كيف سينعكس مقتل سليماني على الحراك في العراق ولبنان؟ البحث عن المظلومية

عربي بوست
تم النشر: 2020/01/06 الساعة 18:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/07 الساعة 08:12 بتوقيت غرينتش
إسماعيل قآني القائد الجديد لفيلق القدس خلفاً لـ قاسم سليماني/ رويترز

كان اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، ضربة معنوية كبيرة للنظام الإيراني من قِبل ترامب، ولكن النظام يبدو أنه يحاول استغلالها لإعادة بناء شرعيته وشرعية المنظومة الطائفية التابعة له في المنطقة كلها.

فما لم يهتم به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومستشاروه على الأرجح، هو أن النظام الإيراني يقوم بالأساس على فكرة إعادة بناء التاريخ الشيعي، خاصةً ما يتعلق بمحورية الشهادة في هذا التاريخ.

الصبر إلى أن يأتي الفرج بعد 1400 عام

فالمذهب الشيعي نشأ من رحم مذبحة كربلاء وما زال يجدد ذكراها، ولم يكن صدفة أن يعلق المرشد الإيراني علي خامنئي على اغتيال سليماني، قائلاً "كل أرضٍ كربلاء وكل يومٍ عاشوراء".

كما كان لافتاً الصورة التي نُشرت في الموقع الرسمي للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية، والتي تضمنت الإمام الحسين وهو يحتضن قاسم سليماني بعد مقتله يوم 3 يناير/كانون الأول 2019.

وعقّب حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، على مقتل  قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، بضربة أمريكية في مطار بغداد الدولي، قائلاً: "أغبطه على هذه الشهادة".

ورغم أن السردية الشيعية المتمحورة على الشهادة قديمة، فإنها تطورت بشكل كبير على يد نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

كانت السردية التقليدية في المذهب الشيعي تقوم على فكرة "الشهادة طريق للجنة" أكثر منها وسيلة بحث عن النصر، حتى إنه يقال في التراث الشيعي إن الحسين حفيد الرسول خُيِّر في كربلاء بين النصر والشهادة فاختار الشهادة.

الشهادة، وفقاً للمراحل الأولى من التاريخ الشيعي، تعبير عن الدفاع عن موقف حق، ولكنه ليس بالضرورة حق مقدَّر له الانتصار؛ بل في الأغلب يُتوقع أن يُهزم، وكان ذلك بسبب المآسي التي تعرض لها آل البيت.

ومن ثم لم يكن النصر محورياً في السردية الشيعية التقليدية؛ بل الشهادة المرتبطة بالصبر إلى أن ينجلي الباطل، ثم سرعان ما تحوَّل المسار إلى الصبر إلى أن يأتي الإمام الغائب بعد اختفاء الإمام الثاني عشر للمذهب الشيعي الإمامي، صبر يرمي إلى تقليل الخسائر وضمان بقاء المذهب، وهو ما خلق إحساساً بمظلومية عميقة لدى الشيعة.

ولكن الخميني أنهى الصبر السلبي

ولكن التغييرات التي تحققت بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران على يد قائدها الخميني، هي أن هدف الشهادة والصبر الوصول إلى تحقيق النصر، أي محاولة إنهاء المظلومية، ولكن للأسف أحياناً بظلم طوائف أخرى.

وخلال الحرب العراقية-الإيرانية، كان النظام الإيراني يحشد الشباب من أجل الشهادة بالأساس، حتى إن بعض المتطوعين كانوا يلبسون الأكفان قبل الذهاب للجبهة.

ولكن النصر لم يتحقق، والفترة الطويلة للحرب مع الخسائر البشرية والاقتصادية الإيرانية استنزفت رصيد الصبر الذي جرى شحنه عبر استذكار التاريخ الشيعي والفارسي معاً.

واضطر الخميني لأن يتجرع السم كما يقول وأن يقبل بوقف إطلاق النار مع العراق بعد أن فشل في مباراته الصفرية مع صدام حسين والذي كان يريد الإطاحة بنظامه.

كان الخميني الذي أخرج الصبر الشيعي من ثلاجة الانتظار التي يبلغ عمرها 1400 إلى ساحة المعارك بدلاً من القعود السلبي إلى حين عودة الإمام الغائب الذي يحمل معه النصر الإلهي.

ثم من جاء بعده راهن على الصبر الاستراتيجي والفوز بالنقاط

ولكن تجربة الحرب العراقية-الإيرانية المريرة علَّمت القادة الإيرانيين درساً أكثر أهمية، إضافة إلى درس الخميني بضرورة إنهاء مرحلة انتظار عودة الإمام الغائب.

وهذا الدرس الذي لقَّنته الحرب مع العراق لقادة النظام هو الابتعاد عن المعارك الفاصلة والمباريات الصفرية، والتحول من الصبر البكائي السلبي التقليدي إلى الصبر الاستراتيجي والفوز في الصراعات بالنقاط، وليس بالضرورة عبر المعارك الكبرى الفاصلة كما أراد الخميني في حربه مع العراق.

وبهذا المنهج الجديد قاد الحرس الثوري الحرب ضد الثورة السورية، عبر حلفائه، فخاضوها معركة معركة، وفي كثير من المعارك لم يدخلوا في مواجهة عنيفة مع الثوار السوريين؛ بل كانوا يحاصرونهم ثم يعرضون عليهم خروجاً آمناً.

وفي النهاية، لم يقضوا على الثوار؛ بل قضوا على الثورة من خلال تصفية معاقلها وحصرها في أماكن معزولة، إلى أن جاء الروس أو حليف الحليف بالنسبة للإيرانيين لإنهاء المهمة.

ولكن بعد الانتصار ضاق أبناء المذهب بالثورة وقادتها وأتباعهم

ولكن الصبر الاستراتيجي كانت له أضراره، فمن الناحية الاقتصادية دفعت إيران ثمناً باهظاً لسنوات الصبر الطويلة.

إذ لم يُعر رجال الدين الحاكمون ورجال الحرس الثوري المحاربون الاهتمام الكافي إلى أن الشعوب حتى الشعب الإيراني والشيعة العرب لديهم غرائز وطباع إنسانية ومطالب تختلف من جيل إلى جيل، ولا يكفي أن يعيشوا على السردية البكائية حتى لو حققت بعض الانتصارات أو صمدت في مواجهة التحديات.

فهم يريدون اقتصاداً وحريات وأن يرتدوا ما يشاءون وأن يشاهدوا ما يريدون.

الأهم أن الشيعة العرب، خاصةً العراقيين، حتى لو تعاطفوا مع إيران وكرهوا حكامهم السُّنة العلمانيين الذين همَّشوهم، فإن التركيبة الوطنية القومية للعراق تأبى أن يبقى تابعاً لإيران.

والأسوأ أن النخبة الحاكمة في العراق يُفترض أنها دينية، وكان حرياً بها أن تقدم نموذجاً للزهد والإيثار والتضحية، ولكن الواقع أنها لم تأخذ من الدين إلا مظاهره وحوَّلت المظلومية إلى طائفية.

كما تورطت في سوء إدارة وفساد قد لا يكون لا مثيل له، إذ إن العراق الذي يعوم على بحر من النفط، يعاني تحت حكمهم  سوء خدمات وانقطاع كهرباء لم تعرفهما البلاد في ذروة الحصار الأمريكي على نظام صدام حسين.

وهكذا بدأ الشيعة في العراق ولبنان يتمللون، وبدأت تفرغ بطاريات الشحن الطائفي واستعادة السردية البكائية مع نسختها الحديثة التي تعِد بالنصر النهائي، خاصة مع تحوُّل النخب الشيعية من مظلومين إلى ظالمين.

إلى أن منح ترامب القادة الإيرانيين هدية مطبوعة بالدماء

ولكن جاء اغتيال قاسم سليماني ليمثل فرصة ذهبية لإعادة بناء السردية القديمة.

فدماء سليماني هي وقود إعادة ترميم الإمبراطورية الإيرانية، وهذه الجنازة المهيبة والوعيد الذي يتردد صداه في المنطقة ليسا موجهَين فقط إلى الأعداء؛ بل للأتباع، خاصةً المتذمرين منهم؛ لإعادة بناء شعور المظلومية، ولكي يعتصموا بحبل الدولة الإيرانية باعتبارها ثورة على الظلم التاريخي للشيعة.

إنها محاولة لإعادة توجيه الغضب الشيعي من الثورة التي وأدت الأحلام الطبيعية لشيعة المنطقة، إلى أعداء الطائفة الخارجيين.

وهكذا نرى حرص الدولة الإيرانية على تنظيم جنازة أو جنازات هائلة لسليماني، وأن يكون التعبير عن مظاهر الحزن ووعيد الانتقام ممتداً في كل أرجاء هذه الإمبراطورية من الضاحية الجنوبية في بيروت، مروراً بسوريا والعراق، وصولاً إلى خوزستان معقل العرب في إيران.

وبدا أن حجم الحشود في طهران والذي ظهر على التلفزيون، هو الأكبر منذ جنازة "آية الله روح الله الخميني" مؤسس الجمهورية الإسلامية عام 1989.

الحجاج بن يوسف وإعادة ترميم الإمبراطورية

منح ترامب باغتيال سليماني، الدواء من الطعنة التي وُجهت إلى النظام الإيراني من قِبل الحراك في المنطقة، لا سيما العراقي الذي كان أغلب أعضائه من الشيعة وكان يخضع لحماية الصدريين واحترام السيستاني.

أما اليوم فتتوارى أنباء المعتصمين خلف مشاهد جنازة سليماني، بهدف إدراج هذا الجنرال في قائمة طويلة من الشخصيات التاريخية بالمذهب الشيعي والقيادات الدينية التي جرى تمجيدها بعدما قُتلت على يد أعدائها.

المفارقة أن سليماني يختلف كثيراً عن الشخصيات الشيعية المركزية الحديثة والقديمة التي يستذكرها أبناء الطائفة، (والذين يتعاطف معهم كل المسلمين في الأغلب).

فنادراً ما كانت هناك قيادة شيعة توغلت في دماء أبناء المنطقة من المدنيين وشاركت في خلق مظلومية كبيرة كالتي يعيشها السوريون، مظلومية أذاق فيها سليماني وأتباعه وحلفاؤه ملايين السوريين ما كان يشكو منه الشيعة نفسه على مدار قرون من ظلم وقتل وتهجير، ولكن بأعداد أكبر ودموية أشد.

ففي نظر كثير من سكان المنطقة أن سليماني أبعد ما يكون عن القيادات الشيعية التي ظُلمت وقُتلت على مدار التاريخ، بل هو إلى أقرب إلى الطغاة الذين قتلوهم.

فبالنسبة لسُنة سوريا، فإن سليماني نظير الحجاج بن يوسف بالنسبة لشيعة العراق (المفارقة أن الحجاج على ظلمه كان له دور في فتح السند، كما أن سليماني له دور لا يُنكر في دعم المقاومة ضد إسرائيل بفلسطين ولبنان).

والآن يراهن قادة إيران على أن دماء سليماني ستكون وقوداً لترميم الإمبراطورية، وفي الوقت ذاته فإن إيران ستعتصم بالصبر الاستراتيجي خلال بحثها عن رد يحفظ ماء الوجه ولكن لا يدخلها في معركة مصيرية مع الولايات المتحدة.

أما الحراك في لبنان والعراق، فإنه سيواجَه بالاتهام التقليدي بالعمالة والخيانة، وليصبح التغيير السلمي اللاطائفي هو أكبر ضحية لعملية اغتيال سليماني، بينما المستفيد الأكبر هو الإمبراطورية التي كان سليماني أهم بناتها.

تحميل المزيد