رغم أنها تفوق الفاتيكان في المساحة، وتعتبر قلعة حصينة تسع لآلاف البشر ومحمية بالمارينز، فإن السفارة الأمريكية في بغداد قد تكون في أضعف وضع أمني لها في وقت يحاصرها المتظاهرون التابعين لحزب الله العراقي ويتربصون بها بعد مقتل عدد من أعضاء الحزب في هجمات أمريكي على قواعد للحزب مؤخراً.
فقد تم تقليص عدد موظفي السفارة الأمريكية في بغداد بشكل كبير خلال الأشهر القليلة الماضية، رغم التهديدات المتزايدة بالعنف من جانب الميليشيات التي تدعمها إيران مثل كتائب حزب الله.
ورغم انسحاب المقاتلين والموالين لكتائب "حزب الله" الذين حاصروا السفارة وأضرموا النيران في منشآتها الخارجية فإنهم نصبوا خيام الاعتصام في شارع أبونواس الواقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة على أطراف المنطقة الخضراء في الجهة المقابلة لمجمع السفارة الأمريكية.
وبات نهر دجلة يفصل بين المعتصمين وبين المنطقة الخضراء، حيث موقع السفارة، لا توجد حالياً أي خطط لإخلاء مبنى السفارة، وفقاً لقوات مشاة البحرية الأمريكية.
السفارة الأمريكية في بغداد حصن أكبر من الفاتيكان يحاول معالجة نقطة ضعف التاريخية
يعتبر مجمع السفارة الأمريكية في بغداد هو أكبر سفارة في العالم، إذ إنه مساحته أكبر من الفاتيكان، وقد بني بعد الغزو الأمريكي للعراق، وكان رمزاً للهيبة الأمريكية في البلد الذي احتلته واشنطن وظنت أنه ستجعلها تابعاً أبدياً لها.
ورغم حصانة السفارة فإن مشهد حصارها وإحراق النيران في سورها أعاد للأمريكيين مشاهد مذلة في تاريخهم.
فبالنسبة لمعظم الأمريكيين، فإن صور السفارات أو القنصليات الأمريكية التي يحيطها حشد هائل من المتظاهرين حول جدار السفارة، يذكرهم بلحظات سيئة في تاريخهم ومنها مشهد مروحيات الولايات المتحدة التي تقلع من سطح سفارة أمريكا بسايغون عاصمة فيتنام الجنوبية التي كانت تم إجلاؤها في عام 1975 في نهاية حرب فيتنام، أو الرهائن الأمريكيين الذين عرضهم خاطفوهم الطلاب في طهران الذين اقتحموا سفارة أمريكا في عام 1979.
والأسوأ حادثة تفجير السفارة الأمريكية في بيروت ومقتل من فيها عام 1983 الذي اتهمت واشنطن حزب الله بالوقوف وراءه.
ولقى ستة سفراء أمريكيبن مصرعهم منذ الحرب العالمية الثانية، وتوفي أكثر من 100 دبلوماسي وغيرهم من موظفي الحكومة الأمريكية بعنف أثناء خدمتهم في الخارج منذ نفس الفترة تقريباً، وفقاً للاتحاد الدبلوماسي الأمريكي.
فدوماً تمثل السفارات الأمريكية فرصة كبيرة لأعداء واشنطن خاصة من غير الدول لإهانتها وأحياناً استهدافها عبر عمليات إرهابية.
لماذا صنعت أمريكا هذا الحصن المنيع المسمى سفارة؟
لكن أحد الآثار الواضحة لمثل هذه الهجمات على المنشآت الدبلوماسية الأمريكية هو التحصين الشديد لمجمعات السفارات والقنصليات في جميع أنحاء العالم.
فقد ساعدت هجمات القاعدة التي استهدفت سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا في عام 1998 في تحفيز التحرك لبناء منشآت شبيهة بالقلاع، مع طبقة على طبقة من الأمن المكثف.
بينما يجعل هذا الوضع الدبلوماسيون الأمريكيون أكثر أماناً، فإن ذلك قد يجعل السفارات والقنصليات بعيداً عن متناول المواطنين العاديين في الدول المضيفة، ما يعيق التواصل ويغذي أحياناً شعوراً بأن أمريكا تحاول عزل نفسها عن العالم.
سفارة بغداد هي مثال واضح على ذلك.
إذ يفوق حجم المجمع البالغ 104 أفدنة بشكل لافت حجم البعثات الدبلوماسية الأمريكية في أماكن أخرى، ولديها فرق الأمن الخاصة بها ومحطات الطاقة ومرافق المياه. وكان المبنى يضم في بعض الأوقات حوالي 16 ألف شخص.
ترامب يزيد الأزمة اشتعالاً ويحاول معايرة الديمقراطيين
وفي ذروة الحصار الذي تعرضت له السفارة الأمريكية في بغداد، بدا أن ترامب يزيدها اشتعالاً، مركزاً على التباهي بقوة أمريكا.
فكما يفعل دوماً، انتقل ترامب إلى تويتر بعد الهجمات في بغداد ، قائلاً إنه سيحمل إيران "المسؤولية الكاملة عن الأرواح المفقودة، أو الأضرار التي لحقت، في أي من منشآتنا".
وكتبت سوزان دي ماجيو، زميلة مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، بدلاً من الحث الهدوء وضبط النفس من جميع الأطراف فإن ترامب رأى حالة معقدة واستغلها لجذب الأضواء".
وقال ترامب على تويتر: "تم نقل العديد من مقاتلي الحرب الكبار إلى جانب المعدات العسكرية الأكثر فتكاً في العالم على الفور إلى السفارة الأمريكية". "شكراً لرئيس ورئيس الوزراء العراقي على الرد السريع عند الطلب.. ستكون إيران مسؤولة مسؤولية كاملة عن الأرواح المفقودة أو عن الأضرار التي لحقت بأي من منشآتنا".
وأضاف ترامب"سوف يدفعون ثمناً كبيراً جداً!" ثم تابع قائلاً. "هذا ليس تحذيراً، إنه تهديد".
ثم ختم تهديده بالقول "عام سعيد"َ!
وقال البنتاغون إنه تم إرسال قوات أمريكية إضافية إلى بغداد تضم نحو 100 من مشاة البحرية لدعم الجنود العراقيين الموجودين في الموقع.
ولكنّ مسؤولي الإدارة الأمريكية لم يكن لديهم نفس الشعور بالإثارة التي بدا لدى ترامب.
إذ قالوا لشبكة CNN إنهم "قلقون للغاية" بشأن استمرار تصاعد الموقف.
ولم يكتفِ ترامب بتهديد الإيرانيين، ولكن عمد أيضاً إلى استغلال الموضوع حزبياً ومعايرة الديمقراطيين بهجوم قديم على البعثة الدبلوماسية الأمريكية في بني غازي والذي استغله الجمهوريون مراراً ضد هيلاري كلينتون المنافسة الديمقراطية لترامب على الرئاسة والتي كانت وزيرة للخارجية إبان فترة الهجوم.
والهجوم الذي أشار إليه ترامب وقع عام 2012 على منشأتين أمريكيتين في بني غازي ثاني أكبر مدن ليبيا سكاناً وأدى إلى قتل السفير الأمريكي جي كريستوفر ستيفنز، وثلاثة أمريكيين آخرين.
والمثير للصدمة أنه أثناء الحصار على السفارة الأمريكية في بغداد، سارع ترامب إلى تويتر للتفاخر بأن الهجوم كان يمثل موقفاً معاكساً لما حدث في بني غازي (anti-Benghazi ).
وردد هذا الزعم في حفل ليلة رأس السنة الفخمة في مقره بفلوريدا، حيث أخبر المحتفلين أن "هذا لن يكون أبدًا مثل بنغازي".
وحذر العديد من الدبلوماسيين السابقين من أن تصريحات الرئيس -إلى جانب الضربات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة الأسبوع الماضي ضد ميليشيا كتائب حزب الله المدعومة من إيران، والتي كانت دعواتها للانتقام من الهجوم على السفارة- سابقة لأوانها واستفزازية وتسبب في إثارة الأزمة.
ولكن الواقع أن السفارة الأمريكية في بغداد في أضعف وضع أمني لها
لكن تفاخر ترامب لايخفي أن السفارة الأمريكية في بغداد على مناعتها الاستثنائية قد تكون في أضعف وضع أمني منذ افتتاحها والسبب في ذلك ترامب وليس الحشد الشعبي.
فقد خفضت إدارة ترامب ميزانية الأمن الدبلوماسي بمئات الملايين من الدولارات. هذا ما يقول بريت بروين، الذي عمل كدبلوماسي في إدارة أوباما، بما في ذلك في العراق.
ويرى الدبلوماسي السابق: "لقد جعل أعضاء الخدمة الخارجية الأمريكية في أماكن مثل بغداد أقل أمانًا بشكل عام".
وقال بروين لكوارتز حسبما نقل عنه موقع Quartz الأمريكي: إن الإنفاق على أمن السفارة انخفض بنسبة 14٪ العام الماضي، وهم يقترحون خفضاً آخر بنسبة 18٪ هذا العام.
وأضاف: "لقد كانت الإدارة تضعف دفاعاتنا بشكل أساسي وما رأيناه يحدث في السفارة الأمريكية في بغداد مؤخراً كان جزئياً نتيجة لذلك.
وأردف قائلاً: "لم نفعل ما يكفي لتدعيم مواقعنا الدبلوماسية، لا سيما مع نوع الموقف الذي لدينا في العراق لم يكن يجب عليهم أن يقتربوا من ذلك. إنه أمر مقلق فقط على العديد من المستويات المختلفة".
وجاءت تخفيضات إدارة ترامب لتضاف للتخفيضات السابقة التي قام بها المشرعون الجمهوريون، والتي بدأت في عام 2011، واستمرت ميزانيات الأمن الدبلوماسي في الانخفاض، بإصرار من المشرعين من الحزب الجمهوري، حتى بعد أن تعرضت السفارة الأمريكية في بنغازي للهجوم في عام 2012.
ودافع وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو عن هذا الخفض خلال طلب ميزانية وزارته قائلاً للنائب الديمقراطي غريغوري ميكس إن الأمن الدبلوماسي "لا يتعلق بالدولار والإنفاق، بل بالتفكير في المكان الذي تضع فيه الناس".
وقال بروين إن المبلغ المنفق على الأمن الدبلوماسي لا يزال في انخفاض، "وهذا له بعض التأثير الحقيقي على ما يمكن لواشنطن القيام به للتصدي لبعض التهديدات الناشئة. إنه لأمر مروع للغاية ؛ إنها ليست انخفاضات تدريجية".
"نسخة غبية من الدبلوماسية"
ويشعر بروين بالقلق أيضاً من الآثار الطويلة الأجل لرد الولايات المتحدة على هجوم السفارة يوم الثلاثاء.
وقال: "إن قرار الانتقام بالطريقة التي فعلت بها الولايات المتحدة، دون خطة، وبدون إذن من الحكومة العراقية، ودون استعداد لحماية الرعايا والدبلوماسيين الأمريكيين، هو نسخة غبية من الدبلوماسية"، حسب تعبيره.
وأضاف: "إنه يفسد جهودنا ليس فقط لإبعاد العراقيين عن تأثير إيران، ولكن تلك المتعلقة بجهود مكافحة الإرهاب وسيكون من الأصعب بكثير على العراق تقديم الدعم للأمريكيين، سواء كان ذلك في ملاحقة داعش أو مواجهة التهديد التالي. ".
واختتم كلامه قائلاً "عندما ننتهك سيادتهم، ونحرجهم على الساحة العالمية، فإن هذا لن يجعلنا أكثر أماناً ويدفع العراقيين في نهاية المطاف، وكذلك الآخرين، إلى الاقتراب من إيران".