في الوقت الذي يودع الشرق الأوسط عام 2019، ويرحب بالعام الجديد، فإن شعوب المنطقة تكاد لا تجد شيئاً جديراً بالاحتفال به. إذ ينظر الشباب والكبار إلى العام المقبل بنظرةٍ ملؤها الخوف، وحالة متنامية من انعدام اليقين، وافتقارٍ شديد إلى الثقة في قادتهم ومؤسساتهم الحاكمة، سواءً أكانت الاقتصادية أم السياسية أو الاجتماعية.
يقول إميل نخلة، أستاذ وباحث أكاديمي، وعضو مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، في مقالة نشرت بموقع Responsible Statecraft الأمريكي، إن العقود الاجتماعية التي قامت عليها الكيانات السياسية، من دول ودويلات على حد سواء في القرن الماضي، أخذت تضمحل إلى مآلها الطبيعي. وما انفكت عوامل مثل تناقص موارد الدولة والفساد المستشري، تدفع المجتمعات الإثنية والدينية المتنوعة التي سبق أن تعاونت، ولو على مضض، في ظل الهياكل السياسية المهيمنة في القرن العشرين، باتجاه العودة إلى انقساماتها التقليدية وأزمنة التصدع الناجمة عن القبلية السياسية والعصبيات الطائفية المدمرة.
التشبث بالسلطة بكافة الوسائل
وها هم الزعماء الذين تكلفوا سابقاً، ولو على مستوى الخطاب، الدعوة إلى استيعاب الجميع وتقاسم السلطة بينهم قد باتوا يتخلون عن جميع مزاعمهم السابقة بالخضوع لسيادة القانون، وعمدوا، بدلاً من ذلك، إلى سياسات ترتكز حول شخوصهم وهدفها الوحيد إبقاؤهم في السلطة.
وأصبح الحكام من رجال السياسة الأقوياء وزعماء القبائل والملوك ورؤساء الدول المنتخبين، أكثر استعداداً من أي وقت مضى لاستخدام جميع أدوات الدولة المتاحة لديهم للبقاء في السلطة، رغم العوائق القانونية وأمد سيطرتهم الطويل على السلطة في تلك البلاد. على مدى عقود سابقة، كان القادة ينتظرون من شعوبهم إعلان ولائهم وانتمائهم إلى أنظمتهم، في مقابل توفير الأمن الشخصي والاستقرار الاقتصادي، غير أن العقد الاجتماعي القائم على مقايضة الحماية مقابل الولاء للنظام، والذي عمل بفعاليةٍ لعقود طويلة، أخذ يتفسّخ حتى لم يكد يبقى منه شيء.
التنفع من الفساد بلا خجل
كانت الجشع والفساد والقمع والمحسوبية والتحكم في وسائل الإعلام أدوات الحكام الأثيرة لتعزيز سيطرتهم وفرضها على مجريات الحياة. وسمحوا لمجالس الوزارات وأعضائها بالعمل ما داموا متملقين وخاضعين ومطيعين للأوامر. وهكذا أخذ عدد لا يحصى من كبار المسؤولين ينتفع بلا خجل من الفساد واسع النطاق الذي مارسه الحكام.
ظل الحكام ومقرّبوهم يكدّسون مليارات الدولارات من خلال وسائل مشبوهة، وفرّقوها على بنوك أجنبية وحسابات مصرفية سرية في جميع أنحاء العالم. ومع أن ذلك النوع من الفساد ظل لسنوات طويلة مقتصراً في معظمه على عدد قليل من الأشخاص في القمة وشمل مبالغ صغيرة نسبياً، فإن فساداً هائلاً أخذ يسود خلال العقد الماضي ويهيمن على الأنظمة السياسية من أقوى حاكم إلى أدنى وزير.
عندما خرج آلاف من الناس إلى الشوارع احتجاجاً على هذا الفساد المستشري، والفجوة المتعاظمة بين الأغنياء والفقراء ومعدلات الفقر المتزايدة، فما كان من الأنظمة في العراق وإيران والسعودية وغيرها إلا أن عمدت إلى إراقة الدماء واستعمال أساليب وحشية في مواجهة المحتجين. وقد ظلت الاحتجاجات في لبنان سلمية حتى الآن، غير أنها نقطة مضيئة وسط ظلمات الفوضى المهيمنة.
أخذت الأنظمة الساعية إلى خنق المعارضة توسّع من نطاق حملاتها القمعية لتشمل مدوّنيين ومراسلين وناشطين بوسائل التواصل الاجتماعي ومعارضين سلميين، على امتداد الطيف السياسي والاجتماعي. وشهدت احتجاجات إيران، على سبيل المثال، مقتل مئات من المحتجين، في أسوأ أعمال عنف منذ قيام الجمهورية الإسلامية قبل 40 عاماً. كذلك كانت عملية القتل البشعة لجمال خاشقجي على يد النظام السعودي مثالاً آخر على المدى الهائل الذي بلغه قمع النظام.
يقع الاختلال المفزع في مستويات الثروة بين الأغلبية الفقيرة العاطلة عن العمل والمفتقرة إلى الوظائف وبين أصحاب الملايين والمليارات في تلك البلدان، من لبنان إلى مصر، في صميم تلك الاحتجاجات الجماهيرية المستمرة. وتبرز الأوضاع في لبنان والعراق وإيران حالتي الهياج وانعدام اليقين اللتين تتوغلان، وما ينجم عنها من زعزعة أركان المنطقة.
هياكل حكومية متهالكة في لبنان
يعج لبنان، الذي يعد دولة على وشك الإفلاس، بعشرات من أصحاب الملايين والمليارات. ومع ذلك، فإن الخدمات العامة في حالة ترد، والقمامة متراكمة في زوايا الشوارع، والغالبية العظمى من اللبنانيين لا يعرفون إذا كان بإمكانهم توفير الوجبة التالية لأبنائهم. علاوة على ذلك، يعاني الهيكل الإداري في البلاد حالة شلل كاملة، وقد امتنعت الأجهزة الأمنية حتى الآن عن قتل المواطنين، لكن الحكومة إلى جانب الرئيس ميشال عون ورئيس الوزراء السابق سعد الحريري يفتقرون إلى الإرادة والسلطة والرؤية اللازمة لمعالجة القضايا الحرجة. وقد أخذ هؤلاء القادة يثبتون فشلاً كبيراً في تقديم ولو بصيص أملٍ إلى مواطنيهم.
ويظل حزب الله طرفاً ماكراً، لكنه ذو ثقل كبير في لبنان. ويستبد القلق بهيكل السلطة الشيعي، ممثلاً بحزب الله وحركة أمل وإيران، من إن تهدد مطالب المحتجين نفوذهم القائم في البلاد. في حين يتجاهل الحزب الخطرَ الوجودي الذي يواجه البلاد إذا سُمح للوضع الحالي بالتفاقم أكثر من ذلك. إذ تبعاً لهذا السيناريو، يمكن للبنان بوصفه كياناً سياسياً قائماً على الاعتراف بكافة الطوائف أن يتفكك وتتشظى صورته الحالية، ومن ثم ينقطع عن الوجود بوصفه دولة.
يجد حزب الله نفسه في مأزق كبير. فالأصوات الشعبية التي تدين الفساد وسياسات المحسوبية القائمة على العلاقات الشخصية، والتي لطالما شارك حزب الله فيها واستفاد منها على مر السنين، هي من ترسم الآن حقبة جديدة للبنان. ولن يعود هناك مجال للتسامح مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، باعتباره صانع الملوك المترفّع للقيادة السياسية اللبنانية، سواء أكان رئيساً مارونياً أم رئيس وزراء سنياً. إذ يجب أن يخضع حزب الله للمحاسبة، مثله مثل بقية الأحزاب والحركات السياسية، ولا بد أن تصبح آلياته العمل السياسي لديه أكثر شفافية.
إذا كانت الجهات الفاعلة الرئيسة، ومن ضمنها صندوق النقد الدولي، مهتماً بتحقيق الاستقرار في لبنان، يجب عليها إنشاء آليات صارمة فيما يتعلق بالمساءلة والشفافية، والتي يتعين أن تحكم جميع صانعي السياسات الرئيسيين في مستقبل لبنان. كذلك يجب أن تشمل تلك الآليات فرضَ قيودٍ صارمة على التمويل والمعاملات المصرفية والودائع الكبيرة في البنوك الأجنبية، والسفر إلى الخارج. ينبغي أيضاً وضع حدٍّ لعدد من قادة لبنان الحاليين، بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو الدينية، فيما يتعلق بسياسات المحسوبية التي ينتهجونها في توزيع الوظائف والمشروعات. كما يجب حظرهم من المشاركة في المشروعات الاقتصادية المستقبلية حتى يثبتوا خلو ثرواتهم من الشبهات.
هيمنة العنف في العراق
على نحو مناقض، أخذ العراق يشهد مقتل عشرات المتظاهرين في الشوارع. لدرجة أن آية الله العظمى على السيستاني، أقوى زعيم شيعي في البلاد، شجب ردود الفعل الدموية من جانب النظام على المتظاهرين، ودعا إلى انتخاب رئيس وزراء جديد. تبع ذلك تقديم رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي لاستقالته، والتي اعتبرها المتظاهرون استجابة غير كافية بالنظر إلى أن الاحتجاجات شهدت مقتل آلاف. على الجانب الآخر، يمثل موقف السيستاني تحدياً كبيراً لإيران التي لها مصلحة استراتيجية فيما يتعلق بتأمين تواجدها في العراق.
يشكّل العراق من وجهة النظر الإيرانية تحدياً أشد خطورة لطموحات إيران وهيمنتها، وأكثر من هيمنتها على لبنان. إذ إن التهديد العراقي تهديد استراتيجي وسياسي وديني. علاوة على أن العراق يشارك إيران حدوداً ممتدة ذات أهمية حاسمة عبر مصب شط العرب، من عبادان جنوب غرب إيران إلى الحدود الكويتية، والتي تستخدمها إيران ممراً لشحن النفط وغيرها من الأنشطة التجارية.
وقد أخذت إيران تعتمد لفترة طويلة على فصائل وميليشيات عراقية موالية لها لتوطين مصالحها وتعزيز نفوذها في العملية الانتخابية واختيار القادة السياسيين. ولا جرم أن الاحتراق الأخير للقنصلية الإيرانية على يد المتظاهرين المناهضين في النجف، قلب الإسلام الشيعي، كان له وقع ضربة هائلة على النظام الإيراني.
من الناحية السياسية، هزت الاحتجاجات العراقية النظام في إيران. وأصبح مقتدى الصدر والآلة السياسية التابعة له المعروفة باسم التيار الصدري، الذي كان يدعم عادة أهداف إيران الاستراتيجية في العراق، أكثر خيبة أمل إزاء "الهيمنة الإمبريالية" الإيرانية في العراق وأصبحا الآن أكثر حزماً في التأكيد على القومية العراقية. وقد صرح الصدر علانية بأنه لن يشارك في اختيار حكومة ما بعد عبدالمهدي. وأيد أيضاً كفاح المحتجين لتحقيق "حقوقهم المشروعة".
ومن الناحية العقائدية، كانت لإيران مصالح وسيطرة كبرى في العراق لأن مدينتي النجف وكربلاء العراقية هما قلب الإسلام الشيعي. وأنتجت المدارس الدينية أو ما تعرف بـ"الحوزة العلمية" في العراق بعضاً من أبرز علماء الدين الشيعة في العالم الشيعي. وبسبب القيود التي فرضها صدام حسين على الدراسات الدينية الشيعية في النجف وكربلاء، ذهب الكثير من طلاب الدين والعلماء لدراسة العلوم الدينية في مدينة قم بإيران. إن هذا الخط المستقل الذي يبدو أن السيستاني يميل إليه يجب أن يكون مقلقاً لآيات الله في إيران.
الغضب أكثر وفرة من النفط في إيران
إن الاحتجاجات الإيرانية الحاشدة والرد الدامي من النظام هو مثال آخر على الفوضى الحالية في الشرق الأوسط الكبير والانقسام المتزايد بين الحكام والمحكومين. وخلافاً للثورة الخضراء عام 2009، عندما تظاهر الآلاف من الشباب الإيراني مطالبين بالحرية والكرامة والديمقراطية، استهدفت الاحتجاجات الحالية في الشوارع الحياة الاقتصادية المتدهورة في البلاد، وتزايد الفقر والبطالة، وارتفاع التضخم. فقد كانت الزيادة الكبيرة في سعر البنزين هي المحفز الذي أشعل الاحتجاجات الجماهيرية، لكن الغضب الشعبي في إيران من النظام أعمق بكثير من ارتفاع الأسعار.
لم تشكك ثورة الشباب عام 2009، على الأقل علانية، في طبيعة النظام الثيوقراطي في إيران. فقد طالب الشباب بالحريات تحت مظلة الجمهورية الإسلامية. لكن أكثر ما يثير قلق النظام في حركة الاحتجاج الحالية هي الأصوات الهادئة نسبياً ولكن رغم ذلك مسموعة لتغيير النظام من الداخل.
ومثل ما يحدث في لبنان، يرى المحتجون في إيران أن نظام الحكم الديني هو سبب الفساد، وانعدام الكفاءة، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية السيئة. لكن على عكس ما يجري بلبنان، فقد فتحت قوات الأمن في إيران، الخاضعة لسيطرة الحرس الثوري وقوة القدس التابعة له، النار على المتظاهرين وقتلت مئات الأشخاص. ولا يزال الجيش اللبناني، كمؤسسة، يتمتع بدرجة عالية من الدعم الشعبي لاحترافيته ونزاهته وصدقه ولقدرته على التسامي عن الانقسامات الطائفية.
وعلى النقيض من المظالم الشعبية، فقد استفادت المؤسسة وبعض كبار أعضاء الحرس الثوري مالياً من النظام من خلال الشركات والصفقات التجارية حتى في ظل نظام العقوبات المعوقة. وهذا قد يفسر سبب قتل الأجهزة الأمنية مواطنيها دفاعاً عن نظام غير كفء وفاسد وقمعي.
الطريق نحو المستقبل
إن عجز الأنظمة وعدم رغبتها في معالجة مطالب شعوبها المشروعة، والتنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والحرية، كل هذا من شأنه أن يدفع المنطقة إلى مزيد من الاضطراب وعدم اليقين. وعندما تضيف إلى ذلك القمع المستمر في بلدان أخرى، مثل المملكة العربية السعودية ومصر والبحرين، إلى جانب ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، فإن الشرق الأوسط يجد نفسه في وضع سيئ.
ولا يزال شبح الإرهاب يطارد المنطقة. إن حادث إطلاق النار الذي وقع مؤخراً في قاعدة الطيران البحري في بينساكولا بفلوريدا على يد مواطن سعودي يُعتبر مؤشراً آخر على أن الإرهاب لا يزال يمثل صادرات إقليمية مميتة. إن الكتب الدراسية السعودية بالإضافة إلى كتيبات التدريبية، بما في ذلك تلك الخاصة بالجيش، تنشر أيديولوجية متعصبة تجاه الأديان الأخرى والمسلمين الآخرين، وخاصة الشيعة، الذين لا يلتزمون بالمذهب الوهابي السلفي.
وبالنظر إلى أن الأنظمة السياسية في العديد من بلدان المنطقة تخلو من الأفكار والاستراتيجيات الإبداعية للمستقبل، فقد حان الوقت لشعوب المنطقة أن تحذو حذو اللبنانيين وأن تطالب بطرد جميع السياسيين الفاسدين من الحكومة واستبدالهم بنظام جديد يكون فيه المواطنون مشاركين فعالين. ولابد أن يكون مثل هذا النظام خاضعاً للمساءلة وشفافاً وديمقراطياً. ولا بد أن ينصب تركيز النظام الجديد على الأمن الشخصي والرفاهية الاقتصادية للمواطنين. لن ينجح أي شيء أقل من هذا على المدى الطويل.