صوت الثورة للعالم.. كيف تُشكِّل شبكات التواصل الاجتماعي انتفاضة العراقيين؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2019/12/24 الساعة 09:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/12/24 الساعة 09:16 بتوقيت غرينتش

في خيمةٍ صغيرة مصنوعة من أقمشة ملونة وأرضيتها مغطاة بسجادٍ رخيص، كان بعض المواطنين العراقيين يجلسون مستمعين إلى أغانٍ تغنيها مجموعة من الفنَّانين الهواة. وقد كُتبت هذه الأغاني خصيصاً للمسرح الموجود في الخيمة المنصوبة في ميدان التحرير بوسط بغداد، وتروي قصص الشهداء الذين سقطوا في معارك الشوارع التي وقعت وما زالت مستمرة في العاصمة العراقية وغيرها من المدن منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وخارج مسرح الخيمة، رُكِّبَت مكبرات صوت كبيرة للسماح للجمهور بسماع الأغاني والمشاركة في غنائها. وفي المساء، تصبح الخيمة "مسرحاً سينمائياً" حيث تُعرَض أفلامٌ وثائقية تصوِّر المعارك والحوادث التي وقعت منذ اندلاع الاحتجاجات، فتجعل عيون المشاهدين تمتلئ بالدموع. 

سينما الثورة.. ومتحف الشهداء

وفي إحدى مناطق الميدان، افتتح الشباب مكتبةً صغيرة حيث يمكن للمارة استعارة الكتب وإرجاع الكتب التي لم يعودوا بحاجةٍ إليها. ومن الابتكارات الأخرى في ميدان التحرير إنشاء متحف الشهداء، حيث تُجمَع الأشياء التي تُعرَض فيه مع استمرار الاشتباكات، وتضم تلك الأشياء قمصاناً ملطَّخة بالدماء خُلِعَت عن الأشخاص الذين تطاردهم السلطات، ومقتنيات يجري إحضارها من منازل القتلى لتكون بمثابة تذكاراتٍ رمزية للشهداء. 

ويأمل منظمو المتحف أن ينقلوا تلك المعروضات إلى مبنى دائم بعد انتهاء الاشتباكات. وحتى ذلك الحين، يطلبون من عائلات الضحايا نقل المقتنيات والكتب والصور الخاصة بأحبائهم إلى المتحف.

ولا يمكنكم معرفة هذا النشاط الإبداعي في ميدان التحرير دون مقاطع الفيديو التي توثِّقه، والتي تُرجِم بعضها إلى الإنجليزية لزيادة الوعي العام الدولي. ويعرض أحد هذه المقاطع شُبَّاناً يفرون من الرصاص الذي تُطلقه قوات الأمن العراقية وميليشيات شيعية، مع سماع شعارات مألوفة في الخلفية. 

إذ يظهر في الفيديو أحد الرجال المُسنين وهو يرفع عكازه ويصرخ قائلاً: "اليوم أو غداً، سنموت جميعاً" وكذلك تظهر في المقطع عبارات أخرى مثل: "رجال الدين الفاسدون هؤلاء يحكموننا منذ 16 عاماً"، و "في الماضي، كان لدينا ديكتاتور واحد، والآن صاروا ألفاً"، و "الناس يموتون هنا من الجوع والحكومة تقتلنا"، و "مَن يعتقدون أنَّهم يحاولون قتلهم؟ نحن مواطنون عراقيون"، و "إن شاء الله في غضون أيام قليلة ستروننا نحمل أسلحة آر بي جي على أكتافنا، وسنحاربهم بالطريقة التي يحاربوننا بها".

ويوضِّح المصور ومحرر الفيلم في الخلفية أنَّه لا يستطيع ذكر اسمه، لأنَّه "قد يتعرَّض للقتل في غضون ثلاثة أيام". ويطلب فقط من المجتمع الدولي التدخُّل لمنع قتل الشعب العراقي.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ حجم هذه المكتبة التي تضم عدة مقاطع فيديو يتزايد. وقد انتشر الكثير منها بالفعل انتشاراً كبيراً على موقع يوتيوب وشبكات التواصل الاجتماعي، وصارت تُحقِّق الآلاف من المشاهدات الجديدة كل يوم. ويبدو أنَّ جهود الحكومة لوقف انتشار مقاطع الفيديو بتعطيل خدمات الإنترنت لم تُجدِ نفعاً. 

شبكات التواصل وقود الثورة

يُذكَر أنَّ دور شبكات التواصل الاجتماعي في ثورات الربيع العربي منذ تسع سنوات كان متواضعاً، إذ كان المتظاهرون ينقلون معظم المعلومات ودعوات المشاركة في المظاهرات عبر هواتف محمولة من الجيل القديم. ولكن الآن، تعد شبكات التواصل الاجتماعي هي الساحة الرئيسية للثورة.

فشبكات الأقمار الصناعية، التي كانت صاحبة الدور الرئيسي في الحركات الاحتجاجية في الماضي، لا تستطيع أن تنقل جميع الحوادث التي تقع في الشارع، لأنها ليس لديها الوقت الكافي ولا الدقة اللازمة ولا القرب المادي من الأحداث، وهي العوامل التي تتوفر لدى المتظاهرين أنفسهم. فالمتظاهرون يواصلون تصوير المقاطع التوثيقية ومشاركتها، حتى في أثناء فرارهم من السلطات. 

ويمكن القول إنَّ الفجوة الهائلة بين التغطية الإعلامية للاحتجاجات والتمرد والقتال قبل عقد من الزمن، أو حتى قبل خمس سنوات، واحتجاجات العصر الحاضر تتجلَّى في مجال صناعة الأفلام. تقول صحيفة Haretz: على مرِّ عقود من الزمان، لم تُنتَج أفلام روائية عن الحرب الأهلية في لبنان خوفاً من أن تعيد هذه الأفلام فتح الجروح العِرقية التي لم تُعالَج. ولم تُنتَج سوى بضعة أفلام في السنوات الأخيرة تتناول جوانب مختلفة من الأعمال العدائية العرقية في لبنان، بما في ذلك فيلم The Insult، من إخراج زياد دويري، الذي رُشِّح لجائزة الأوسكار في العام الماضي 2018.

الأفلام الروائية

ولم تشهد العراق إلَّا في العام الجاري 2019 ظهور أول فيلم روائي عن الأحداث الفظيعة التي وقعت في بغداد في عام 2006. ويصور الفيلم الذي يحمل اسم "شارع حيفا"، والذي أخرجه المخرج مهند حايل، الحياة قبل الحرب في شارع حيفا الذي يعد أحد الشوارع الرئيسية في بغداد وأكثرها ازدحاماً، والذي أصبح ساحةً لمعارك دامية في السنوات التي تلت الاحتلال الأمريكي، لا سيما في عامي 2006 و2007.  

وتُركِّز قصة الفيلم على شاب عراقي يُدعى سلام، أصبح قنَّاصاً قاتلاً. ويجثم هذا الشاب في مخبئه عالياً ويُطلق النار على مواطنٍ عراقي كان في طريقه ليطلب من حبيبته الزواج. فكيف أصبح سلام قنَّاصاً مُغتالاً؟ وكيف يحاول الجيران مساعدة الضحية، الذي مات متأثراً بجراحه، وما العلاقة بين الجيران، الذين كان بعضهم من الشيعة والبعض الآخر من السُنَّة أو الفلسطينيين؟ يحاول المخرج التعامل مع كل هذه القضايا من منظورٍ لاحق، لكنَّه يعتمد على ذكرياته الشخصية.

وتساءل المخرج حايل في لقاءٍ مع موقع قناة العربية: "هل هذه حربٌ أهلية أم حرب عِرقية؟ وما هويتنا كعراقيين؟ وما هوية الدولة؟". وقد اعترف حايل بأنَّه لا يملك أجوبة على هذه الأسئلة، لكنَّه يحاول على الأقل تحفيز المشاهدين على التفكير فيها. وقال حايل: "نحتاج إلى الكثير من الأفلام لتحليل شخصية المجتمع العراقي".

وبعد سنواتٍ من الأحداث التي وقعت في شارع حيفا، أصبحت بغداد عالقةً مرة أخرى في متاهة هويَّاتها في ميدان التحرير. ولكن على عكس صناعة الأفلام، التي تتطوَّر ببطء، فشبكات التواصل الاجتماعي ليس لديها صبر على الانتظار. لذا فشبكات التواصل الاجتماعي هي التي تؤطِّر الأحداث وتُرسخها في الذاكرة. وبذلك، فهي لا تزوِّد الأفلام الوثائقية بالمواد الخام اللازمة لإعدادها فحسب، بل تحدد كذلك القواعد التي يمكن للفن العراقي من خلالها النظر إلى المجتمع العراقي.

تحميل المزيد