خرجت الجزائر من الانتخابات الرئاسية، التي نُظمت الخميس الماضي، بأقل الأضرار، بعد أن كان متوقعاً أن تشهد أحداث عنف ومقاطعة غير مسبوقة، تفقدها الكثير من المصداقية، خاصة أن تصويت الخارج، لم يكن يبشر بخير، لكنها المرة الأولى التي لا يُعرف فيها مسبقاً من هو الرئيس القادم.
تجاوزت نسبة المشاركة في الرئاسيات حاجز 30% التي كانت السلطات تتأمله كحد أدنى، رغم أن الدستور لا يحدد أي نسبة لاعتماد نتائج الانتخابات، في حين توقع كثيرون ألا تتعدى هذه النسبة 20%.
انتخابات على وقع الانقسام
لم تكن أجواء الانتخابات مثالية ولا حتى ملائمة في بعض المناطق، في ظل انقسام حاد بين الجزائريين، بين مؤيد ومعارض لإجرائها، وصل إلى حد التخوين المتبادل، بل واستعمال العنف من طرف البعض لإفشال الانتخابات، حيث تم حرق مركز السلطة الوطنية للانتخابات بولاية البويرة (وسط)، وإلغاء الانتخابات في ولايتي بجاية وتيزي وزو بمنطقة القبائل (وسط)، بعد تعذر إجرائها، ومظاهرات معارضة لتنظيم الانتخابات بعدة مدن بينها العاصمة الجزائر.
كل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر، لم تمنع أكثر من 9 ملايين و747 ناخباً من التوجه لصناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، أو ما يمثل 41.13% من الناخبين في الداخل، من إجمالي أكثر من 24 مليون ناخب مسجل، لكن النسبة الإجمالية للمشاركة بلغت 39.83%، بعد الأخذ في الحسبان انتخابات الجالية الجزائرية في الخارج والتي كانت جد ضئيلة ولم تتعد 8.69% من إجمالي أقل من 915 ألف ناخب مسجل.
وبالمقارنة مع آخر انتخابات أجريت في 2017 (برلمانية) والتي بلغت نسبة المشاركة فيها 36%، فإن الانتخابات الرئاسية شهدت ارتفاعاً طفيفاً بنحو 4%.
لكن إذا قارنا المشاركة في هذه الانتخابات بآخر رئاسيات أجريت في 2014، والتي بلغت نسبتها 51.7%، نجد أن الفارق يصل لنحو 12%، وهي النسبة التي يمكن أن نقول (مع الكثير من التحفظ) إنها تمثل الذين استجابوا لنداء المقاطعة، على اعتبار أن قرابة نصف الجزائريين لا يشاركون في الانتخابات لأسباب كثيرة أبرزها اللامبالاة ورتابة العملية الانتخابية.
الأوراق الملغاة تتدحرج إلى المرتبة الثالثة
جزء كبير من الناخبين وقفوا في المنطقة الوسطى بين المشاركين والمقاطعين، حيث يفضلون التصويت بورقة بيضاء، لاقتناعهم بالانتخابات دون أن يقنعهم المرشحون، وبعضهم يعتقد واهماً أن بطاقة الانتخاب تأخذ بعين الاعتبار في استخراج الوثائق الإدارية أو في توزيع المساكن وأسباب أخرى.
وبلغ حجم الأوراق الملغاة أكثر من مليون و243 ألفاً بزيادة تقدر بـ111 ألف ورقة تصويت ملغاة عن رئاسيات 2014.
وبمقارنة عدد الأوراق الملغاة مع عدد الأصوات المحصل عليها للمرشحين الخمسة، نجد أنها تمثل "القوة السياسية" الثالثة، بعد كل من المرشحين الرئاسيين عبدالمجيد تبون (4 ملايين و945 ألفاً) وعبدالقادر بن قرينة (مليون و477 ألفاً)، وقبْل علي بن فليس (897 ألف صوت)، وعز الدين ميهوبي (617 ألف صوت) وعبدالعزيز بلعيد (566 ألفاً).
وفي رئاسيات 2014، جاءت الأوراق الملغاة في المرتبة الثانية بين 6 مترشحين، قبل أن تتراجع إلى المرتبة الثالثة في رئاسيات 2019، ما يعكس جدية وثقل المنافس الثاني للفائز بالانتخابات الأخيرة.
تبون ينجو من "التصفية السياسية"
لأول مرة تجرى في الجزائر، انتخابات لا يكون فيها "مرشح السلطة" معروفاً بشكل حاسم، ولم يكن أحد جازماً من سيفوز بكرسي الرئاسة.
عندما ترشح عبدالمجيد تبون، مستقلاً، وهو العضو القيادي في حزب جبهة التحرير الوطني، صاحب الأغلبية البرلمانية (حزب بوتفليقة)، توجهت الأصابع نحوه باعتباره مرشح السلطة، لكن الأمر اختلف بعد ذلك.
تعرّض تبون، خلال الحملة الانتخابية، لعدة ضربات سياسية، أوحت للناس بأن أجنحة مؤثرة في السلطة لا تريده رئيساً، أولها استقالة مدير حملته الانتخابية، الدبلوماسي المخضرم عبدالله باعلي، تلاها تعرّضه لهجوم عنيف من شبكة إعلامية محسوبة على دوائر في الحكم.
وقبل أيام قليلة من الانتخابات، تم عرض قضية نجل تبون على العدالة، في توقيت حساس ولا يبدو بريئاً، ما أوّله البعض على أنه محاولة من جهات مؤثرة في دواليب الحكم لـ "اغتياله سياسياً".
لكن القطرة التي أوحت للرأي العام بأن الجهة "المجهولة" التي تسعى لصناعة الرئيس القادم، بحسب مراقبين، تريد إزاحة تبون من طريق مرشحها؛ هو إعلان حزب جبهة التحرير الوطني، تأييده لمرشح التجمع الوطني الديمقراطي (القوة الثانية في البرلمان) عز الدين ميهوبي، وانسحاب عدد من مناضلي جبهة التحرير وقياداته من الحملة الانتخابية لتبون، ما اعتبر نهاية حتمية لطموح الأخير في الوصول إلى قصر الرئاسة بالمرادية.
لكن بالمقابل نشطت صفحات مؤيدة لتبون بشكل كثيف على شبكات التواصل الاجتماعي، كما أن قاعدة جبهة التحرير وحتى بعض قياداته بقيت متمسكة به حتى بعدما خسر صفة "حصان السلطة الأول".
كما أن موقفه القوي بشأن محاربة الفساد، زاد في شعبيته، خاصة أنه قدم نفسه كأحد ضحايا لوبيات المال الفاسد عندما أقيل من رئاسة الوزراء في 2017، قبل أن يُتم ثلاثة أشهر فقط في هذا المنصب.
وردّه الواثق بقدرته على استرجاع المال المنهوب في البنوك الأجنبية، خلال المناظرة الرئاسية، رفع أسهمه لدى الرأي العام، خاصة أن بعض منافسيه لم يكونوا حاسمين في هذه المسألة.
ولعب حياد المؤسسة العسكرية، ونزع سلطة إدارة العملية الانتخابية من وزارتي الداخلية والعدل ومنحها لسلطة مستقلة، دوراً جوهرياً في فوز تبون برئاسة الجمهورية، ومن الدور الأول بنسبة 58.15% بفارق 3 ملايين ونصف مليون صوت عن أقرب منافسيه.
مرشح "السلطة" يخسر لأول مرة
بعد أن حظي بدعم أكبر حزبين موالين للسلطة، أصبح يُنظر لعز الدين ميهوبي، على أنه "مرشح السلطة الخفي"، خاصة أنه لم يتعرض لهجوم "القوى الخفية"، مثلما حدث لرئيسي الحكومة السابقين، تبون وعلي بن فليس.
فبن فليس الذي ترشح للمرة الثالثة للرئاسيات، أصدرت النيابة العامة بالعاصمة بياناً عن "عضو" في حملته الانتخابية متهم بالتخابر من جهات أجنبية، ما أدى إلى "ذبحه سياسياً" قبيل 3 أيام من الاقتراع، ما لعب دوراً جوهرياً في هزيمته وتدحرجه إلى المرتبة الثالثة بعدما كان يحل دائماً ثانياً، إثر حصوله على نسبة 10.55%.
كان الطريق ممهداً أمام ميهوبي نحو قصر الرئاسة، بعد أن بدا أنه تم إزاحة أكبر منافسين رئيسيين في طريقه، لكن هذه الشخصية المثقفة والهادئة تعرضت لهجمات متتالية من المرشحين المنافسين وأقساها تلك التي صدرت من صفحات بشبكات التواصل الاجتماعي، أعادت تذكير الناس بترميم تمثال المرأة العارية بولاية سطيف (شرق) عندما كان وزيراً للثقافة، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية، ناهيك عن اتهامه بالإنفاق ببذخ لدعوة فنانات وفنانين أجانب لإحياء سهرات فنية بالجزائر.
كما حاولت عدة أطراف ربط ميهوبي بنظام بوتفليقة أو ما يسمى "العصابة"، وترويج دعايات أنه سيطلق سراح الشخصيات الفاسدة المسجونة حالياً بمجرد وصوله للسلطة.
إشاعات قاتلة وسهام مسمومة وُجهت لميهوبي، أردت به إلى المرتبة الرابعة وما قبل الأخيرة وبنسبة 7.26% من الأصوات فقط، كان سقوطا حراً ومدوياً لمرشح كان يوصف بأنه "المفضل" لدوائر في الحكم.
مرشح الإسلاميين يُحدث المفاجأة
ترشحُ عبدالقادر بن قرينة إلى الرئاسيات كان في حد ذاته مفاجأة، لكن المفاجأة الثانية تمكنه من تجاوز عقبة 50 ألف توقيع ليصبح مرشحاً رسمياً.
فلم يكن بن قرينة من الشخصيات الإسلامية ذات الكاريزما، ولم يُعرف عنه قوة الخطابة، كما أنه ينتمي إلى حركة البناء الوطني، الحزب الصغير المنشق عن حركة مجتمع السلم (أكبر حزب إسلامي)، وعرف خلال حملته الانتخابية بتصريحاته المثيرة للجدل، ما جذب نحوه الأضواء.
لكن البروز الحقيقي لبن قرينة كان خلال المناظرة الرئاسية، التي ظهر فيها قوياً وذا طرح منطقي ومؤيد لمطالب الحراك الشعبي، ما رفع شعبيته، وفي آخر تجمع له بولاية ورقلة (مسقط رأسه/جنوب) استطاع جمع المئات وربما الآلاف من أنصاره في ساحة عامة، في حين كان أغلب المرشحين ينظمون تجمعاتهم في قاعات مغلقة وتحت حراسة أمنية مشددة لتجنب الاصطدام بالمتظاهرين الرافضين للانتخابات.
وشجاعته تلك في مواجهة الحراكيين رفعت من أسهمه في نظر الناخبين، كما أنه المرشح الوحيد للإسلاميين، وجغرافياً يُعد المرشح الوحيد أيضاً القادم من الجنوب، وكل هذه العوامل ساهمت في حصوله على المرتبة الثانية خلف تبون بـ17.38% من الأصوات أو ما يقارب مليون ونصف مليون صوت.
أما عبدالعزيز بلعيد، رئيس جبهة المستقبل، الذي حلّ في المرتبة الأخيرة بـ6.66% من الأصوات، فحصوله على هذه المرتبة كان متوقعاً بالنظر إلى حجم منافسيه في هذه الانتخابات، رغم أنه احتل المرتبة الثالثة في انتخابات 2014، لكن نسبة المصوتين له تضاعفت (حصل على 3.36% من الأصوات في رئاسيات 2014).