حوّل قرار الرئيس ترامب، بقصف وقتل ثاني أقوى المسؤولين الإيرانيين نفوذاً، صراعاً هادئاً مع طهران إلى صراعٍ مُحتدم. وربما تكون تلك هي أخطر خطوةٍ اتّخذتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، منذ غزو العراق عام 2003.
تقول صحيفة New York Times الأمريكية، إن الحسابات هنا واضحة: إذ كان يتوجّب على واشنطن أن تُعيد ترسيخ فكرة الردع، وأن تُثبِت للقيادة الإيرانية أنّ إطلاق الصواريخ على السفن في الخليج والمنشآت النفطية في السعودية -إلى جانب الهجوم الذي كلّف مقاولاً أمريكياً حياته داخل العراق- لن يمضي دون رد.
ورغم ثقة مسؤولين أمريكيين بارزين في أنّ الإيرانيين سيردون الضربة دون شك، لكنّهم لا يعلمون مدى سرعة وغضب ذلك الرد.
لا خروج من الشرق الأوسط
وبالنسبة لرئيسٍ أكّد على عزمه الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط؛ فإنّ القصف الذي قتل اللواء قاسم سليماني -قائد الوحدة العسكرية الإيرانية الأقوى والأكثر قسوة "فيلق القدس" طوال عقدين- يعني أنّ ترامب لن يستطيع الخروج من المنطقة طوال ما تبقى من رئاسته التي قد تنتهي في غضون عامٍ، أو تمتد لفترةٍ ثانية. إذ ألزم ترامب الولايات المتحدة بدخول صراعٍ لم تُعرَف أبعاده بعد، وخاصةً في ظل سعي المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي للانتقام.
إذ كتب تشارلز ليستر، من معهد Middle East Institute: "تُعَدُّ هذه الخطوة بمثابة قفزةٍ كبيرة على سلم التصعيد. وتبدو الحرب مُقبلة بموت سليماني -وهو أمرٌ يبدو مؤكّداً، لكن التساؤلات المطروحة هي أين ومتى وفي أي شكل؟".
"ستكون حرباً أكبر من أيّ حربٍ مضت"
في حين قال بروس ريدل، ضابط وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السابق، الذي قضى حياته في دراسة الشرق الأوسط ويعمل حالياً في معهد Brookings Institution: "هذا الإدارة تقود الولايات المتحدة في طريقها إلى حربٍ جديدة داخل الشرق الأوسط، وستكون حرباً أكبر من أيّ حربٍ مضت".
ولكنّها قد لا تكون حرباً تقليدية بأي حالٍ من الأحوال، إذ إنّ أفضلية الإيرانيين تكمُن في الصراعات غير المتكافئة.
ويُشير تاريخهم إلى أنّهم لن يُواجهوا الولايات المتحدة بشكلٍ مباشر. فالإيرانيون هم أساتذة ضرب الأهداف السهلة، التي قد تبدأ من العراق، ولن تقتصر عليها. وفي السنوات القليلة الماضية، أتقنوا القدرة على إحداث فوضى منخفضة المستوى، وبرهنوا على رغبتهم في أن يكون بمقدورهم الوصول إلى الولايات المتحدة. وهم لا يستطيعون فعل ذلك في الوقت الحالي بالطرق التقليدية على الأقل.
إيران ليست الصين أو روسيا
تردف الصحيفة الأمريكية: لكنّهم حاولوا استخدام الإرهاب، وهذا شمل محاولةً فاشلة لقتل السفير السعودي في واشنطن قبل تسع سنوات. وفي وقتٍ مُتأخّر من مساء أمس الخميس، بعثت وزارة الأمن الداخلي رسائل تذكيرٍ بجهود إيران الحالية والسابقة في الهجوم على الولايات المتحدة داخل الفضاء السيبراني. وحتى الآن، اقتصرت تلك الهجمات على البنوك ومجسات السدود وغيرها من مرافق البنية التحتية الحيوية، لكنّهم لم يُثبِتوا حتى الآن امتلاكهم لقدرات الروس أو الصينيين.
وربما يأتي تصعيدهم الأول داخل العراق، حيث يدعمون الميليشيات المؤيدة لإيران. ولكنّهم يُعتبرون بمثابة قوةٍ غير مرحبٍ بها هناك أيضاً. إذ خرج الناس إلى الشوارع في العراق قبل بضع أسابيع احتجاجاً على التدخُّل الإيراني في سياساتهم، وليس التدخّل الأمريكي. ورغم ذلك، فلا تزال هناك بعض الأهداف السهلة في المنطقة، وهو ما أثبتته الهجمات على المنشآت النفطية السعودية.
ويزداد تعقيد إدارة هذه اللحظة المحفوفة بالمخاطر نتيجة إجراءات عزل الرئيس وإحياء البرنامج النووي الإيراني.
وهي مسألة وقتٍ فقط قبل أن تُثار التساؤلات حول ما إذا كانت العملية قد نُفّذت لخلق روايةٍ مُضادة، تدور حول صراعٍ مع عدوٍ قديم، بالتزامن مع بدء محاكمة مجلس الشيوخ لتحديد ما إذا كان يتوجّب عزل ترامب.
تجاوز الصلاحيات
وهناك بالفعل اتّهاماتٌ حول تجاوز الرئيس لصلاحياته، وأنّ قرار قتل سليماني كان يتطلّب موافقة الكونغرس -إذ كان قراراً بالفعل، ولم يُقتل الزعيم الإيراني لمجرد وجوده داخل القافلة الخطأ في الوقت الخطأ.
إذ طرح السيناتور كريس ميرفي (الديمقراطي من كونيتيكت) سؤاله على تويتر بمجرد انتشار الخبر: "إليكم السؤال: بحسب التقارير، هل اغتالت أمريكا للتو ثاني أقوى الرجال نفوذاً داخل إيران، بدون موافقةٍ من الكونغرس، مع العلم بأنّ ذلك قد ينزع فتيل حربٍ إقليمية ضخمة؟".
وربما يُجادل ترامب بأنّ ذلك يدخل ضمن نطاق صلاحياته، وأنّ القصف كان بمثابة دفاعٍ عن النفس. وستكون حجته قوية: فاللواء سليماني هو المسؤول عن مقتل مئات، إن لم يكن آلاف الأمريكيين في العراق على مدار سنوات -ولا شك أنّه كان يُخطّط لقتل المزيد.
واستشهد الإعلان الأمريكي، من وزير الدفاع مارك إسبر، بخطط اللواء -غير المعروفة- على أنّها مبررٌ للعملية. وفي حال كانت هناك معلوماتٌ استخباراتية حقيقية حول هجماتٍ وشيكة؛ فينطبق هنا مبدأ الضربات الاستباقية طويلة الأمد، الذي رسّخه جورج بوش الابن في السياسة الأمريكية مؤخراً.
وبهذا بات المستقبل النووي أكثر تعقيداً
إذ انسحب ترامب من الاتفاق النووي المُبرم عام 2015 قبل عامٍ واحد، رغم اعتراضات الكثير من مساعديه وكافة الحلفاء الأمريكيين تقريباً. وكان رد الفعل الإيراني بارداً في البداية، وظلوا ملتزمين بشروط الاتفاقية. والتي انتهت صلاحيتها العام الماضي، بالتزامن مع تصاعد التوتّرات.
وقبل العملية، كان من المنتظر أن يُعلنوا خلال الأسبوع المقبل عن خطوتهم النووية المقبلة، وبدا من المرجح أن تكون خطوةً تُقرّبهم من تخصيب اليورانيوم ليُستخدم في صناعة القنابل. وهذه الاحتمالية تزداد أرجحيةً الآن، وتفرض كذلك احتمالية تصعيدٍ جديد، في حال أدّت إلى تحرّكٍ عسكري أو سيبراني -أمريكي أو إسرائيلي- ضد منشآت إيران النووية المعروفة.
لدرجة أنّ نقاد الرئيس، في ما يتعلّق بالانسحاب من الاتفاق النووي، قالوا إنّهم يُدركون سبب اختيار اللواء الإيراني هدفاً للهجوم.
إذ قال ديفيد بتريوس، الجنرال المتقاعد الذي وضع خطة زيادة الجنود الأمريكيين في العراق، في مقابلةٍ أجراها مساء الخميس: "هؤلاء الرجال هم تجسيد الشر على الأرض. وتُشير تقديراتنا إلى مسؤوليتهم عن مقتل 600 جنديٍ أمريكي على الأقل".
لكن بتريوس حذر من أنه "سيكون هناك تصعيد. وأعتقد أنّه سيكون عليهم فعل شيء (للرد). ويبقى السؤال هنا بمرور الوقت: هل كنا سنردعهم أكثر في حال لم نتحرك؟".