منذ عقود طويلة، تطلعت عديد من الدول الإسلامية إلى بناء نظام اقتصادي إسلامي خاص بها، يتحرر من سطوة التبعية الغربية في جميع التعاملات المالية، ويخدم جميع شعوب العالم الإسلامي.
هذا الحلم الذي ظل مؤجَّلاً وتعثَّر كثيراً لأسباب مختلفة، ربما يرى النور اليوم. إذ أكد الزعماء المشاركون في قمة كوالالمبور الإسلامية، التي تعقد في العاصمة الماليزية من الـ18 إلى الـ20 من ديسمبر/كانون الأول 2019، رغبتهم في إنشاء تكتل اقتصادي إسلامي مستقل، مؤكدين أن من أهم المشاكل التي يعانيها العالم الإسلامي التبعية للغرب في كل شيء، خاصة في النظام المالي.
الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، دعا خلال القمة، إلى "تتحرُّر الدول الإسلامية في تعاملاتها من العملات الأجنبية، وأن تتعامل بعملاتها المحلية"، مؤكداً أن "الوضع الراهن يجعل البنية التحتية المالية لبلادنا في حالة من التذبذب والضعف. ولحلّ هذا الأمر عاجلاً، يجب أن نتخذ خطوات عملية للتعامل مع عملاتنا المحلية".
وإلى جانب أردوغان، أكد كذلك رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد والرئيس الإيراني حسن روحاني، أن من الضروري العمل على الاستقلال المالي الإسلامي، مشيرين إلى أنه بات من الضروري اليوم الحديث عن وجود تعاملٍ مصرفيٍّ خاص بالدول الإسلامية، مؤكدين أنه "آن للدول المسلمة بناء قطاع تأميني خاص يحميها من الاعتماد على القطاع الخارجي، وأنه يجب أن نتعامل مع نقودنا المحلية، ولا نعتمد على الدولار الأمريكي والعملات الغربية الأخرى".
هل الفرصة سانحة لبناء تكتل اقتصادي إسلامي مستقل؟
حول ذلك، يؤكد خبراء اقتصاديون لـ "عربي بوست"، أن هناك فرصة ذهبية يجب على هذه الدول استغلالها، لإنشاء سوق إسلامي مشترك. يقول د.حسام عايش، الخبير والمحلل الاقتصادي، إنه على الرغم من أن هذه الأفكار ليست جديدة وطُرحت أكثر مرة، فإن هذه الدول تمتلك اليوم ما لم يمتلكه السابقون، فهي قادرة على أن تخلق ديناميكية مهمة لتشكيل سوق إسلامي مشترك، بتطوير العلاقات الاقتصادية فيما بينها على جميع المستويات.
وأكد عايش أن دولاً، كتركيا وماليزيا وقطر، تمتلك اقتصاديات كبيرة وتحتل مراكز متقدمة في العالم، ولو رُفعت العقوبات أيضاً عن إيران، فستكون إضافة مهمة إلى هذا السوق، إذ تمتلك هذه الدول النفط والغاز والموارد الطبيعية المختلفة، وعدداً كبير من السكان، وإمكانات مذهلة لصنع سوق ناجح مشترك، يشكل كتلة وازنة في العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية.
وبحسب عايش، فالأسباب والظروف متوافرة وبقوة لإقامة هذا السوق الآن، مؤكداً أن ما يميز الأمر هذه المرَّة هو وجود إرادة مشتركة بين هذه الدول كأنظمة، ورغبة كبيرة بين الشعوب في إقامة سوق إسلامي مشترك متحرر من السطوة الغربية.
استغلال الفرص
يتفق مع هذا الطرح الباحث في الاقتصاد الإسلامي د. أشرف دوابة، الذي يؤكد لـ "عربي بوست"، أن هذه الدول تستطيع فعل الكثير إذا أرادت ذلك، ولو اقتصر الأمر حتى على تركيا وماليزيا وقطر، فإن هذه الدول تمتلك اقتصادات قوية، تستطيع بناء نواة كيان اقتصادي يُبنى عليه بالتدريج خلال سنوات، بدءاً بالتبادل التجاري بالعملات المحلية فيما بينها.
وبحسب دوابة، فإن الفرصة الآن سانحة لبناء سوق إسلامي واعد، وعلى هذه الدول أن تستغل الظروف الحالية التي يمر بها النظام العالمي، كالانسحاب الأمريكي من المنطقة، وسوء حال العلاقات الأوروبية-الأمريكية، وضعف الاتحاد الأوروبي من الداخل، وهشاشة حلف الناتو. بالإضافة إلى انشغال الولايات المتحدة في حروبها التجارية مع القوى الكبرى، كالصين على سبيل المثال.
ما الصعوبات المتوقعة التي ستواجه هذا المشروع؟
التباين الاقتصادي: إلا أن كلا الباحثين اتفق على وجود تحديات حقيقية أمام هذا المشروع، يقول عايش إن هناك صعوبات توازي حجم الطموحات، فبدايةً، الأنظمة الاقتصادية في الدول الإسلامية مختلفة فيما بينها، كما أن الأوضاع الاقتصادية لهذه الدول متفاوتة، وهذا وحده كفيل بإطالة الوقت اللازم لإنشاء هذا السوق.
لكن الأهم، بحسب وجهة نظر عايش، ليس أن يقام هذا السوق فقط، بل أن يقدَّم كنموذج يمكن أن تستفيد منه الدول الإسلامية المختلفة، مفيد لمليار و300 مليون مسلم داخل هذا السوق؛ ومن ثم من الممكن أن يكون هذا التكتل قاطرة اقتصادية تفيد الاقتصاد العالمي، وتؤدي دوراً في توازن أكبر، بين الكتل الاقتصادية العالمية الأخرى.
العامل الزمني: من جانبه يرى الباحث دوابة أن التسرع غير مطلوب خلال العمل على هذا المشروع، إذ يمكن بناؤه بالتدرج عبر مراحل مدروسة وواضحة، وتوسيعه شيئاً فشيئاً حتى يشمل دولاً إسلامية أخرى لاحقاً.
المشاركة الإيرانية: التحدي الآخر، بحسب د.عايش، هو أن وجود إيران في هذا التكتل بهذه المرحلة، ربما يسبب مشكلة للدول المشاركة فيه، إذ إن الولايات المتحدة حذَّرت جميع الدول من التعامل مع إيران؛ في ظل العقوبات المفروضة عليها، وللأسف، جميع دول العالم استجابت لهذا التحذير، وربما يكون ضم إيران في مرحلة التأسيس نوعاً من الاستفزاز لأمريكا وحلفائها، وهو ما لا يريده مؤسسو السوق الإسلامي الآن.
"الأمر الآخر هو أن الاقتصاد الإيراني يتعرض لمزيد من الانكماش والتراجع الآن؛ ومن ثم قد لا تستطيع طهران أن تكون جزءاً من مرحلة تأسيس السوق الإسلامي". لكن عايش استدرك ذلك بالقول، إن "وجود إيران -ولو معنوياً- في هذا السوق سيكون ضرورياً، حتى لا يُحسب على هذا السوق استبعاد دول إسلامية، على أساس طائفي".
أما أشرف دوابة فيرى أن إيران من الممكن أن تستفيد جداً من الدخول في هذا الكيان، لإنقاذ اقتصادها الذي تعرَّض لضربات عنيفة مؤخراً، بسبب العقوبات الأمريكية القاسية، لذلك قد تجد طهران في هذا التكتل فرصتها الذهبية للخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تتعرض لها.
ما موقف الولايات المتحدة المتوقع من وجود هذا الكيان الجديد؟
يقول الباحث عايش، إن الولايات المتحدة لها سلطة على ربع الاقتصاد العالمي، ولها سطوة على الأرباع الثلاثة الأخرى المتبقية، لذا من المؤكد أن أمريكا ستقاوم هذا التكتل بشدة، ولن تقف مكتوفة الأيدي أمام بناء سوق إسلامي مشترك، إلا أن استقلالية القرار السيادي، الذي يميز هذه الدول، وقدرتها على تحمُّل التكلفة العالية لقراراتها، ربما تسمحان لها بالمضي قدماً في إنشاء هذا السوق.
وبحسب عايش، فإن الولايات المتحدة عُرف عنها على الدوام، أنها لا ترغب بتاتاً في وجود تكتلات اقتصادية بالسوق الدولي، بل هي تحاربها وتعمل على إفشالها، مضيفاً أنه "حتى تراجُع باكستان عن حضور هذه القمة ربما كان وراءه تأثير أمريكي أيضاً غير السعودي، لأن الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من كبرى الدول التي تقدم المساعدات لباكستان، ولا تريد أن تراها في تكتل إسلامي جديد بالمنطقة".