اختتمت القمة الإسلامية بماليزيا في الأيام الماضية بحضور عدد من القيادات الإسلامية والشرق أوسطية في المنطقة لتعلن إدانة واضحة لممارسات الصين ضد مسلمي الإيغور والسعي نحو تحالف سياسي واقتصادي يحقق أهداف التنمية والسيادة الوطنية، وهي الأهداف التي تشاركت في إبرازها قيادات بعض أبرز الدول المسلمة في الشرق الأوسط – قطر، تركيا، ماليزيا، وإيران وبحضور أكثر من 450 مفكراً وأكاديمياً وباحثاً إسلامياً في الوقت الذي انسحبت فيه باكستان من القمة بسبب ضغوط مُورست من قبل السعودية.
على الرغم من عدم حضور دول إسلامية قوية مثل مصر والسعودية، إلا أن البيان الختامي يشير بوضوح إلى بوادر إنشاء قيادة جديدة للعالم الإسلامي في المنطقة تتباين توجهاتها مع تلك السائدة لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، خاصة وسط مؤشرات هامة لتداعي النظام العالمي أحادي القطبية بالوضع المألوف الذي عرفناه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبروز نظام جديد يفضي إلى تراجع الهيمنة الأمريكية وبروز قوى أخرى مثل الصين والهند، وعلى ما يبدو هنا رغبة إلى دخول المسلمين على الخط.
لكن ثمة تساؤلات هامة حول: هل المسلمون بالفعل قادرون على التأثير عالمياً، وهل بات الوضع الدولي مهيئاً لبروز قوى أخرى أم لا؟
خلال الأسطر القادمة سنحاول التعريج على المؤشرات الهامة التي تلمح إلى تغير النظام العالمي الحالي وظهور منافس آخر لواشنطن وهذه أبرزها:
تفكك الاتحاد الأوروبي
لا تنحصر تداعيات صعود اليمين المتطرف في أوروبا على تراجع أحزاب الوسط فقط، بل تنعكس على الرأي العام بمجمله تجاه مستقبل الاتحاد الأوروبي ككيان موحد يجمع الدول القارية في أوروبا. في هنغاريا حيث يحوز حزب Fidesz على 49% من الأصوات الانتخابية، والنمسا حيث حزب الحرية Freedom Party لديه 26% من الأصوات، وبنسبة قريبة حزب الشعب السويسري Swiss People's Party ، تعلو الأصوات بشأن مشروعية الانضمام تحت غطاء الاتحاد الأوروبي وتحتدم خلافات سياسات الهجرة والاندماج الاقتصادي، حيث يسعى كل طرف لتعظيم منافعه على حساب السياسات العامة للكيان الجامع.
وأرقام النتائج الانتخابية في ببلدان كثيرة مثل فرنسا وألمانيا لا تكفي للتعبير عن تلك الحالة، في استطلاع حديث للرأي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ECFR، أظهر أن 58% من المستطلع آراؤهم في فرنسا يرون نهاية الاتحاد الأوروبي قريبة خلال العقد أو العقدين المقبلين على أقصى تقدير، ويأتي هذا في المرتبة الثانية بعد سلوفاكيا، حيث 66% يتوقعون انهيار الاتحاد الأوروبي خلال نفس المدة، وحيث جرى استطلاع في دول يمثل سكانها 70% من إجمالي المقاعد في البرلمان الأوروبي، لم تكن سوى دول السويد (44%) والدنمارك (41%) وإسبانيا (40%) هي التي انخفضت فيها توقعات انهيار الاتحاد الأوروبي لما تحت 50%.
تأتي هذه النتائج لتأكد توجهات الرأي العام البريطاني بشأن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، كما اتضح من نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة واكتساح حزب بوريس جونسون المحافظ لأغلبية البرلمان بنسبة 43.6% وأجندته الداعمة للانسحاب من الاتحاد الأوروبي ولو بدون اتفاق، إذ يبدو أن دولاً عديدة تنحو هذا الاتجاه على رأسها حزب "سالفيني" في إيطاليا، وأحزاب اليمين في السويد وهولندا، حيث تتهاوى جاذبية الانتماء الكيان الواحد.
تراجع النفوذ الأمريكي
مع تمدد النفوذ الروسي والإيراني بمنطقة الشرق الأوسط أصبح على الولايات المتحدة التعامل مع مزيد من المعطيات والتفاعلات التي تمثل تهديداً حقيقياً وواقعاً لهمينتها على مقدرات المنطقة. فرغم احتفاظ القوات الأمريكية بموضع قدم في سوريا إلى الآن، وهيمنتها على السياسات الداخلية للعراق بعد احتلالها منذ نحو عقد من الزمن، إلا أن النفوذ الروسي والتحالفات والوساطات التي يجريها بوتين عبر المنطقة خاصة مع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة -مثل المملكة السعودية والإمارات العربية ومصر- ومع خصومها مثل إيران وحزب الله، تعني أن القيادة السياسية للمنطقة أصبحت غماراً تتشارك فيه روسيا وإيران وتركيا مع الولايات المتحدة، وأن أسبقية التسليح الأمريكي لم تعد موضع إجماع خاصة مع انتشار صفقات التسليح الروسية في المنطقة، ليس آخرها صفقة SU 35 التي أبرمها السيسي بقيمة ملياري دولار مع روسيا مؤخراً.
التغول الصيني ضد الأقليات والرعب من المسلمين
على صعيد آخر يبدو الإسلام تهديداً مخيفاً للبلدان الأكثر نفوذاً في المنطقة مع، وبعد، الولايات المتحدة كالصين والهند وروسيا.
في شمال غرب الصين، تنتزع الحكومة الصينية كل إمارات الممارسات الإسلامية من المجال العام رغم اعتناق غالبية سكانها في تلك المنطقة للديانة نفسها. من تحطيم المنارات إلى تدمير المساجد والقرى المحافظة -إسلامياً- مثل قرية "Linixia"، لا تختلف الممارسات عن تلك المتواترة في inner Mongolia و Henan و Ningxia حيث تقطن غالبية المسلمين في الصين، كما لو أن توغل الحزب الشيوعي الصيني على الحريات العامة والخاصة لم يكن بالكافي ليستمر استهداف المسلمين. في السجون ومعسكرات "التثقيف". تأتي أبرز الوقائع في منطقة Xinjiang حيث تعتقل الحكومة الصينية نحو مليون من مسلمي الإيغور، تتم معاملتهم كمعتقلين أمنيين تخضعهم السلطات لأقصى درجات الضبط والرقابة والعقاب وتجرم محاولات الهروب وتحتفي بـ "اعترافات" تحول العقائد الدينية و "التوبة" من التشدد الديني، بينما توقع على النساء المسلمات أبشع جرائم الاعتداء الجنسي.
بجانب مذابح الروس في الشيشان التي وثقتها تقارير دولية هامة، تأتي مذابح الروهينغا في ميانمار فصل آخر في ممارسات الاضطهاد التي تعود للعصور الوسطى ولم تذكرها نشرات الأخبار منذ عقود، ربما تجددت الوقائع عن قديم، لكن وحشية الاضطهاد ودمويته تناظر روايات الناجين من أفران الغاز في ألمانيا منتصف القرن الماضي.
على صعيد آخر، يأتي مشروع القانون الذي تقدمه الحكومة الهندية بمنع الجنسية الوطنية عن المسلمين المتقدمين بطلبها من باكستان وبنغلاديش وأفغانستان، كفصل آخر في الاضطهاد الديني لصالح الهندوس والبوذيين والمسيحيين والسيخ وغيرهم ممن ارتحلوا من بلدانهم قبل عام 2015.
هل العالم الإسلامي قادر على لعب دور؟
تأتي أفكار صامويل هنتنغتون التي ذكرها قبل ربع قرن بشأن صراع الحضارات على قدمها كخيط ناظم لتلك التطورات المتناثرة في مختلف أنحاء العالم.. أبرز أفكاره هو صراع الأيديولوجيا المناوئة للديمقراطية الليبرالية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وصعود الإسلام كمنافس وغريم للولايات المتحدة الأمريكية، حيث تنحصر حدود الصراع الدولي على المحددات الثقافية (والدينية تحديداً) وتصطف مختلف الثقافات والهويات الدينية في مواجهة بعضها البعض، لكن أبرزها يبقى "الإسلام" تهديداً جامعاً. ويمكن التلميح لدوافع تلك الأطروحة بمعلومات بسيطة مثل:
القوى البشرية
يرى هنتنغتون أن انفجار الكثافة السكانية لديانة الإسلام يمثل تهديداً كبيراً كونه يعظم احتمالات عدم الاستقرار داخل البلدان المسلمة وعلى حدودها خاصة مع صعود الجماعات المتطرفة والإسلام السياسي الذي يسعى لـ "إحياء" تراث الهيمنة على مقدرات العالم، كما يتضح من خطابات الثورة الإيرانية 1979، كما يبدو من التنافس بين الثقافة المسلمة والصينية في مجالات التسلح والانتشار النووي و "دحض" حقوق الانسان والديمقراطية والصراع /التنافس مع الغرب، يبدو "التهديد" الإسلامي أقرب للغرب بالنظر لمعطيات التاريخ والطبيعة.
الاقتصاد
يمثل المسلمون نحو ربع إجمالي سكان كوكب الأرض، لكن نسبة المسلمين لإجمالي السكان في العالم في تزايد مستمر، فيقدر صندوق السكان التابع للأمم المتحدة أعداد المسلمين في 2050 بنحو 1.9 مليار إنسان حول العالم.
وبجانب القوى البشرية، يأتي بين الدول الإسلامية في العالم عدد من أغنى الدول موارد على الصعيد الاقتصادي، مثل قطر التي تعد أغنى دول العالم من حيث نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، بينما إجمالي القوة الشرائية لـ 57 دولة عضواً بمنظمة التعاون الإسلامية نحو 28 مليار دولار أمريكي.
ومن حيث الموارد، يحوز العالم الإسلامي نحو 75% من موارد الغاز والنفط في العالم، بينما تمتلك الدول الغربية نحو 4% من احتياطي النفط بالعالم. كما يتملك العالم الإسلامي نحو 22% من إجمالي الأرض المسكونة في العالم، ونحو 13,392 مليون هكتار من الأرض الزراعية بما يمثل نصف الأرض القابلة للزراعة في العالم، والتي لا يزرع منها فعلياً إلا 4% فقط.
من حيث المياه والمجاري المائية، تمتلك الدول المسلمة مطلات على عديد من المجاري المائية الاستراتيجية في العالم، مثلاً ثلث تجارة النفط في العالم تتم من مجرى هرمز الواقع بين الإمارات العربية المتحدة وإيران.
لكن يبقى أهم التحديات التي تواجه العالم الإسلامي هو التفكك السياسي وفقدان الثقة بين الأطراف السياسية والاعتماد على القوى الخارجية وتراجع معدلات التقدم في مجالات العلوم والتكنولوجيا، فمثلاً يشير أحد الأبحاث لكون العالم الإسلامي يمثل ربع سكان العالم تقريباً ويقدم 1% فقط من العلماء الذين ينتجون أقل من 5% من الإنتاج العلمي وأقل من 0.1% من الابتكارات البحثية الأصلية كل عام.
التحالفات
تتراجع كفاءة التحالفات والتكتلات في العالم الإسلامي بفعل الترتيبات الأحادية التي تجريها وتنتهجها غالبية الحكومات المسلمة، ففي قمة ماليزيا الأيام السابقة، رفضت السعودية الحضور وانسحبت باكستان، رغم أن الأولى تحكم قلب الأراضي المقدسة، ويعتبر النظام السياسي للثانية "إسلامياً" بالمقام الأول. لكن القمة جمعت قادة إيران وقطر وتركيا وماليزيا، وهي الدول التي تجمعها علاقات متعثرة مع المملكة السعودية، لتعلن إدانة قوية للحكومة الصينية على خلفية اضطهادها للمسلمين الإيغور، في الوقت الذي سبق فيه دفاع ولي العهد السعودي عن سياسات الصين تجاه مسلمي الإيغور على اعتبار أن من حق الصين "مكافحة التشدد"!
إشكالات أخرى تفرّق الدول المسلمة خاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث يتطابق الانتماء للإسلام والعروبة في كثير من بلدانها، أبرزها الصراع السني الشيعي بين زعامتين اقليميتين -المملكة السعودية وإيران- والعلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، والتنافس الإقليمي في البلدان التي هبت بها رياح التغيير السياسي منذ ربيع 2011، لاسيما سوريا وليبيا ومصر، فتتزعم مصر تحالفاً إقليمياً ضد الحكومة المعترف بها دولياً في ليبيا لصالح اللواء المنشق خليفة حفتر، فيما تقف تركيا على الطرف الآخر داعمةً حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج، ما أثار التنافس الإقليمي وفتح الباب أمام احتمالية نشوب حرب إقليمية على أراضي ليبيا بسبب توقيع الأخيرة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع تركيا.
تبدو زعامة العالم الإسلامي بالوضع القائم -الذي تنخرط فيه السعودية في حساباتها الإقليمية والأيديولوجية الخاصة وتشن حروباً بالوكالة على المسلمين في بلدان مجاورة- مجالاً تتنافس فيه إيران وتركيا وماليزيا وتتوحد -للآن على الأقل- مصالحهم في توجيه الإمكانات والموارد لدعم أوضاع الشعوب المسلمة في العالم واكتساب مصداقية ونفوذ أكبر في توازنات المنطقة، ويبدو هذا الهدف قريباً، خاصة وسط تحولات النظام العالمي وتبدل كثير من معطياته في العقد الأخير، لا سيما بعد ثورات الربيع العربي.