يقضي عباس علي معظم وقت فراغه في الخيام المنصوبة في ساحة التحرير -مركز الاحتجاجات المناهضة للحكومة العراقية- ولا يعود إلى منزله إلا الساعة الثالثة صباحاً لينام قليلاً ويغير ملابسه ويطمئن على أسرته. وهو مصمم على البقاء في الساحة حتى النهاية، مهما كلفه الأمر.
كان علي في الثالثة عشرة من عمره فقط حين أطاح الغزو الذي قادته الولايات المتحدة صدام حسين. وهو لا يتذكر جيداً كيف كانت الحياة في عهد صدام. ولكن ما يدركه جيداً هو أن الحياة في عراق ما بعد صدام عبارة عن كفاح يومي مهين من أجل البقاء.
يعتبر الشاب البالغ من العمر 29 عاماً نفسه محظوظاً لأن لديه وظيفة، رغم أن الأجر الذي يتقاضاه يغطي بالكاد تكاليف علاج أبيه المريض وأمه العجوز. أما شقيقاه وشقيقتاه فعاطلون عن العمل. وكذلك معظم أصدقائه. ويقول علي لشبكة ABC News الأمريكية، إن الزواج هو آخر ما يفكر فيه لأنه لا يستطيع تحمل تكاليف تأسيس أسرة.
ويجسد علي، بغضبه من الساسة ورجال الدين الطائفيين الذين يعتبرهم مسؤوليين عن سرقة ثروات العراق، الشباب العراقيين في بغداد الذين بدأوا ثورة منذ أكثر من شهرين تدعو إلى إسقاط طبقة سياسية مكروهة.
نوع جديد من الانتفاضات
وثمة مشهد مماثل في لبنان الصغير، حيث يتظاهر الشباب منذ 62 يوماً ضد النخبة السياسية التي تتولى المسؤولية منذ الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990، وحمّلوهم مسؤولية نهب البلاد إلى حد إفلاسها.
وهذه الاحتجاجات المستمرة بلا قيادة لم يسبق لها مثيل ونجحت في إسقاط حكومتي البلدين. لكنها لم تنجح في إطاحة أنظمتهما الحاكمة: إذ ظل الساسة أنفسهم متمسكين بحكمهم، وأخذوا يماطلون ويتشاحنون حول تشكيل حكومات جديدة فيما يتجاهلون المطالبات الأوسع بالإصلاح الجذري.
وتزداد خطورة الأزمة مع استمرارها، وتشكل أخطر تهديد وجودي واجهه البلدان منذ سنوات، في العراق منذ إطاحة صدام عام 2003 وفي لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية. وقد وقع العراق في دوامة عنف جديدة، بعد مقتل أكثر من 450 محتجاً على أيدي قوات الأمن. فيما يقف لبنان على حافة الفوضى، وثمة كارثة اقتصادية تلوح في الأفق.
وهذه الاحتجاجات تعكس حالة من الضيق تسود معظم أنحاء العالم العربي. ومع دخول الشرق الأوسط عام 2020، يقول الخبراء إن نوعاً جديداً من الانتفاضات بدأ يتكشف. ففي الوقت الذي كانت فيه ثورات الربيع العربي التي وقعت في مصر وتونس وليبيا وسوريا تستهدف الطغاة الذين حكموا لفترة طويلة، تستهدف الانتفاضات الحالية التي تحركها دوافع اقتصادية فئةً كاملة من الساسة ونظاماً يقولون إنه مفلس وفشل في توفير حياة كريمة.
وفي إيران، تفاقم السخط على الأوضاع الاقتصادية منذ فَرَض الرئيس دونالد ترامب عقوبات مدمرة على البلاد العام الماضي. وتقول الأمم المتحدة إن أكثر من 200 شخص قتلوا برصاص قوات الأمن على المتظاهرين في الأسابيع الأخيرة بعد أن رفعت الحكومة أسعار الوقود. وفي مصر، اندلعت احتجاجات متفرقة في الشوارع رغم التدابير الوحشية التي فرضها الرئيس عبدالفتاح السيسي. ويشهد الأردن والجزائر والسودان احتجاجات مماثلة.
دول فاشلة
كُتب على لافتة ضخمة في ساحة التحرير ببغداد: "فساد الساسة سرق ودمر مستقبل شبابنا" وهي عبارة تلخص مشاعر المحتجين في العراق ولبنان.
يوجد في كلا البلدين اتفاق لتقاسم السلطة يحدد المناصب العليا وفقاً للطائفة الدينية، وقد حول قادة الحرب السابقون إلى طبقة سياسية دائمة تقدم الخدمات مقابل الأصوات. ومستوى الفساد والفشل في تقديم الخدمات مروع، إذ تتكدس النُفايات في الشوارع، وتنقطع الكهرباء بصفة متكررة وينتشر الفساد النظامي والمحسوبية.
كما أن الدولتين عالقتان دائماً بين الشد والجذب الإقليميين بين إيران والولايات المتحدة وبيادقهما المحلية. وفي الوقت نفسه، يزداد الفقر والبطالة، في حالة العراق، رغم ثروته النفطية الكبيرة.
يقول علي، متظاهر بغداد، إنه يشعر بأنه غريب في بلده، ويعيش حالة من عدم الاستقرار بين العمل والبطالة. ويقول إنه يشعر بالانزعاج في كل مرة يشغل فيها التلفاز ويرى القادة العراقيين يتحدثون.
وقال: "ماكو وطن". فيما تصف سمر معلولي، وهي محتجة لبنانية تبلغ من العمر 32 عاماً، ساسة بلادها بـ"الوحوش". وقالت خلال مظاهرة اندلعت مؤخراً في وسط بيروت: "ما أود معرفته هو، ألا يكتفون أبداً؟".
ولخص بول سالم، رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن، هذه الأزمة المؤلمة. إذ كتب في أحد تحليلاته العام الماضي: "من ناحية يقف جيل شاب يطالب بالحكم الرشيد وإنهاء الفساد وتحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي والعدالة؛ ومن ناحية أخرى، توجد طبقة سياسية فاسدة وطائفية -تدعمها إيران في عدة نواح رئيسية- لا تريد التخلي عن أي من مناصبها أو ثرواتها".
بذور التغيير
تقول شبكة ABC News الأمريكية، إن الاحتجاجات في العراق ولبنان فريدة من نوعها من حيث أن الناس من جميع الطوائف والطبقات الاجتماعية يتجاوزون للمرة الأولى انقساماتهم لمحاسبة قادتهم. وهم يحاولون بكل قوتهم الحفاظ على هذا المكسب. إذ تحث العبارات المكتوبة على الجدران في بغداد وبيروت على إنهاء نظام تقاسم السلطة الطائفي. وفي العراق المحافظ، خرجت النساء للمرة الأولى للمشاركة في الاحتجاجات.
يراهن الساسة على الوقت والنزاعات الداخلية لتدمير حراك الاحتجاج. ففي العراق، أثارت سلسلة هجمات شنها مجهولون، تشمل عمليات طعن وقتل وخطف، الخوف بين المتظاهرين. فيما تتحول التجمعات السلمية في لبنان إلى عنف.
يواجه المتظاهرون مشكلة صعبة: وهي أنه باستمرارهم في التظاهر في الشوارع، فهم يخاطرون بإغضاب قطاع عريض من المواطنين يتوقون إلى الاستقرار والعودة إلى الحياة الطبيعية. ويقول البعض إن هذه المطالب ببساطة أصعب من أن تُنفَّذ. لكنهم إذا توقفوا، فهم يخاطرون بخسارة لحظة الوحدة التي يعيشونها ضد حكامهم.
الطريق طويل
يصر المحتجون على أن ما يزرعونه الآن هو بذور التغيير التي طال انتظارها. لكن المحللين يقولون إن الطريق طويل.
إذ قال ترينتون شونبورن، وهو مؤلف في موقع International Review، المخصص لتحليلات الشؤون الدولية: "الفساد متأصل على كل المستويات، وهو شيء إذا أردت إصلاحه، فعليك التخلص من طبقة النخبة بأكملها وإخراجها من البلاد. وفي الوقت الذي قد يكون ذلك هو ما يرغب الناس في فعله، فكيف يمكن القيام بذلك دون عنف هائل؟".
يقول علي، المحتج العراقي، إنه ورفاقه قطعوا شوطاً طويلاً ولا يمكنهم التوقف الآن. وقال: "هذا طريق ذو اتجاه واحد. إما نحن أو هم. وإذا فازوا هذه المرة، فقد انتهى الأمر".