد أكثر من 140 ألف مدني آخرين، وإغلاق عدد ضخم من المدارس والمرافق الطبية.
صراع جيواستراتيجي كبير
تقول صحيفة The Washington Post الأمريكية، إنه بعيداً عن ساحة المعركة، هناك صراع جيواستراتيجي جارٍ. فمنذ الحملة الجوية التي قادتها الولايات المتحدة للإطاحة بنظام الديكتاتور الليبي معمر القذافي عام 2011، بات البلد الغني بالنفط، الواقع في شمالي إفريقيا، دولة فاشلة. وتتزاحم حكومتان متنافستان –حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً برئاسة رئيس الوزراء فايز السراج، وحكومة أخرى مرتبطة بحفتر، مقرها شرقي البلاد- على السيطرة وسط مستنقع من أمراء الحرب والميليشيات، وضمن ذلك منتسبون إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
ويحظى الطرفان المتحاربان بدعم قوى أجنبية، تسبب دخولها في الصراع، بدافع العداء الأيديولوجي والمصلحة الاقتصادية، في جعل التوصل إلى السلام أكثر صعوبة من ذي قبل.
إذ يحظى حفتر، وهو ضابط سابق في عهد القذافي ترك النظام وعاش فترة خارج العاصمة الأمريكية واشنطن، بدعم الإمارات العربية المتحدة ومصر، التي تنظر قيادتها إلى حكومة السراج باعتبارها إسلامية، وضمن ذلك المتعاطفون مع جماعة الإخوان المسلمين. وفي الآونة الأخيرة، انضم مئات المرتزقة الروس المرتبطين بالكرملين إلى هجوم حفتر. في الوقت نفسه، حصلت حكومة الوفاق الوطني على المساعدة من قطر وتركيا، التي بدأت بعد تصويتٍ برلماني، إرسال مجموعات من القوات التركية؛ للمساعدة في الدفاع عن طرابلس.
التزاحم على النفوذ
ووقّع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، اتفاقاً مع حكومة السراج بشأن الحدود البحرية شرقي البحر المتوسط، حيث تسعى أنقرة لحماية حصتها الكامنة تحت الماء، كما تقول. لكنَّ بياناً صدر هذا الأسبوع عن وزراء خارجية فرنسا واليونان ومصر وقبرص، أعلن أنَّ اتفاق أردوغان مع حكومة السراج "باطل ولاغٍ"، لأنّه يفصل في مناطق تملك الدول الثلاث الأخيرة ادعاءات متنافسة بأحقية كلٍّ منها فيها، وتأمل كذلك الحصول على حقوق التنقيب.
يقول أردوغان، يوم الخميس 9 يناير/كانون الثاني: "نحن في هذه البلاد (ليبيا)، حيث كتب أجدادنا التاريخ، لأنَّنا دُعينا إلى هناك؛ لإيجاد حل للظلم والاضطهاد".
ونشر حساب "هيئة العمل الخارجي الأوروبي" على تويتر تغريدة، قال فيها: "ناقش اليوم كلٌّ من جوزيب بوريل (الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسية والأمنية)، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، ووزير الخارجية الألماني هايكو ماس مع رئيس الوزراء الليبي فايز السراج ووزير الخارجية محمد طه سيالة، الحاجة للوقف الفوري للأعمال العدائية والعودة إلى المفاوضات السياسية تحت قيادة الأمم المتحدة".
حقبة ما بعد تراجع النفوذ الأمريكي
تحمل الفوضى الاستراتيجية في ليبيا سمات حقبة سابقة، حين كانت القوى الأجنبية تتزاحم على النفوذ في الأراضي الغنية بالموارد والمُستنزفة بفعل الاضطرابات السياسية. لكنَّها تمثل كذلك انعكاساً عميقاً لحاضرنا السياسي، الذي نادراً ما يتحدث فيه "المجتمع الدولي" بصوتٍ واحد، ويبدو أنَّ نفوذ القوة العظمى الوحيدة فيه، الولايات المتحدة، آخذٌ بالتراجع. ولم تستطع إدارتا أوباما وترامب عمل الكثير من أجل وقف الاضطرابات في ليبيا.
فأشارت افتتاحية سابقة لصحيفة The Washington Post الأمريكية، إلى أنَّ "كل هذا يحدث جزئياً، لأنَّ الولايات المتحدة أخفقت في ممارسة النفوذ على المتحاربين وحلفائهم الخارجيين. بل أرسلت إدارة ترامب إشارات متضاربة. فعلى الصعيد الرسمي، تدعم حكومةَ طرابلس، لكنَّ الرئيس ترامب تلقى في أبريل/نيسان الماضي، مكالمة هاتفية من حفتر.. وأشار إلى دعمه لقضيته".
في غضون ذلك، حاول الأوروبيون فرض مُصالحة، لكنَّها حققت الحد الأدنى من التأثير. فكان السراج في بروكسل هذا الأسبوع، والتقى دبلوماسيين أوروبيين كباراً. وقال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس: "نريد تجنُّب تحوُّل ليبيا إلى مسرح لحروب الوكالة. لا يمكن أن تتحول ليبيا إلى سوريا ثانية، ولذا نحتاج الدخول سريعاً في عملية سياسية، والتوصل إلى اتفاق فعال لوقف إطلاق النار، وحظرٍ للسلاح". لكن داخل أوروبا، يبدو أنَّ هناك خلافات حول مسار المضي قدماً، بالأخص في ظل اعتبار فرنسا داعمةً أكثر لحفتر.
الانحسار الأوروبي
تقول الصحيفة الأمريكية إن الانخراط الأوروبي، ككلٍّ متكامل، خسر مكانته مقابل مساعي كلٍّ من الروس والأتراك. فهذا الأسبوع، التقى أردوغان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأعلنا بصورة مشتركةٍ مبادرة وقفاً لإطلاق النار، والذي من شأنه أن يبدأ الأحد المقبل 12 يناير/كانون الثاني، لكن حفتر نفسه رفضها بالكامل.
قال فولفرام لاخر، الباحث في الشؤون الليبية بالمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، لصحيفة The New York Times الأمريكية: "ترك الأوروبيون والأمريكيون هذا الصراع يتواصل منذ أبريل/نيسان حتى وصل إلى جمود. وسمح هذا للروس بالتدخل، ببضع مئات من المرتزقة على الأرض، وإحداث فارق. ما نراه الآن هو تنافس على مَن يُحدد إطار العمل الدولي لأي مفاوضات من أجل إنهاء الصراع. بوتين وأردوغان يفرضان تحدياً أمام المطالبة الأوروبية بالتمتع بوضع القيادة في ليبيا"، حسب تعبيره.
من جهته، كتب السيناتور الأمريكي كريس ميرفي على حسابه بـ "تويتر": "ورث ترامب فوضى بليبيا. لكنَّه نجح في جعلها أسوأ. لا يمكنه تقرير أي طرفي الصراع ندعم. وأشعل خنوعه لبوتين وأردوغان حرب الوكالة المتنامية، ولم يفعل شيئاً لمعالجة الأزمة الإنسانية".
مع ذلك، ليس أكيداً أنَّ أي الفصيلين الليبيين سيلتزم وقف إطلاق النار الروسي-التركي. إذ يحظى حفتر بدعمٍ مباشر من مصر والإمارات، وحين كان الرئيس باراك أوباما لا يزال في السلطة، وبَّخ الإماراتيين والقطريين؛ لتقديمهما السلاح لوكلائهما، بالمخالفة لحظر السلاح الذي تفرضه الأمم المتحدة. لكن من الواضح أنَّ توبيخه لم يأتِ بالتأثير الضروري.
أمريكا تستطيع كبح جماح حفتر
كتب الخبيران في الشؤون الليبية فريدريك ويري وجلال الحرشاوي، بمجلة Foreign Affairs الأمريكية، يحاججان بأنَّ إدارة ترامب ربما لا تزال الطرف الفاعل الوحيد الذي يمكنه كبح تقدُّم حفتر وتجنّب سيناريو "كارثي" لسكان طرابلس المدنيين. فكتبا: "يجب أن تُسلِّط الولايات المتحدة ضغوطاً أكبر على الإمارات لوقف تدخلها العسكري وإعادة حفتر إلى طاولة المفاوضات"، مُضيفين أنَّ "واشنطن يجب أن تستخدم كل الأدوات الدبلوماسية المتاحة لديها". لكن بالنسبة لإدارة لم تشتهر تحديداً ببراعتها الدبلوماسية –فضلاً عن الحزم مع مَلَكيات الخليج- فإنَّ هذه مهمة صعبة.