هذا الصباح يشبه صباح كل الأيام الأخرى في عيادة مستشفى سوق "واقف" للصقور. وكما لا يحاول اسمها إخفاء الأمر، فهذه المُنشأة مخصصة بالكامل لعلاج فرد واحد من عائلة الطيور الجارحة. تقع في أحد أركان الميدان الرئيسي بمدينة الدوحة القديمة في دولة قطر، ذلك المركز التاريخي حيث يجتمع الآلاف من مشجعي كرة القدم لحضور بطولة كأس العالم للأندية، إنها منشأة طبية لا يشابهها غير منشآت قليلة.
داخل جدرانها -بعد الآثار الصغيرة لأقدام الطيور التي تشير إلى المدخل، وعبر البوابات الزجاجية البراقة التي تحتجز الهواء المُكيف، وأبعد من غرفة الانتظار ذات الأرائك، والأغصان المصنوعة من معدن الكروم، والرجل الذي يجمع فضلات الطيور من على الأرض في حال يحتاج لفحصها- لم يألُ أحد جُهداً في علاج الصقور، في الدولة التي تبجلهم تبجيلاً لا يتوفر لأي عضو آخر من المملكة الحيوانية، كما تقول صحيفة The New York Times الأمريكية.
رمزية الصقر في الخليج العربي
في قطر، كما هو الحال في دول خليجية أخرى عديدة، يمُثِّل الصقر مكانات متعددة، مثل حيوان أليف للعائلة أو رمز للقيمة الاجتماعية أو منافس سباقات. لكن الصقور تمثِّل رابطاً مهماً وقيماً لثقافة المنطقة البدوية القديمة أيضاً.
في أيامنا هذه يمكن تبادل ملكية الطائر الأكثر طلباً مقابل بضع آلاف من الدولارات الأمريكية. لكن أفضلها يكلف الرجل بضعة ملايين -والرجال هم من يتعاملون مع الصقور دائماً- وهذا يدفع بثروات إلى هواية يرجع عمرها لقرون مضت، في أكثر دول العالم ثراءً.
لكن في بعض الأحيان تصاب هذه الطيور بالجروح أو تمرض. ويكون هذا هو السبب الذي ينتهي بالمسؤولين عنهم في مستشفى سوق واقف للصقور منتظرين أدوارهم.
أيدٍ مُدربة
تحلق ثلاثة أطباء حول المريض. أغرقت مصابيح الليد التي يرتدونها فوق رؤوسهم طاولة العمليات بالضوء. توهج تصوير كامل للجسد بالأشعة السينية على شاشة في ركن الغرفة، بينما يصدر جهاز مراقبة العلامات الحيوية نغمة منتظمة من الرنات.
شُخِّصَت مشكلة المريض الحالية بسرعة، حالة حادة من إمالة الرأس. المشكلة الآن هي معرفة السبب. إصابة؟ أم مرض الإنفلونزا؟ أم شيء أسوأ؟ لا يوجد مكان أفضل من هنا لاكتشاف السبب.
عمل براسون إبراهيم، 38 عاماً، في المستشفى لمدة ثماني سنوات، لكنه لا يزال يندهش في كل مرة يتوقف فيها لتأمل الموارد المتاحة له. جالساً في غرفة الانتظار المزدحمة، والتي يمكن اعتبارها مماثلة لأي غرفة طوارئ في العالم إلا أنهم لا يكون كل الأشخاص فيهم يجلسون بهدوء وطائر جارح يقف على أيديهم المغطاة بالقفاز، يذكر إبراهيم بكلمات متقطعة سريعة متتالية كل الخيارات العلاجية والمعدات الخاصة المتوفرة في المستشفى؛ فحوصات الدم ووظائف الكلى، والريش التعويضي، والمناظير. متحدثاً أسرع وأسرع، يتوقف أخيراً لالتقاط أنفاسه ويقول: "لدينا كل شيء".
إبراهيم هندي من جنوب الهند، مثل أكثر العاملين في المستشفى، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في البيولوجيا الجزيئية، وعمل في مستشفى عادية قبل شغل منصبه الحالي. وكما هو الحال مع غالبية زملائه، يقول إنه لم يسبق له العمل في أي مكان يتوافر فيه هذا الكم من التقنية الحديثة المتطورة والتي تتوافر له الآن.
يقول وعيناه تتسعان: "في معملي رأيت جهاز الكشف عن الجينات لأول مرة في حياتي".
150 صقراً يعالجون يومياً
تعالج المنشأة، المكونة من طوابق عدة، والتي يرعاها ويدعمها حاكم قطر، حوالي 150 صقراً يومياً. أكثرية الصقور تجلب للفحوصات الشاملة بعد شرائها من المحلات العديدة التي تبيع الصقور في الجوار، أو للحصول على ما يصفه الموظفون بهدوء "رعاية الأظافر – mani-pedi" وهو ما يعادل عند الصقور رعاية الأظافر عند البشر، إذ يُحمى منقاره ومخالبه وهو تحت تأثير التخدير الكلي. يأتي آخرون لتركيب أجهزة بث راديو وأجهزة تحديد الموقع GPS ليتمكن الملاك من اقتفاء أثر هذه الطيور الباهظة عندما يخرجون بها للصيد. تثبت الأجهزة تقليدياً في ريش الذيل، لكن البعض يتطلب عملية جراحية لزرع الأجهزة.
يُجرى العمل الأخطر، وهو عمليات العظام الجراحية لعلاج العظام المكسورة والتي كانت تعني في البرية موتاً محققاً، في وحدة لحجز المرضى في طابق آخر.
في منطقة العلاج العامة، والتي يُحظَر دخولها على أي شخص غير موظفي المستشفى والمرضى، ينقسم الفنيون إلى أقسام متخصصة والمنطقة الوسطى يشغلها مجموعة من العاملين على الحواسب الآلية. يفحصون عينات الدم والبراز ومسحات الحلق باستخدام مجاهر عالية القوة تعرض الصور على شاشات عملاقة، ويحددون أي شيء مريب ليحظى باهتمام مجموعة من الأطباء الأكبر الذين يجولون في المنطقة مرتدين زيهم الأخضر.
التدرب بالملاحظة
في الطرف البعيد مجموعة أخرى منشغلة بمحاولة تعويض ريشة مفقودة من ذيل صقر شاهين يبدو باهظاً. قال الفني عبدالناصر بارولي: "كل فصيلة لها نمط رسم نقش مختلف وكل ريشة لها نمط مختلف". وفتح مجموعة أدراج كاشفاً عن تشكيلة مدهشة واسعة ومختلفة من خيارات الريش، بأطوال متباينة وألوان ونقوش مختلفة. وتابع: "يجب أن نجد النمط الصحيح".
قسم بارولي هادئ لأن مريضه مُنوَّم، لكن أصوات صرير عالية تأتي من غرف أخرى بحوائط زجاجية. في إحداها يحقن فني سوائل تحت جناح صقر يعاني من الجفاف، وهي مشكلة شائعة في الفصائل التي لم تعتد حرارة الجو الهائلة في الخليج، وهذا ما يحد موسم الصقور إلى حوالي أربعة شهور في الشتاء.
يقر موظفون عديدون أنهم تعلموا حرفتهم في الوظيفة، لم يتدرب أحدهم على العمل مع الصقور قبل شغل مناصبهم في هذه المستشفى أو في منشآت مشابهة في المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة. البعض لديه خلفية طبية مثل براسون. بينما الآخرون لا توجد علاقةٌ وثيقة بين ما كانوا يعملونه في بلادهم قبل أن يغويهم الخليج بوعد المرتبات الأعلى.
يوضِّح جاهانغير محمد وهو يقلِّم منقار صقر السنقر بأداة تشبه الصنفرة الكهربائية ناثراً ذرات غبار من المنقار، أنه كان مُعلم فنون قتالية في موطنه بولاية كيرالا في الهند. محمد حاصل على درجة دان الثالثة والحزام الأسود في الكاراتيه وقضى أكثر من 10 سنوات في قطر.
قال مشيراً إلى بارولي والذي كان منهمكاً مع ريشة الشاهين: "في السابق لم أكن أفهم أي شيء. جئت إلى هنا وتدربت بالملاحظة".
ويلسون جوزيف، 54 عاماً، أحد أقدم الموظفين وأكبرهم مكانة وتقديراً في المستشفى، وهو الآن في عامه العشرين من العمل مع الصقور. بدأ العمل موظف خزنة في منشأة طبية أصغر في المملكة العربية السعودية. قال جوزيف أنه كان محامياً جنائياً في الهند. قبل أن يأتي إلى الخليج لم ير في حياته صقراً مطلقاً، ناهيك عن علاجه. وأضاف: "لكني أردت الاعتناء بعائلتي وتحقيق دخل مادي أفضل".
قوانين المكان
كما هو الحال في مؤسسات عدة في قطر، هناك تسلسل هرمي صارم في ما يتعلق بغرفة انتظار المستشفى. فرغم وجود نظام حجز أدوار بالأرقام، هناك طرق لتجاوز الدور: أفراد العائلة المالكة القطريون المصاحبون للصقور يعاملون بكونهم أولوية، ويليهم المواطنون القطريون، وفي النهاية الأجانب والذين يكونون في الغالب عمالة منزلية يحملون جنسيات جنوب آسيا، أتوا بالنيابة عن موظِّفيهم.
تقلبات النظام تعني أن الانتظار يمكن أن يطول. ويوفر التأخير فرصة لتبادل النميمة والنكات وتخفيف الحدة عموماً. مستنداً إلى النافذة في الصيدلية الداخلية يوضح شاغول حميد،27 عاماً، والذي قضى خمس سنوات يعمل في بيت أحد أفراد عائلة الثاني الملكية القطرية، كيف أنه بعد الصعوبات الأولية وطد علاقته بالصقر الذي يرعاه. وقال وهو يزيل الغطاء الصغير من على رأس الطائر ويضغط منقاره سريعاً: "أترى؟ لم يعد يعضني".
انضم أحد معارفه إلى الحديث ليعبر عن تعجبه من مقدار الأموال والوقت الذين يقبل الملاك بإنفاقهم على صقورهم. لكن حميد قال إن أكثر ما أثار دهشته هو الحب الذي يكنه بعض الملاك للصقور؛ العناية التي يقدمها مليونيرات أو ربما مليارديرات يستيقظون منذ الفجر ليرافقوا صقورهم المريضة إلى المستشفى.
قال حميد: "يعتنون بصقورهم بنفس الطريقة التي يعتنون بها بأطفالهم"، قبل أن يتدارك قائلاً: "في الواقع، إذا مرض طفلهم، سوف يرسلون السائق أو الخادمة أو الزوجة معه إلى الطبيب". وأضاف: "لكن إذا كان الصقر مريضاً، رجل البيت يذهب بنفسه".