غامبيا دولة إفريقية صغيرة يزيد عدد سكانها قليلاً على مليوني نسمة، أغلبهم من المسلمين، احتلت مؤخراً عناوين الأخبار الدولية بعد أن قدمت شكوى أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد ميانمار، متهمةً إياها بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق أقلية الروهينغا المسلمة، فكيف بدأت القصة؟ ولماذا غامبيا تحديداً؟
كيف بدأت القصة؟
في مايو/أيار 2018، كان يُفترض أن يحضر وزير خارجية غامبيا الاجتماع السنوي لمنظمة التعاون الإسلامي في بنغلاديش، لكنه اعتذر باللحظات الأخيرة وأرسل بدلاً منه وزير العدل أبوبكر تامبادو، الذي يشغل أيضاً منصب النائب العام في غامبيا منذ 7 فبراير/شباط 2017.
وفي أثناء حضوره اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي على رأس وفد بلاده، استمع تامبادو إلى قصص حول مأساة الأقلية المسلمة "الروهينغا" في ميانمار المجاورة لبنغلاديش، وذلك ضمن مناقشة مشكلة اللاجئين، وزار مع وفد من المنظمة معسكر كوكس بازار للاجئين من الروهينغا، حيث هرب نحو مليون شخص من الجرائم التي يرتكبها جيش ميانمار بحقهم.
في المعسكر استمع تامبادو لعشرات القصص التي أعادت إليه ذكريات مؤلمة، حيث استمع لقصص مشابهة وقعت أحداثها الأليمة قبل أكثر من ربع قرن، لكن ليس في بنغلاديش ولا ميانمار ولا حتى قارة آسيا.
ما علاقة مذابح رواندا بالقصة؟
أبو بكر تامبادو، الشهير في غامبيا ببا تامبادو، كان يعمل محامياً وانضم إلى المحاكمة الجنائية الدولية الخاصة بجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في رواندا والتي وقعت أحداثها عام 1994، بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، وهزت العالم وقتها.
عمِل تامبادو مساعداً للمدعي العام بالقضية في الفترة من 2012 وحتى 2016، قبل أن يتولى منصبه الحالي وزيراً للعدل ونائباً عاماً. وخلال تلك الفترة استمع إلى مئات الشهادات من الناجين من المذابح في رواندا، لذلك عندما استمع إلى شهادات الفارين من جحيم ميانمار من الروهينغا، أدرك أنه أمام جرائم إبادة جماعية دون شك.
وهذا ما عبر عنه تامبادو في مقابلة تلفزيونية بعد عودته إلى العاصمة الغامبية بانغول عقب انتهاء اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي في بنغلاديش: "لقد رأيت الإبادة الجماعية واضحة دون شك، من خلال تلك القصص التي استمعت إليها"، فتلك القصص شملت -حسب الفارين- حرقاً للأطفال وهم أحياء واغتصاباً للنساء وقتلاً للرجال.
وهكذا بدأت قصة تامبادو مع مأساة الروهينغا
في ذلك الوقت كانت حكومة ميانمار وزعيمتها أونغ سان سو، تشي الحاصلة على جائزة نوبل والتي حظيت يوماً باحترام العالم، لكونها كانت ضحية للاغتصاب والتعذيب على أيدي العسكر، ينفون ارتكاب أي جرائم، ويبررون ما يقوم به الجيش هناك بأنه استهداف لعناصر مسلحة تطالب بانفصال الإقليم.
لكن تامبادو -الذي كان واثقاً بأن ما سمعه من الفارين من ميانمار بذلك المعسكر للاجئين في بنغلاديش لا يمكن أن يكون من وحي الخيال- قدَّم مشروع قرار إلى منظمة التعاون الإسلامي، يطالب بإنشاء لجنة تابعة للمنظمة؛ لفحص الادعاءات المتعلقة بالجرائم المرتكبة بحق الروهينغا.
استعانت تلك اللجنة بشهادات اللاجئين في بنغلاديش وبتقارير الأمم المتحدة حول جرائم جيش ميانمار بحق الروهينغا، وهذا العام أقنع منظمة التعاون الإسلامي بدعم غامبيا لتتقدم بشكوى رسمية إلى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة ومقرها لاهاي ضد ميانمار، وهو ما وضع الدولة الإفريقية الصغيرة تحت الأضواء عالمياً؛ لتصدِّيها لإنقاذ الأقلية المسلمة التي تعرضت -ولا تزال- لواحدة من أكثر الجرائم الإنسانية مأساوية في العقدين الأخيرين.
ماذا قال تامبادو أمام المحكمة؟
وأمام محكمة العدل الدولية، الثلاثاء 10 ديسمبر/كانون الأول، افتتح تامبادو كلمته بعبارة: "كل ما يتطلبه انتصار الشر هو أن يقف الخير مكتوف الأيدي لا يفعل شيئاً"، مضيفاً أنه يتعين على قضاة محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة التحرك لوقف الإبادة الجماعية الجارية لأقلية مسلمي الروهينغا في ميانمار.
"إن كل ما تطلبه غامبيا هو أن تقولوا لميانمار أن تكفَّ عن أعمال القتل الغاشمة تلك، أن توقف هذه الأفعال الهمجية والوحشية التي أفزعت -وما زالت تفزع- ضميرنا الجماعي، أن توقف هذه الإبادة الجماعية لمواطنيها".
وانتهت الخميس 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، جلسات محكمة العدل الدولية، وشهدت الجلسة الختامية إنكار سو تشي، زعيمة ميانمار، اتهامات الإبادة الجماعية، في حين تهيمن على ثلاثة من الضحايا من الروهينغا، يجلسون وراء الزعيمة الفائزة بجائزة نوبل للسلام، حالة من الغضب وعدم تصديق ما يسمعونه.
صدفة كانت مستحيلة قبل ثلاث سنوات
اللافت هنا أن غامبيا ولمدة أكثر من عشرين عاماً، كانت تحت حكم الديكتاتور يحيى جامو، الذي اعتقل وعذَّب كل من تجرأ على انتقاده، ولا تزال جرائمه التي تشمل ادعاءات بالاغتصاب أيضاً تطارده، بحسب لجنة كشف الحقائق، التي لا تزال تواصل عملها حتى اليوم.
لكن في عام 2016 وبصورة غير متوقعة، خسر جامو الانتخابات الرئاسية وهرب إلى خارج البلاد، ليتولى زعيم المعارضة، أداما بارو، رئاسة البلاد ويعِد باستعادة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وتولى تامبادو حقيبة العدل بجانب منصب النائب العام في البلاد، ولولا تلك التطورات الدرامية ربما لم تكن مأساة الروهينغا ستصل إلى محكمة العدل الدولية.
أما تامبادو فهو من مواليد 1972 ويبلغ من العمر 47 عاماً، ووالده رجل أعمال، ودرس القانون في بريطانيا، وعاد إلى غامبيا نهاية التسعينيات ليعمل محامياً.
ويقول تامبادو: "لقد علَّمتنا 22 عاماً من الديكتاتورية الوحشية كيف نستخدم صوتنا للدفاع عن الحق، فنحن ندرك جيداً مدى صعوبة ألا تكون قادراً على توصيل صوتك للعالم، أو أن تكون غير قادر على أن تطلب المساعدة".