حراك شعبي غير مسبوق أراد الجزائريون أن تكون السلمية عنوانه، في احتجاجات غاضبة أطاحت بنظام قديم، وترنو لحصاد ثمارها بتجسيد الإصلاحات المأمولة في 2020. تستهلّ الجزائر عامها الجديد بلا بوتفليقة، لتدخل البلاد مرحلة جديدة قادت نحو انتخابات رئاسية وتنصيب رئيس جديد.
مرحلة حاسمة، لكن الشارع الذي لم تهدأ وتيرة غضبه، لا يزال يطالب بإصلاحات تجسّد التغيير الجذري، وتنهي حقبة سوداوية مع الطبقة السياسية القديمة بشكل حاسم، ما يشي بأن المشهد بالبلاد مفتوح على سيناريوهات كثيرة، قد يزيح عام 2020 الستار عن ملامحها.
انتفاضة مفاجئة
في 22 فبراير/شباط الماضي، تفجرت انتفاضة شعبية مفاجئة سرعان ما تحولت إلى حراك شعبي أطلق عليه البعض اسم "ثورة الابتسامة"، بدأت إرهاصاتها أسابيع قبل ذلك من خلال احتجاجات متفرقة.
البعض قال إن الحراك جاء نتيجة "إحساس بالإهانة" بعد ترشيح الرئيس المريض، فيما وصفها آخرون بأنها صراع بين أركان الحكم في البلاد تم تصديره للشارع. وسواء كان السبب الأول أم الثاني فإن الثابت هو أن هذه الانتفاضة الشعبية غيّرت وجه البلاد، وأسقطت أكثر رؤساء البلاد مكوثاً في الحكم (20 سنة) بعد أسابيع من انطلاقها، حيث استقال بوتفليقة مطلع أبريل/نيسان، عقب إعلان قيادة الجيش دعمها لمطالب الشارع.
الانتفاضة كانت أيضاً وراء سجن العشرات من كبار المسؤولين السابقين في عهد بوتفليقة من مدنيين وعسكريين، ممن ظلّ البعض منهم حتى وقت قريب يصعب تخيل رؤيتهم وراء القضبان، على غرار قائد المخابرات الأسبق الفريق محمد مدين، الذي كان يوصف بـ "صانع الرؤساء".
كما تم سجن سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس المستقيل، ورئيسي الوزراء السابقين أحمد أويحيى وعبدالمالك سلال، وكبار رجال الأعمال في البلاد، إلى جانب عملية "تطهير" طالت أهم مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية، وشملت العشرات من المسؤولين.
10 أشهر بلا انقطاع
ووسط تلك التطورات السياسية لم ينقطع الحراك الشعبي طيلة 10 أشهر على التوالي، بل تطوّرت مطالبه من رحيل بوتفليقة ومحيطه إلى التغيير الجذري لنظام الحكم ورجالاته، في تحركات احتجاجية حافظت على سلميتها، حيث لم يسجل سقوط أي ضحية نتيجة الصدام مع قوى الأمن.
وبأشهره الأخيرة، تحوّل الحراك إلى صراع غير معلن بين قيادة الجيش التي تمسّكت بالمسار الدستوري من خلال تنظيم انتخابات رئاسية، وقوى في الحراك والمعارضة ممن رفضت هذا الطرح، وطالبت برحيل كل رموز النظام، والذهاب إلى مرحلة انتقالية بدستور جديد، من أجل صنع قطيعة مع الماضي.
وظلّت الساحة مسرحاً لجدال بين قيادة الجيش وداعميها، ممن يعتبرون الانتخابات حجز الزاوية لتأمين استقرار البلاد، وسط محيط متوتر ومعارضين يرون فيها محاولة لتجديد جلد النظام، دون تغيير جوهره كما يطالب الشارع.
وانتهى الصراع بانتخاب رئيس للجمهورية باقتراع جرى في 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وسط مقاطعة من الحراك وجزء من المعارضة، وبنسبة مشاركة قاربت 40%.
اقتراع شهد منافسة بين 5 مرشحين وُصفوا بأنهم من أبناء النظام بحكم تقلُّدهم مسؤوليات سابقة فيه، لكن البلاد شهدت لأول مرة انتخابات دون شكاوى حول التزوير، كما لم يعرف الفائز فيها حتى فرز الأصوات.
وعادت خلافة بوتفليقة في هذا الاقتراع إلى رئيس وزرائه الأسبق عبدالمجيد تبون، الذي كان ضحية محيط بوتفليقة بعد إقالته صيف 2017، عقب إعلانه الحرب على رجال أعمال مقربين من الرئاسة، فيما وصفت قيادة الجيش انتخابه بأنه "الخيار الأنسب للبلاد".
الحسم في 2020
فور إعلان فوزه وبعد تنصيبه، تبنّى تبون خطاباً "مهادناً" للشارع والحراك، قال فيه إنه "يمد يده للحراك للحوار ونبذ التفرقة". كما تعهد بتجسيد مطالب التغيير، لكن الحراك تواصل بعد انتخابه بنفس الوتيرة والمطالب الرافضة لأي عرض من النظام، بشكل يوحي باستمرار التظاهر مستقبلاً.
وترتكز خارطة التغيير التي عرضها تبون على تشكيل حكومة كفاءات وتعديل دستوري "توافقي" خلال العام 2020، إلى جانب تغيير قوانين الانتخابات والأحزاب والذهاب إلى انتخابات نيابية ومحلية مبكرة بعدها، وكذلك إصلاحات اقتصادية واستمرار مكافحة الفساد.
وظهر انقسام بين معارضي النظام وداخل الحراك بعد عرض الحوار الذي قدّمه تبون بين من رفضه نهائياً بدعوى أنه من رئيس "أمر واقع"، وبين من يدعو لحلول عقلانية بقبول التحاور بشروط من قبيل إطلاق سراح معتقلين وإجراءات تهدئة من السلطة تجاه المعارضين.
وأمام هذا الوضع، بات الترقب هو السمة الأبرز لما سيكون عليه العام الجديد 2020، بين تنفيذ خارطة طريق الرئيس وتواصل ضغط الحراك، وسط دعوات للذهاب نحو حوار يقرب المسافات ويضمن تجسيد ما تبقى من مطالب الحراك، كون استمرار التظاهر بهذه الطريقة لن يحقق آمال الشارع في التغيير.